الحذف عند البلاغي في تفسیره آلاء الرحمن
– الإعداد: زینب روستائي طالبة دکتوراة في قسم اللغة العربیة وآدابها بجامعه آزاد الإسلامیة فرع علوم وتحقیقات طهران
– الأستاذ المشرف: الدکتور محمود شکیب
– الأستاذ المشرف المساعد: الدکتور أمیر محمود أنوار
الملخص
إن الحذف الذي سماه ابن جني شجاعة العربیة لأنه یشجع علی الکلام، قد شاع في کلام العرب في الشعر والنثر اکتفاء بدلالة المقام، وتوصلا في بعض الموارد إلی غرض ونکتة لا تحصل بدونه وقد أکثر القرآن منه وأجاد فیه بما أثار الإعجاب وأبان سرا من أسرار الإعجاز. تهدف هذه المقالة إلی دراسة الحذف في تفسیر آلاء الرحمن للعلامة البلاغي مصحوبا بمقدمة وتعریف للحذف، ثم تهتم بدراسة الحذف عند البلاغي وأقسامه التي تشمل حذف الأجوبة، حذف المفعول، حذف المبتدا، حذف مخصوص « نعم»، حذف الفعل وحذف المعطوف علیه.
الکلمات الرئیسة: الحذف، البلاغي، تفسیر آلاء الرحمن.
المقدمة
یمثل الحذف ظاهرة بارزة في النسیج الخطابي لللغة العربیة سواء أ کان ذلک علی مستوی النص البشري أم علی مستوی النص الإلهي المعجز، فقد یدعو مقتضی الدلالة المتکلم لأن یحذف جزءا من کلامه لتحقیق غایة ما. حیث یکون الحذف في بعض المواضع الکلامیة أولی من الذکر في بلوغ المراد « فیخرج الکلام به کالذهب المصفی والجوهر المجلو» [1] وکما قال عبد القاهر الجرجاني: «هو فن عجیب الأمر، شبیه بالسحر فانک تری به ترک الذکر أفصح من الذکر، والصمت عن الإفادة أزید للإفادة، وتجدک أنطق ما تکون إذ لم تنطق، وأتم ما تکون مبنیا إذا لم تبن» [2] فالحذف کما قال العلامة البلاغي: «باب من أبواب البلاغة عند العرب» [3].
وإذا کان الحذف یقع في الخطاب البشرط لاستبطان قصدیة مضمونیة معینة فإن وقوعه في التعبیر القرآني له سمة دلالیة أبلغ وتصویر لفظي أسمی جمالیا في بلوغ الداعي منه، إذ لا یرد هذا کله في النص القرآني الکریم إلا محققا غایة سامیة، أو لبلاغة قرآنیة أو مناسبة مقامیة یقتضیها السیاق مع إفادة انتظام لفظي متناسق لأواخر الآي في القرآن الکریم، فبالحذف الذي یحقق الإطلاق، یتحقق إزاءه عدة أمور جمالیة ومقامیة.
لقد خبر الشیخ البلاغي بلاغة القرآن الکریم وتعلم کنهها فأصبحت لدیه دلیلا وحجة (حتی في الرد علی الشبهات) مازجا بین البلاغة واللغة معا، کما في الأمر الرابع من ردوده وآرائه في عملیة جمع القرآن الکریم [4] مستنکرا تعدي الفعل « یفجر» إلی « یفجرک» [5] وکان تعلیقه علی ما ألصقوه بکرامة القرآن المجید، من تلفیق سورتین سماها الراغب في المحاضرات بسورتي القنوت (نحن درسنا هذا المبحث في مقالة «دراسة استدلال العلامة البلاغي في الرد علی روایات التحریف») وما یهمنا هنا هو اعتماده اللغة تارة والبلاغة تارة أخری في القیاس، فقال: «ان هذا الکلام لا یشبه بلاغة القرآن ولا سوقه» [6] ویبدو انه فهم سیاقات النص القرآني وتعمق الدلالات فیه، لذلک جعل اللغة والبلاغة حجة للرد.
إن المتتبع لتفسیر الشیخ البلاغي یجده علی الدوام قد ثبت دعائم حجته التي یروم بالقرآن الکریم، وهذه حقیقة مهمة و مقنعة في آن واحد، وهو ینطلق من فکرته تلک لأنه یری «ان القرآن الکریم مبني علی أرقی أنحاء البلاغة العربیة وتفننها بمحاسن المجاز والإستعارة والکنایة والإشارة والتلمیح، وغیر ذلک من مزایا الکلام الراقي ببلاغته، مما کان مأنوس الفهم في عصر النزول ورواج الأدب العربي وقیام سوقه». [7]
یهتم هذا البحث بدراسة الحذف وأنواعه في القرآن الکریم عند العلامة البلاغي، وذلک انه یری «لا یخفی ان الحذف لما یدل علیه المقام ویرشد وجه الکلام إلی حذفه باب من أبواب البلاغة عند العرب وهو في نثرهم وشعرهم کثیر» [8].
وسیکون البحث في مجال التطبیق الإجرائي، متخذا کتاب آلاء الرحمن میدانا لعرض ما یطمح إلیه بحثنا.
الحذف لغة واصطلاحا
الحذف لغة: الإسقاط، حذف [9] الشيء یحذفه حذفا أي قطعه من طرفه. واصطلاحا: «إسقاط جزء الکلام أو کله لدلیل» [10] وهو اصطلاح یستعمل في أنواع العلوم الأدبیة کالصرف والنحوو البلاغة والعروض.
یقع کلام العلماء [11] في الحذف من وجوه: في فائدته، في شروطه، في أدلته وفي أقسامه.
فمن فوائده التفخیم والإعظام لما فیه من الإبهام، لذهاب الذهن في کل مذهب، وتشوفه إلی ما هو المراد فیرجع قاصرا عن إدراکه فعند ذلک یعظم شأنه ویعلو في النفس مکانه، ومنها طلب الإیجاز والاختصار وتحصیل المعنی الکثیر فی اللفظ القلیل، ومنها زیادة لذة بسبب استنباط الذهن للمحذوف، وکلما کان الشعور بالمحذوف أعسر، کان الالتذاذ به أشد وأحسن، ومنها موقعه في النفس من موقعه علی الذکر ولهذا قال عبدالقاهر الجرجاني: «ما من اسم حذف في الحالة التي ینبغي ان یحذف فیها إلا وحذفه أحسن من ذکره». [12]
فمن شروطه أن تکون في المذکور دلالة علی المحذوف، إما من لفظه أو من سیاقه، وإلا لم یتمکن من معرفته فیصیر اللفظ مخلا بالفهم وذکر ابن الأثیر عن هذا «ان الاصل في المحذوفات جمیعها – علی اختلاف ضروبها– أن یکون في الکلام ما یدل علی المحذوف، فان لم یکن هناک دلیل علی المحذوف فانه لغو من الحدیث لا یجوز بوجه ولا سبب» [13].
دلالة المحذوف إما مثالیة أو حالیة، فالمثالیة قد تحصل من إعراب اللفظ، وذلک کما إذا کان منصوبا فیعلم انه لا بد له من ناصب، وإذا لم یکن ظاهرا لم یکن بد ان یکون مقدرا. والحالیة قد تحصل من النظر إلی المعنی والنظر والعلم، فانه لا یتم إلا بمحذوف وهذا یکون أحسن حالا من النظم الاول لزیادة عمومه. [14]
وأما في أدلته فإذا لا یقام مقام المحذوف شيء یدل علیه، یترک أمر إدراکه إلی القرینة الدالة وفي هذه الحال تستدل علی الحذف بأدلة منها: ان یدل العقل علی الحذف، حیث تستحیل صحة الکلام عقلا إلا بتقدیر محذوف کقوله تعالی « واسأل القریة» [15] فانه یستحیل عقلا تکلم الأمکنة إلا معجزة. ومنها ان تدل علیه العادة الشرعیة کقوله تعالی «إنما حرم علیکم المیتة» [16] فان الذات لا تتصف بالحل والحرمة شرعا، إنما هما من صفات الافعال الواقعة علی الذوات، فعلم ان المحذوف التناول ولکنه لما حذف وأقیمت المیتة مقامه أسند إلیها الفعل وقطع النظر عنه، فلذلک أنث الفعل في بعض الصور کقوله تعالی «حرمت علیکم المیتة» [17].
ومنها ان یدل العقل علی الحذف والتعیین کقوله تعالی «وجاء ربک» [18] أي أمر ربک أو عذابه أو بأسه، لان العقل دل علی أصل الحذف والاستحالة مجيء البارئ عقلا، لان المجيء من سمات الحدوث، ودل العقل أیضا علی التعیین وهو الأمر ونحوه.
ومنها ان تدل العادة علی تعیین المحذوف کقوله تعالی «لو نعلم قتالا لاتبعناکم» [19] لانهم کانوا أخبر الناس بالحرب، فکیف یقولون بانهم لا یعرفونها؟! فلا بد من حذف وتقدیره «مکان قتال» أي انکم تقاتلون في موضع لا یصلح للقتال، ویخشی علیکم منه.
ومنها ان یدل العقل علی أصل الحذف، وتدل عادة الناس علی تعیین المحذوف کقوله تعالی حکایة عن امرأة العزیز«فذلکن الذي لمتنني فیه» [20] فقد دل العقل علی الحذف فیه لان الإنسان إنما یلام علی کسبه، فیحتمل ان یکون التقدیر« في حبه» لقوله « قد شغفها حبا» [21] أو من مراودته لقوله «تراود فتاها عن نفسه» [22] لکن العقل لا یعین واحدا منها بل العادة دلت علی ان المحذوف هو الثاني، فان الحب لایلام علیه صاحبه، لأنه قهره ویغلبه، وإنما اللوم فیما للنفس فیه اختیار، وهو المراودة لقدرته علی دفعها.
ذکر العلماء [23] أقساما من الحذف البلیغ وقد جاء في القرآن أبلغها وألطفها: منها یسمی بالاقتطاع وهو حذف بعض أحرف الکلمة تخفیفا وتسهیلا في الأداء او لرعایة المناسبة وفواصل رؤوس الآي کقوله تعالی «واللیل إذا یسر» [24] قال الرماني: «إنما حذفت الیاء في الفواصل لانها علی نیة الوقف، وهي في ذلک کالقوافی التي لا یوقف علیها بغیر یاء» [25].
ومنها ما یسمی بالاکتفاء، وهو أن یقتضي المقام ذکر شیئین بینهما تلازم وارتباط، فیکتفی بأحدهما عن الآخر لنکتة، واختص غالبا بالارتباط العطفي کقوله تعالی «بیدک الخیر» [26] أي والشرو إنما خص الخیر بالذکر لأنه مطلوب العباد ومرغوبهم، أو لأنه أکثر وجودا في العالم، أو لأن إضافة الشر إلی الله تعالی لیس من باب الآداب.
ومنها ما یسمی بالاحتباک: وهو من ألطف الأنواع وأبدعها وسماه الزرکشي [27] في البرهان الحذف المقابلي وهو ان یحذف من الأول ما أثبت نظیره في الثاني، ومن الثاني ما أثبت نظیره في الأول کقوله تعالی «ومثل الذین کفروا کمثل الذي ینعق بما لا یسمع إلا دعاء ونداء» [28] أي ومثل الذین یدعون إلی الحق مع الذین کفروا کمثل الذي ینعق، والذي ینعق به.
ومنها ما یسمی بالاختزال: وهو ما لا یبدو علیه أثر التقدیر، ولا یحرف منه مواضع الحذف سوی انه کلام صیغ في غایة جودة والاختصار، واف بالمقصود مع حسن الإیجاز [29] وهذا من أحسن الحذف و أجمله، و هو في القرآن کثیر جدا. منه قوله تعالی «الحج أشهر معلومات» [30] لان تعلق الفعل بالزمان هو تعلق المظروف بالظرف، لولا ان في الآیة حمل احدهما علی الآخر حمل اتحاد. وهو من لطیف البیان وظریفه، فلو قدرت «وقت الحج أشهر» أو«فعل الحج في أشهر» لذهبت برونق الکلام وجماله.
ومنها غیر ذلک [31] حسبما فصله العلماء.
والآن نقف عند العلامة البلاغي لتتضح آراءه في الحذف التي کان المفسر یبینها في تفسیره «آلاء الرحمن».
الحذف عند البلاغي
یری العلامة البلاغی أن التفسیرعلی وفق أسالیب البلاغة ومنها الحذف، ضرورة لا یمکن تجاهلها ویدأب علی الاستعانة بالانزیاحات التي یحققها البلاغة ویؤکد ان قصورا في معرفة «ما في القرآن الکریم من فرائد البراعة وفوائد البلاغة حتی صار یلوح من ترددهم ان ذلک مخالف القواعد العربیة، فاغتنم أعداء القرآن من ذلک فرصة الاعتراض» [32] .
یری العلامة ان الحذف باب من أبواب البلاغة «ولا یخفی انه قد شاع في کلام العرب في الشعر والنثر اکتفاء بدلالة المقام، وتوصلا في بعض الموارد إلی غرض ونکتة لا تحصل بدونه، فیخرج الکلام به کالذهب المصفی والجوهر المجلو». [33] انه أشار إلی أنواع الحذف: «أحدها انهم التزموا بالحذف فیما إذا کانت دلالة المقام لازمة. وجعله النحویون من الحذف الواجب في العربیة، فمن ذلک خبر المبتدأ قبل جواب « لولا»». [34] کقوله تعالی «لولا أنتم لکنا مؤمنین» [35] فأنتم مبتدأ والخبر محذوف أي حاضرون، [36] وهو لازم الحذف هنا. ثم یقول العلامة البلاغي «وقیل جواب القسم الصریح نحو « لعمري لأفعلن» ولا یحتاج إلی ذکر الشواهد، وکذا في نحو «أخطب ما یکون الأمیر قائما» و«ضربي زیدا قائما» و«کل رجل و ضیعته» ومن هذا النحو ما یلتزم النحویون بتقدیره في الظرف والجار و المجرور المستقرین». [37]
نری العلامة بالأمثلة التي جاء بها قد أشار إلی المواضع التي یحذف الخبر وجوبا وهو في أربع مواضع [38]: الأول: أن یکون خبرا لمبتدأ بعد «لولا» - وهو طریقة لبعض النحویین-، الثاني: أن یکون المبتدأ نصا في الیمین، الثالث: أن یکون المبتدأ مصدرا، وبعده حال سدت مسد الخبر، وهي لا تصلح أن تکون خبرا فیحذف الخبر وجوبا لسد الحال مسده والمضاف إلی هذا المصدر حکمه کحکم المصدر، والرابع: أن یقع بعد المبتدأ واو هي نص في المعیة.
أشار العلامة إلی النوع الثاني والثالث من الحذف «انهم اطرد عندهم الحذف في موارد جعل لها النحویون ضابطا منها حذف ضمیر المنصوب أو المجرور، العائد علی الموصول، ومنها حذف الجر قبل «أن» المصدریة. وثالثها ما لا ینحصر بعنوان عام إلا بدلالة المقام وهو کثیر لا یحصی» [39] ثم ذکر الشیخ البلاغي شیئا من شعر مشاهیر الشعراء في العرب ممن طرقوا باب البلاغة وشهد لهم بالتقدم. [40]
وبعد هذه التوطئة ننظر تلک الآراء مجسدا عنده في کتابه آلاء الرحمن في تفسیر القرآن:
حذف الاجوبة
حذف جواب شرط «أما»
یتوقف العلامة عند قوله تعالی «یوم تبیض وجوه وتسود وجوه فأما الذین اسودت وجوههم أ کفرتم بعد إیمانکم فذوقوا العذاب بما کنتم تکفرون» [41] ویؤکد ان جواب «أما» محذوف ولکن لیس تقدیره «فیقال لهم أ کفرتم» کما جاء في التبیان ومجمع البیان والکشاف وتفسیر الرازي، بل یقول: «ویقرب عندي أن یکون الجواب من نحو فهم من عذاب ألیم ونقمة من غضب الله، کما یدل علیه قوله تعالی «فذوقوا العذاب» ویناسبه قوله تعالی في الآیة الاخری «ففي رحمة الله هم فیها خالدون» ومن نحو هذا الحذف في القرآن الکریم کثیر وفائدته التهویل بالجواب لیقدره السامع بکل نحو یشعر به المقام من الهول». [42] وإذا أمعنا النظر نری دلالة المقام مناسبة لما قاله العلامة إذا جاءت الآیة السابقة بصیغة النهی «ولا تکونوا کالذین تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البینات وأولئک لهم عذاب عظیم» [43] ثم ذکر ابیضاض الوجوه واسودادها علی ترتیب الفلاح والعذاب في الآیتین المتقدمتین ویکون البیاض بسنا نوره سیماء تکریم وبشری للصالحین المقربین ویکون السواد بإظلامه وتشویهه وسم خزي ونکال لاولئک البعداء، ثم خوطبوا بنحو الالتفات في التوبیخ والتقریع بقوله تعالی «أ کفرتم بعد إیمانکم فذوقوا العذاب».
حذف جواب شرط
یتوقف البلاغي عند قوله تعالی «الحج أشهر معلومات فمن فرض فیهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج» [44] ویؤکد [45] أن جواب الشرط محذوف وتقدیره فمن فرض فیهن الحج فلا یأت في حجه برفث ولا فسوق ولا جدال لأنه لا رفث ولا فسوق إلی آخره فحذف جواب الشرط لدلالة هذه الجملة المذکورة علیه دلالة یکون ذکره معها من فصول الکلام، وجيء بالجملة الخبریة وصرح باسم الحج في قوله جل شأنه «في الحج» لإیضاح أن الحج بذاته ینافر هذه الأمور.
یؤکد [46] العلامة أیضا «الحج أشهر معلومات» أي وقت الحج. وهو حذف المضاف وإقامة المضاف إلیه مقامه ونری أن هذا النوع من الحذف في القرآن کثیر، قال ابن جني: «وفي القرآن منه زهاء ألف موضع». [47] حذف جواب « لو»
یری العلامة في قوله تعالی «ومن الناس من یتخذ من دون الله أندادا یحبونهم کحب الله والذین آمنوا أشد حبا لله ولو یری الذین ظلموا إذ یرون العذاب أن القوة لله جمیعا وأن الله شدید العذاب» [48] ان جواب «لو» محذوف لدلالة المقام علیه اختصارا ولیقدر بکل نحو یناسب المقام. [49] نری في الآیة توبیخا شدیدا وتسفیها لهولاء بالإشارة إلی أنهم لا یهتدون بعقولهم دلالة العقل علی وحدانیة الله في الإلهیة وانحصار القوة الإلهیة به، ولزوم اتباع أوامره فیمن أمر باتباعه، واتباع نواهیه فیمن نهی عن الضلال باتباعه، ولا یهتدون إلی الیقین بما توعد الله به من أنواع العذاب الألیم في یوم القیامة وانه لیس من دونه ولي ولا نصیر، بل هؤلاء کالبهائم لا تلتفت إلا إلی ما تراه وتحسه. فلو ان هؤلاء الظالمین حینما یرون بالحس عذاب القیامة وما تذکره الآیتان بعد هذه الآیة من أهوالها ویرون انحصار القوة الالهیة بالله وشدة عذابه لأقلعوا عن غیهم واتخاذهم الأنداد وأنابوا إلی توحید الله وطاعته.
حذف المفعول
یری العلامة في قوله تعالی «ولا تحسبن الذین یفرحون بما أوتوا ویحبون أن یحمدوا بما لم یفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب ألیم» [50] ان المفعول الثاني ل«تحسبن» محذوف للتهویل ولان یقدره السامع بما یلیق بهؤلاء من ذمهم، وهذا باب من أبواب البلاغة. [51]
وأیضا یقول العلامة في قوله تعالی «یرید الله لیبین لکم ویهدیکم سنن الذین من قبلکم ویتوب علیکم والله علیم حکیم» [52] ان اللام للتعلیل ومفعول «یرید» محذوف ویقدر بحسب ما یناسبه ویقتضیه ومما یناسب الآیة أن یکون التقدیر فیها: یرید الله ان یفصل لکم شرایع النکاح أو شرایع المذکورة في السورة أو ما قبلها لکي یبین لکم ما هو الصالح في نظامکم وأخلاقکم وسعادتکم. یکشف العلامة عن رأیه هذا بعد رده للذین یقولون ان اللام زائدة والأصل «ان یبین»، أو الذین یقولون ان اللام دخلت هنا علی تقدیر المصدر أي إرادة الله للبیان لکم نحو قوله تعالی «إن کنتم للرؤیا تعبرون» [53] ومرجع التمثیل إلی انها لام التقویة وهو غریب إذ یؤول القوي بالضعیف لیحتاج إلی لام التقویة ومع ذلک یبقی المبتدأ بلا خبر وهل یکون مثل هذا التکلف في القرآن الکریم؟! [54]
یری العلامة في قوله تعالی «إنما ذلکم الشیطان یخوف أولیاءه فلا تخافوهم وخافون إن کنتم مؤمنین» [55] ان «خاف» تتعدی إلی مفعول واحد تقول خفت الکلب وتتعدی بالتشدید إلی مفعول ثان کما تقول خوفني عمرو الکلب، وقد یحذف المفعول الثاني کما تقول خوفني عمرو، وقد یحذف المفعول الأول کما تقول خوف عمرو الکلب وکما في الآیة ولفظ «یخوف» في أعم وأتم من الفائدة في مقام الذم لابلیس وعموم تخویفه للناس أولیاءه وعموم أولیائه في النهي عن خوفهم، بنحو یفید بشری الأمن من شرهم لا خصوص قریش [56].
حذف المبتدأ
وهکذا یستمر الشیخ في تأکید آرائه البلاغیة بالإستعانة بنصوص قرآنیة أخری تؤکد ما یذهب إلیه وهذه خصیصة تفرد بها. ثم یتوقف [57] عند قوله تعالی «وإذ قلنا ادخلوا هذه القریة وکلوا منها حیث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لکم خطایاکم وسنزید المحسنین» [58] فهو یری ان «حطة» خبر لمحذوف، أي سجودنا وعبادتنا حطة لذنوبنا، والجملة الخبریة یراد بها الدعاء أي اجعل سجودنا وعبادتنا سببا لحط ذنوبنا عنا.
یری البلاغي [59] ان المبتدأ محذوف في قوله تعالی «ولا تقولوا لمن یقتل في سبیل الله أموات بل أحیاء ولکن لا تشعرون» [60] أي هم أموات بل هم أحیاء.
ویری [61] أیضا في الآیتین «ولنبلونکم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرین، الذین إذا أصابتهم مصیبة قالوا إنا لله وإنا إلیه راجعون» [62] ان «الذین» خبر لمبتدأ محذوف أي هم الذین.
یؤکد في قوله تعالی «شهر رمضان الذي أنزل فیه القرآن» [63] ان «شهر» خبر لمحذوف أي هي شهر رمضان. [64]
یتلبث [65] البلاغي عند قوله تعالی «ویعلمه الکتاب والحکمة والتوراة والإنجیل ورسولا إلی بني إسرائیل أني قد جئتکم بآیة من ربکم» [66] بان قوله «أني قد جئتکم» خبر لمبتدأ محذوف وهذه العبارة متعلق بمحذوف حال من «رسولا» وهکذا یفسر «لما کانت دعوی الرسالة تؤید بالحجة علیها کان ذکر المعجز یجعل الکلام کالصریح بما معناه حال کونه یقول لهم «حجتي أني قد جئتکم» وقد ذکرنا ان الحذف لما یدل علیه الکلام بسیاقه باب من أبواب البلاغة عند العرب». [67]
حذف مخصوص «نعم»
یقول [68] العلامة في قوله تعالی «اولئک جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدین فیها ونعم أجر العاملین» [69] المخصوص بالمدح ل«نعم» هي المغفرة والجنات المذکورة باعتبار ان ذکر الله واستغفاره عمل صالح جلت آلاء الله و ألطافه. ونری ما یقدره العلامة أي المغفرة والجنات یتفق مع سیاق الآیة، بینما قال الزرکشي [70] في البرهان التقدیر «أجرهم» أي نعم أجر العاملین أجرهم.
حذف الفعل
یؤکد البلاغي في قوله تعالی «وإذ قال ربک للملائکة إني جاعل في الأرض خلیفة قالوا أتجعل فیها من یفسد فیها ویسفک الدماء ونحن نسبح ونقدس لک قال إني أعلم ما لا تعلمون» [71] ان «إذ» ظرف وعامله محذوف یفسره قوله تعالی «قالوا». ویقول ردا علی من یجعل «إذ» مفعول به: «وقیل ان «إذ» مفعول به أي اذکر في القرآن ذلک الحین للناس کقوله تعالی «واذکر في الکتاب مریم إذ انتبذت» [72] ولکن یلزم من هذا القول ان یکون الذکر مختصا بقول الله تعالی للملائکة «إني جاعل في الأرض خلیفة» ویکون ما بعده أجنبیا لأنه لم یفرع علیه لیکون مرتبطا به کالارتباط الذي في قوله تعالی «فأجاءها المخاض» [73] إلی آخره، فالمناسب إذن هو ان تکون «إذ» ظرفا متعلقا بمحذوف یدل علیه سوق الکلام الذي یفسره وذلک بأن یکون التقدیر وحین قال ربک للملائکة إني جاعل في الأرض خلیفة جرت في ذلک محاورات وشؤون یفسرها قوله تعالی «قالوا أتجعل فیها من یفسد فیها ویسفک الدماء» قالوا ذلک حیث قد رأوا الخلق السابق وإفسادهم وسفکهم للدماء کما دلت علیه الروایات المشار إلیها». [74] ویؤکد صحة نظر البلاغي ما قاله الزرکشي «والأصح ان إذ لا تفارق الظرفیة» [75].
حذف المعطوف علیه
یری العلامة في قوله تعالی «ان الذین کفروا وماتوا وهم کفار فلن یقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدی به اولئک لهم عذاب ألیم وما لهم من ناصرین» [76] ان الواو في «ولو افتدی به» للعطف والمعطوف علیه محذوف و«لمثل هذه الواو في القرآن موارد وهي فیها کلها واو العطف علی المحذوف یدل علیه سیاق القرآن بکرامة نهجه وبراعة اسلوبه في مناحي البلاغة ویجلوه المقام بإشراق تلک البراعة بأجلی المظاهر». [77] لا یذکر العلامة تقدیره ولکن قال الزرکشي «أي لو ملکه ولو افتدی به». [78]
الخاتمة
- قد جعل العلامة البلاغي التعضید البلاغي عاملا مساعدا في معرفة دلالات الآیات القرآنیة وربط ذلک بتأمل الفعل وسعة العلم.
- قد استمر البلاغي في تأکید آرائه البلاغیة بالاستعانة بنصوص قرآنیة أخری تؤکد ما یذهب إلیه وهذه خصیصة تفرد بها.
- إنه یری الحذف بابا من أبواب البلاغة وقد تأنق القرآن الکریم في هذه البراعة ما شاء إعجازه، فانتقی یتائمها، واستولی علی غایتها.
- إنه في تقدیراته للمحذوفات یدقق في سیاق الآیات والمقام و کثیرا ما یجیء بالتقدیر الذي لم یشر إلیه قبلا.
- إنه بعد ذکره للمقدرات غالبا یشیر إلی أغراض الحذف ویفسر الآیات بالنظر إلی هذه الأغراض.
- وجدت الباحثة ان البلاغي کان علی درایة عالیة وفهم عمیق بجمالیات الأسلوب ووجوه الإبداعات البلاغیة ویمکن ان یعد رائدا في هذا النطاق.
المصادر
المصادر
- القرآن الکریم.
- ابن الأثیر، ضیاء الدین ابوالفتح، المثل السائر في أدب الکاتب و الشاعر، تحقیق محمد محمد عویضة، بیروت، 1998م، ج2.
- ابن عقیل، شرح ابن عقیل، تحقیق محمد محي الدین عبد الحمید، ط 5، قم، نشر سید الشهداء، 1379ش، ج2.
- ابن هشام الانصاري، جمال الدین، مغني اللبیب عن کتب الأعاریب، قم، نشر سید الشهداء، لا تا، ج2.
- البلاغي، محمد جواد، آلاء الرحمن في تفسیر القرآن، ط2، قم، مکتبه الوجداني، لا تا، ج1 و 2.
- ...، الهدی إلی دین المصطفی، ط3، بیروت، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، 1985م، ج2.
- الجرجاني، ابوبکر عبد القاهر، دلائل الإعجاز، تحقیق محمد التنجي، ط1، بیروت، دار الکتب العربي، 1995م، ج1.
- الزرکشي، بدر الدین محمد بن عبد الله، البرهان في علوم القرآن، ط1، بیروت، دار الکتب العلمیة، 1988م، ج3.
- السیوطي، ابوبکر، معترک الأقران في إعجاز القرآن، تحقیق أحمد شمس الدین، ط1، بیروت، دار الکتب العلمیة، 1988م، ج1.
- معرفة، محمد هادي، التمهید في علوم القرآن، ط1، قم، موسسة التمهید، 2007م، ج5.