الأحد ٢٣ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٧
"انتقم ولكن لعين واحدة فقط" من إسرائيل
بقلم أمير العمري

الحقيقة أقوى من كل خيال

كان الفيلم التسجيلي الطويل (100 دقيقة) الذي أثار اهتماما كبيرا في مهرجان روتردام عام 2006 فيلما يحمل عنوانا غريبا هو "أنتقم ولكن لعين واحدة فقط"
هذا هو الفيلم الجديد للمخرج الإسرائيلي أفي مغربي المثير للجدل والمعروف بمواقفه وأفلامه التسجيلية المعارضة للمؤسسة الرسمية في إسرائيل بأفكارها العتيقة.

نال هذا الفيلم الجائزة الخاصة التي منحتها لجنة تحكيم شكلتها منظمة العفو الدولية (أمنستي انترناشيونال) تقديرا للجانب الإنساني الذي يغلف موضوعه، ودفاعه عن قضية إنسانية عادلة.

ينطلق الفيلم من فرضية أن المأزق الفلسطيني مرتبط بالمأزق الإسرائيلي، وأن دائرة الأحداث، في الأراضي الفلسطينية المحتلة أو داخل الخط الأخضر، هي دائرة مغلقة، تدور حول أساطير ومسلمات ومعتقدات راسخة.
ويعتمد أسلوب الفيلم على التوثيق السينمائي المباشر، والمقاربة بين الوقائع والأفكار والأحداث من نوع المونتاج الذهني، والتعليق غير المباشر على الحدث من خلال مقاطع مجزأة عبر الفيلم، من حديث هاتفي بين المخرج (الذي نراه في الصورة)، وصديق فلسطيني مثقف (يتحدث على الطرف الآخر ولا نراه أبدا فهو الغائب الحاضر) بحيث يصبح هذا الحوار "موتيفة" أساسية للفيلم.

ثنائيات وأفكار

محاور الفيلم تدور حول ثنائيات من نوع: ترسيخ الأسطورة وتعميق "ثقافة الانتحار"، المقاربة بين الماضي والحاضر في ضوء الأحداث المستمرة عبر التاريخ: الانتقام والانتقام المضاد، تغذية عقول الأطفال بمفاهيم معينة عن "البطولة"، وانكار نفس المفهوم عن الآخر.

هذه هي المحاور التي يلمسها الفيلم من خلال خلق التصادم بين اللقطات، والجمع بين الصدمة التي تتولد عن الصورة، والفلسفة الناتجة عما يتيحه الفيلم من مسافة ذهنية بين المتفرج والصورة حتى يمكنه التأمل والتفكير والتوصل بنفسه إلى استنتاج.

"انتقم ولكن لعين واحدة فقط" عنوان له مغزى ودلالة، تتعلق بفلسفة الانتقام وما تخلقه من دائرة مغلقة. والمعنى المقصود هو أنني لن يكفيني ما أنزله بكم.. فما سيأتي سيكون أشد هولا. والعنوان مستمد من مقولة لشمشون - كما يرد في سياق الفيلم- لها بالتأكيد علاقة بالمقولة التوراتية "العين بالعين والسن بالسن".

أساطير البطولة

الإسرائيليون مشغولون كثيرا - كما يصور الفيلم - بتدريس الصغار في الفصول الدراسية ، ما حدث قبل قرون عديدة، على مستوى الحدث التراجيدي المعروف بـ "الماساداه" و أسطورة شمشون التي يتم تناقلها عبر العصور من خلال الحكي الشفوي والخيال المصور والمكتوب.

قصة الماساداه تتلخص في أنه بعد أن دمر الرومان مملكة القدس اليهودية في عام 70 بعد الميلاد لجأت جماعة تتجاوز ألف شخص من غلاة اليهود المتعصبين لديانتهم إلى جبل الماساداه المطل على البحر الميت وتحصنوا في أعلاه.
الرومان ردوا على ذلك بأن أقاموا سورا حول الجبل لمحاصرة اليهود الذين رفضوا الاستسلام بعد أن دمرت مملكتهم.
وفي سنة 73 ميلادية أرسل الامبراطور الروماني فرقة عسكرية للقضاء على اليهود المتحصنين بالجبل.
وعندما أدرك اليهود أنهم خاسرون في تلك المواجهة، اتخذوا قرارا بالانتحار الجماعي، ولكن لأن الانتحار محرم في الديانة اليهودية، أمر كبيرهم اليعازر بن يائير عشرة منهم بقتل الآخرين، ثم قتل واحد من العشرة التسعة الآخرين، ثم انتحر.
هذه القصة ذات الطبيعة الأسطورية أصبحت مترسخة في الضمير الإسرائيلي، وهي تتلخص في تفضيل الموت على الاستسلام، ولعقدة الماساداه أيضا جانب سيكولوجي يتعلق بالرهب من فكرة التعرض للحصار، وتفضيل الانتحار على الهزيمة.

أما أسطورة شمشون فهي شائعة وملخصها أن شمشون الذي كان يمتلك قوة هرقلية، تمكنه من التصدي لثلاثة آلاف شخص والتغلب عليهم، وجد نفسه ذات يوم محاصرا من جانب سكان أرض كنعان أو ما يعرف بـ الفلستينيين.
وعندئذ لجأ شمشون إلى المعبد وجذب عمودين رئيسيين يرفعان المعبد فانهار عليه وعلى أعدائه من هؤلاء الفلستينيين البالغ عددهم 3 آلاف شخص.

تتغذى عقول التلاميذ على مثل هذه الأساطير كما نرى في الفيلم، من خلال جولة مجموعة منهم في جبل ماساداه الذي تحول منذ اكتشافه عام 1965 إلى مزار سياحي، ويشرح لهم المدرس العظمة والبطولة الكامنتين في قرار اليهود بالانتحار بدلا من الاستسلام.

تحت الحصار

لكن المشاهد الخاصة بحكايات شمشون وماساداه يتم تقطيعها والانتقال منها إلى مشاهد محاصرة الأراضي الفلسطينية، ومنع تلاميذ المدارس من الوصول إلى مدارسهم، وتفتيش الشباب الفلسطيني وإيقافهم عند نقاط التفتيش وإذلالهم وممارسة نوع من التعذيب البدني عليهم بجعلهم يقفون فوق صخور حادة لمدة طويلة في الشمس.
وينتقل الفيلم من الفصل الدراسي إلى جبل ماساداه، إلى العربات العسكرية الإسرائيلية المصفحة وهي تمنع المزارعين الفلسطينيين من زراعة أراضيهم بدعوى أن الأراضي مصادرة.

وتنتقل الكاميرا من المدرس وهو يروي بطولة شمشون إلى مخرج الفيلم وهو يستمع عبر الهاتف إلى صديقه الفلسطيني على الطرف الآخر، يروي له كيف اصبح الوضع في بلدته لا يطاق.

يقول الفلسطيني: "نحن لا نعرف كم من الوقت يستمر الحصار.. الصباح والمساء والليل، كله يتشابه.. شئ واحد يسيطر على حياتك حتى في أحلامك.. هل يقتحمون بيتك؟ متى؟
"أمي بدأت أمس في وضع أيقونات مسيحية على جدران المنزل لكي يعرف الإسرائيليون إذا اقتحموا المنزل، أن هذه أسرة مسيحية.. لم أعد قادرا على حلاقة ذقني.. وقد استطالت لحيتي.. وأخشى أن يعتقلوني ظنا منهم أنني إرهابي.

كهف شمشون

حاخام يضع شمعات مشتعلة داخل كهف في الجبل.. يقول إنه كهف شمشون: "كان رجلا شجاعا، أنقذ اليهود من الفناء. كانت الضربة منه تقتل 10 آلاف رجل. يجب أن نتبع خطاه.. لقد حارب الفلسطينيين في غزة.

نعود إلى جبل ماساداه. رجل يشير إلى نقاط الحراسة التي أقامها الرومان لاحكام الحصار حول اليهود المتحصنين بالجبل.
عربات عسكرية إسرائيلية تتوغل في الحقول، يهبط منها بعض الجنود يطاردون الشباب الفلسطيني لاعتقالهم، يقولون إنهم يحاولون التسلل للعمل بدون تصريح.

عودة إلى الحديث الهاتفي، وعلى الطرف الآخر يقول الفلسطيني للمخرج إنه لم يعد يطيق الحصار: سأخرج إلى الشارع وألقي بالحجارة.

المخرج يقول له: وماذا ستفعل الحجارة.. هذا البلد يمكن تغييره بالقوة فقط.
الفلسطيني يقول إنه عندما يرى ما يحدث له ولأسرته لا يمكنه أن يمنع نفسه من الشعور بالسعادة عندما يسمع عن وقوع عملية انتحارية في الخليل.

عودة إلى شمشون والاحتفال به في الكهف. أحدهم يقول: كانت دليلة فلسطينية. لقد أرسلوها له لكي تقص شعره. الأطفال ينصتون في اهتمام شديد.
جرافة ترفع الصخور. برج المراقبة الأسود المنتصب عاليا عند نقطة عبور يبدو مضحكا مثل كائن خرافي ينتمي إلى العصور الغابرة. في داخله جندي. شاحنة يخرج منها فلسطيني يحمل بطاقة خضراء يلوح بها للجندي في أعلى البرج.
يتطلع الجندي عبر منظار مكبر ويقول: اقترب.. لا أستطيع أن أسمعك. هل لديك تصريح؟

أمام إحدى نقاط التفتيش. آلية مصفحة بداخلها جندي. عبر مكبر الصوت جندي يطلب بصوت مشوه، من الفلسطينيين المتجمعين للعبور أن يبتعدوا عن البوابة. فلسطينية تبكي وهي تحمل طفلا صغيرا وبصحبتها فتاة. "ربنا ينتقم منهم ويذلهم كما يذلونا". الفتاة تبكي. الأم تحاول طمأنتها.

المخرج يتسلل بالكاميرا داخل آلية مدرعة. يسأله الجندي: هل لديك تصريح صحفي؟ داخل المدرعة لا نرى شيئا .. سواد وفراغ عميق.. مثل الثقب الأسود.
المخرج أفي مغربي يستمع وأمامه على شاشة التليفزيون شاؤول موفاز يطلق تصريحاته. الفلسطيني على الطرف الآخر يقول للمخرج: "إن الناس يصبحون متطرفين.. فهم غاضبون حتى الموت. أعتقد أنه يتعين على اليهود أن يفهموا ما يحدث من غضب يؤدي إلى التطرف. ربما سيدرك الإسرائيليون ما يحدث بعد وقوع 100 تفجير انتحاري".

هستيريا جماعية

الكاميرا في هذا الفيلم مواجهة، تقلق وتتصدى وتتحدى وتواجه. ويستخدم المخرج أسلوب التصوير بالكاميرا الخفيفة المحمولة على الكتف التي تهتز فيهتز منظور الصورة لكي تعكس حالة التوتر والقلق، ويجري المقابلات الحية المباشرة من وراء الكاميرا مع الإسرائيليين والفلسطينيين.
والطريف أن كلا الطرفين لا يبدو أنهما سعيدان بالتصوير. الإسرائيليون يحاولون وقف التصوير بالقوة، والفلسطينيون يسخرون من المصور والمخرج ويعبرون عن سخريتهم في مواجهة الكاميرا.

وأمام هذه السخونة في التحرش والرد، تتحلى الكاميرا بالبرود: برود الشاهد الصامت الذي يسجل ويستمر في التسجيل.
لسنا هنا أمام أسلوب المراسل التليفزيوني الذي يعد تقريرا سريعا يختار له من اللقطات ما يفي بالغرض السريع، بل لغة سينمائية أكثر تعقيدا، تعايش الواقع وتلتحم به دون أن تكون جزءا منه.. بل تظل تلك المسافة الذهنية قائمة.
حالة الهستيريا الجماعية والاحتفال بالأساطير، تصل إلى الذروة في مشهد احتفال أنصار الحاخام الراحل مائير كاهانا، الذين يتجمعون وينشدون "كاهانا لا يزال حيا.. سأنتقم ولكن بعين واحدة فقط". لقد أصبح كاهانا أيضا بطلا ينتمي إلى الأساطير.

يتعرض الجنود للمخرج، يحاولون منعه من التصوير بدعوى أنه لا يحمل تصريحا، لكنه يصر على مواصلة التصوير. جندي يضع يده على العدسة. جنود يدفعون المخرج فتتأرجح الكاميرا في يده إلا أنه يواصل بإصرار.
يقول لهم: إن هذا بلد ديمقراطي وأنا أمارس حقي.. هذه أشياء يجب أن يراها الناس. أنتم تعملون في خدمتي.
الضابط يقول له إن المنطقة عسكرية مغلقة. فيقول المخرج: أنت كاذب.. لماذا تمنعون الأطفال من الذهاب للمدارس؟ افتحوا البوابة. الضابط: لا نتلقى الأوامر منك. أوقف التصوير وابتعد عن المدرعة. - ماذا يضير المدرعة من الكاميرا؟ - لا تتعرض للمدرعة. ويتحول المخرج إلى الصراخ وتتصاعد صرخاته: أنتم أطفال.. اكبروا.. عليكم أن تدركوا عاقبة ما تفعلون.. لاشك أن تربيتكم سيئة. افتحوا البوابة.

وينتهي الفيلم والمدرس الإسرائيلي يشرح للتلاميذ وهو يشير إلى العلم الإسرائيلي فوق قمة الجبل ويقول: أين ذهب الرومان؟ ابحثوا عنهم في كتب التاريخ، لقد اندثروا وبقيت أمة إسرائيل.

سينما الحقيقة

يذكرنا أسلوب أفي مغربي في هذا الفيلم بأسلوب المخرج الإسرائيلي آموس جيتاي في أفلامه الأولى مثل "يوميات حملة"، وهو أسلوب قريب مما عرف في الستينيات بـ "سينما الحقيقة".
سينما الحقيقة تقوم على تسجيل الحدث في أرض الواقع بأقل قدر من التدخل من جانب المخرج، وجعل الكاميرا مثل الشاهد الصامت المتحرك الذي لا يهدأ ولا يتوقف، وعدم التلاعب في الصور واللقطات عن طريق المونتاج، وجعل المشهد الطويل أساسا لبناء الفيلم وليس اللقطة القصيرة، وعدم جعل الناس يعيدون تمثيل حياتهم اليومية بل تصويرهم في اندفاعاتهم التلقائية.

وتذكرنا مقاربة الفيلم بين أساطير التاريخ اليهودي بفيلم "إستر" لجيتاي الذي يصور كيف تنقلب الآية وتدور الدوائر ويتأرجح التاريخ اليهودي بين ممارسة القتل والتعرض للقتل المضاد.
ويعكس الفيلم قلق مثقف إسرائيلي ليبرالي وداعية سلام، إزاء ما يقع يوميا باسمه، ورغبته في القيام بدور في التحذير من اساليب القوة الغاشمة باسم حماية الدولة، واللجوء إلى العنف باسم حفظ النظام، وتحول الجيش الإسرائيلي من قوة مقاتلة كانت تحظى بالاحترام داخل إسرائيل، إلى قوة احتلال وقمع يصفها هو بأنها "سيئة التربية".

المونتاج الذهني

ويقوم الفيلم على نوع من المونتاج الذهني ليس على طريقة المخرج الروسي أيزنشتاين، التي تتلخص في التعامل مع اللقطات المنفردة كما لو كانت معادلة حسابية في سياق يجعلك تخرج بحصيلة جمع جديدة مخالفة لمغزى كل لقطة على حدة، بل على أساس المقاربة في المعنى بين الماضي والحاضر، بين التاريخ اليهودي بأساطيره حول البطولة، والمفهوم الفلسطيني الذي ربما ينطلق من مبرارت مشابهة، بين فكرة تفضيل الانتحار على الاستسلام، ورفض العمليات الانتحارية على الجانب الفلسطيني أو بالأحرى، عدم توفر حتى الاستعداد لفهم دوافعها.

ويجعل المخرج محاوره الفلسطيني حاضرا بصوته فقط على الطرف الآخر، مفضلا أن يظهر هو في الصورة: مستمعا أكثر منه محاورا، منصتا في حيرة ودهشة، يتدخل أحيانا معلقا أو متسائلا أو معبرا عن الغضب والسخرية، لكي يعبر عن الجانب "الشخصي": أن هذا فيلمه الخاص.. رؤيته.

درس أفي مغربي"الفلسفة في جامعة تل أبيب كما درس الفنون في معهد رامات هاشارون، وعمل مساعدا للإخراج وكاتبا للسيناريو ومديرا للإنتاج ومخرجا للأفلام الروائية والإعلانية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى