الجمعة ١٢ تموز (يوليو) ٢٠٢٤
بقلم حسني التهامي

الحدث

ترجمات

الهايكو وامبراطورية العلامات (رولان بارت)

(3) الحدث

يُحوّل الفن الغربي "الانطباع" إلى وصف، في حين أن الهايكو ليس وصفا؛ إنه فن الوصف المعكوس، لدرجة أن حالة الشيء تتحول سريعا، وبشكل جامح، إلى جوهر هش للمظهر: لحظة "هاربة" يتحول الشيء خلالها - على الرغم من كونه مجرد لغة – إلى خطاب، وينتقل من لغة إلى أخرى ويغدو مجرد ذاكرة لهذا المستقبل. ليس الحدث في الهايكو هو الشائع فحسب:

(رأيت أولى حبات الثلج:

هذا الصباح نسيت أن
أغسل وجهي)

لكن أيضا كل ما يصادفنا من مواهب كالرسم والصور المصغرة (تلك الأشكال شائعة بكثرة في الفن الياباني) كهذا النص لشيكي:

ثوْر على متن
قارب صغير يعبر النهر
تحت أمطار المساء

هنا يصبح هذا النص أو هو بالفعل عمل فني خاص ومتكامل يمنحنا (كما تضع الزن ملمسها على أي شيء سواء أكان تافها أم ذا قيمة) طيةً خفيفةً بملمسها الخاطف تتجعد صفحة الحياة وحرير اللغة. يمتلك الوصف، ذلك الأسلوب الغربي، معادلا دينيا حال التأمل، مثال ذلك، الجرد المنهجي للأشكال الوصفية للألوهية أو لحلقات السرد الإنجيلي (تحديدا في إغناطيوس لويولا، حيث تمارين التأمل وصفية في الأساس). على النقيض، يتناول الهايكو ما وراء الطبيعة بعيدا عن المواضيع الدينية، فنراه يتوافق مع آراء البوذي مو ومع ساتوري الزن، الذي لا يعني استلهام النور الإلهي على الإطلاق، ولكنه " الوعي بالحقيقة" وفهم الشيء كحدث وليس كجوهر، وهو بمثابة الوصول إلى ذلك الشاطئ الأمامي للغة، والذي يتماس (بعد إعادة تشكيله) مع وهج المغامرة (ما يحدث للغة، عوضا عن الموضوع).

يبدو أن عدد الهايكوات وتشتتها من ناحية، وقصر كل نص وقفلته من ناحية أخرى تقسم وتصنف العالم إلى عوالم لانهائية، وتشكل فضاء من الشظايا البلورية، وغبارا لأحداث، حال الاستغناء عن الدلالة، يستحيل أو لا ينبغي لشيء أن يوقفها أو يحركها أو يوجهها أو حتى يتخلص منها، ذلك لأن الهايكو لا يضع اعتبارا للموضوعات: فالقراءة ليس لها كيان آخر، غير ما يعنيه الهايكو، بانحرافاته اللامتناهية، إنها لاشئ مطلقا سوى أنها قراءة؛ فوفقًا للتصور الذي يفترضه مذهب الهو- يان، يمكن للمرء الاعتقاد بأن البنية العامة لأي نص هايكو هي عبارة عن شبكة من الجواهر تعكس كل جوهرة فيها بقية الجواهر الأخرى، هكذا، إلى ما لا نهاية، دون أن يكون هناك مركز أو نواة للإشعاع (بالنسبة لنا، إن أهم تصور لتأثير هذا الارتداد التلقائي للإشعاع، ولتلك الانعكاسات المجهولة المصدر، هو التصور المعجمي الذي يتم به تعريف المفردة من خلال المفردات الأخرى) .فالمرآة، في تصور الغربيين، كائن نرجسي في الأساس: سطح أملس يرى فيه الإنسان نفسه؛ بينما ينظر إليها أهل الشرق على أنها فارغة؛ إنها رمز للفراغ من أية رمز (" إن عقل الرجل المثالي، يقول أحد معلمي الطاوية، " يشبه المرآة. إنها لا تدرك شيئًا لكنها تقبل كل الأشياء التي تتلقاها دون الاحتفاظ بها): فقط تعترض المرآة مرايا أخرى، وهذا الانعكاس اللامتناهي هو الفراغ ذاته (الذي، كما نعلم، ليس سوى شكل). هكذا يذكرنا الهايكو بما لم يحدث لنا قط؛ فمن خلاله نتعرف على تكرار بدون مصدر، وحدث بلا سبب، وذاكرة بلا إنسان، ولغة بلا مرافئ.

ما أقوله عن الهايكو قد ينطبق على كل ما يحدث أثناء تجوالنا في ذلك البلد الذي يُدعى اليابان. هناك، في الشارع، في الحانة، في المتجر وفي القطار، شيء ما يحدث دائمًا، ذلك الشيء الذي يعد، من الناحية الاشتقاقية، مغامرة – يحتوي على تفاصيل متناهية الصغر: إنه تنافر في الملبس، ومفارقة تاريخية للثقافة، وحرية في السلوك، ولا منطقية في المسارات، إلخ. وإحصاء هذه الأحداث أمر عبثي، لأنها تشع فقط لحظة قراءتها في القصائد المفعمة بالحيوية والتي تتناول تفاصيل الشارع، وسوف لا يتقبلها المتلقي الغربي بشكل تلقائي دون أن يضفي عليها من الأبعاد المتعلقة بالمعنى: وفي الواقع لابد له أن يجعل مادة الهايكو من تلك التفاصيل اليومية التي لم نألفها في أدبنا، وما يمكن لنا أن نضيفه في هذا الصدد هو أن تلك المغامرات المتناهية الصغر (التي يؤدي تراكمها، خلال يوم واحد، إلى حالة أشبه بالثمالة الجنسية) لا تقدم أية عمل تصويري، (فالطابع الياباني لا يأبه بنا، لأنه منحاز لما يشكل خصوصية اليابان، وهو حداثتها)، أو روائي (لا يفسح المجال لثرثرة من شأنها تحويله إلى سرديات أو وصفيات. ما يطرحونه للقراءة ( أنا، في هذا البلد، بمثابة قارئ ولست زائرًا ) هي كتابات أشبه بالسكتة الدماغية المفاجئة، تكون بلا وعي ولا هوامش؛ فكثير من السلوكيات البالغة الدقة ( بداية من طريقة الملبس حتى الابتسام)، والتي نقوم بها نتيجة للنرجسية الغربية الراسخة، هي فقط علامات على الغرور المتضخم لدينا، بينما تصبح هذه السلوكيات، لدى اليابانيين، مجرد طرق لمعايشة وتصوير بعض الأحداث غير المتوقعة في الشارع : لا يدل يقين واستقلالية الإشارة على الذات، لكن على الشكل التصويري للوجود؛ بحيث يكون مشهد الشارع الياباني (أو الأماكن العامة بصورة أشمل ) مليئا بالدهشة، باعتباره نتاجًا لجماليات أزلية، لا يعتمد مطلقا على (هستيريا) الأشخاص، ولكن، مرة أخرى، على تلك المحاولة الأولى للكتابة التي تتسم بالعفوية؛ دون التركيز على التخطيط والمراجعة والتدقيق والتصحيح، وتعكس رؤية الكاتب الإبداعية. تلك المحاولة الأولى لا تعبر عن الوجود، لكنها تتسبب فيه.

"عندما تمشي، يقول أحد معلمي الزن، " كن قانعًا بالمشي، وعندما تجلس، كن راضياً بالجلوس. ولكن، قبل كل شيء، لا تمتعض! ": يقوم بهذه الطريقة، على ما يبدو لي، كل واحد بطريقته الخاصة – راكب الدراجة الشاب الذي يحمل صينية على إحدى ذراعيه، أو البائعة الشابة التي تومئ برأسها في انحناءة شديدة حد الخضوع وكأنها تؤدي طقسا من طقوس العبادة، قبل أن يغادر زبائن المتجر ليصعدوا على سلم متحرك؛

أو يقوم لاعب الباتشينكو بإدخال ودفع واستلام كراته، بإشارات ثلاث متناسقة؛ أو كما اعتاد المتأنق في المقهى بإشاراته المألوفة على فتح مغلف مناديله البلاستيكي (المجهزّ) ليجفف يديه قبل أن يشرب الكوكا كولا: كل هذه الأحداث هي جوهر الهايكو.

ملحوظة: نشر المقال في مجلة البيان العدد 644

ترجمات

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى