الحمار
قالت ترى هل أحببت يوما حيوانا ما على الأقل في صغرك. هل كان لك دبّ صغير من النسيج وأنت طفل لا تنام إلا وهو في حضنك؟
– ليس لنا دببة في الصحراء ولا نعرف مثل هذه الطيور. ثمّ إنّني لم أكن من عائلة ينام أطفالها واللعب تحفّ بهم. الوحيدة التي عرفتها طوال طفولتي تلك التي كنت أصنعها بنفسي من جريد النخيل. صحيح أنه كان لي كائن غير آدمي مفضّل ولا زال إلى اليوم أعزّ هذه الكائنات إلى نفسي. لكن أخشى أن تضحكي منّي أو أن تفضحي أمري إن كشفت لك السرّ.
– قل وعليك الأمان.
– كان لجدّي جمل واحد وحمار يتيم يعينانه على أعماله الزراعية وقضاء حوائجه الأخرى. أما الجمل فقد كانت علاقاتي به بالغة السوء. أذكر، وأنا في بداية سنتي الرابعة أو الخامسة، أنه أصابني بضربة بارعة بخفه كادت أن ترديني قتيلا. وباءت كل محاولاتي لركوب ظهره بالفشل الذريع. آمره بأن يجثو فلا يطيع. من أين لي تسلّقه وهو بجرمه وأنا بقامتي؟ وإذا وجدته باركا وقفزت فوق ظهره نهض بسرعة ورماني على الرمل. لكل هذه الأسباب وغيرها أيقنت باكرا أنه لا خير لا في البعير ولا في أصحاب البعير. هكذا قرّرت إذن تجاهله ونسيانه كما أفعل منذ ذلك الزمن مع كل الذين أدرك بالتجربة أنه لا قواسم مشتركة ولا تفاهم ممكن معهم. من يومها قطعت كل العلاقات الديبلوماسية مع الحيوان رغم صلة مغرقة في القدم بين قومي وقومه .
لم يبق إلا الحمار. من حسن الحظّ أن هذا الكائن، خلافا لذلك المتعجرف، كان بالغ اللطف والتأدب والهدوء والصبر. كم اشعر بالذنب اليوم لما أذقته إياه من أصناف التعسف والدلال. كان سهل الامتطاء حتى بالنسبة لطفل في الرابعة. كنت اشعر وأنا فوق ظهره بأني فارس الفرسان. أركله في جنبيه، أنهال عليه بالعصا، اصرخ فيه بأعلى صوتي ليركض بأقصى السرعة ، ثمّ أخرج سيفي الخشبي من غمده أرفعه عاليا في وجه كل من يقف في طريقي.لا أنزل من ظهر الحمار، المنهك والمستسلم للقضاء والقدر، إلا وقد انتصرت على كلّ أعداء الله والوطن.
– وهل كان جدّك يتركك تهرب بحماره متى شئت؟
– وهل تظني أن الحمير تعمل بمفتاح وأن جدّي كان يخفيه عنّي كما يفعل أولياء اليوم عندما يمنعون سياراتهم عن الأطفال المشاغبين..كنت أنتظر أن يبدأ عمله في الحقل لأخطف عنتر- إنه الاسم الذي أطلقته عليه- فينطلق دون أي حاجة لمفتاح شريطة ألا أنسى من فرط تسرّعي فكّ الحبل المربوط به إلى جذع النخلة. ثم أن جدّي ككل جدّ يحترم نفسه ودوره، كان لا يسعده شيء قدر أن يترك الطفل يتحايل عليه ويكذب عليه ويتشيطن عليه وهو يخفي ضحكه وحنانه. كان يعرف حبّي الشديد لعنتر. لذلك كنت المكلف الرسمي والوحيد بأن آخذه ليشرب من العين والمشرف الأوّل على عملية ملء القرب والرجوع بها سالمة إلى ’’ الحوش’’. لا زالت تفوح من أعماق ذاكرتي إلى اليوم رائحة جلده وقد تمازجت برائحة القرب الرطبة المطلية بالقطران.
– توقف... ستبكيني. لا أتصوّرك تحدثت يوما عن رائحة حبيبة فرّقت الأيام بينك وبينها بكل هذا التأثر.
– ماذا؟ أحدثك عن عنتر وتحدّثيني عن النساء! ما أكثر النساء، أما عنتر فكان فريدا. آه يا عنتر رحمك الله وأسكنك في فسيح جنانه- القسم المخصص للحمير - ورزقني فيك جميل الصبر والسلوان.
– أخيرا عرفت ما سأهديك. هل تريد أن تأخذه معك في الطائرة أم تنتظر أن آتي إلى بلدك.
– بل انتظري لاختياره على عين المكان، فبلدي يعجّ بالحمير وكل واحد ’’أحمر’’ من أخيه. هل قلت لك أنّني فكّرت يوما بمنتهى الجدّ أن أشتري حمارا اسكنه في حديقة بيتي ليرتاح بقية عمره من الجوع والضرب علّني أكفّر عن كل ّ خطاياي السابقة،مانحا إياه نوعا من التعويض البسيط وردّ الاعتبار في شخصه للحمار المجهول الذي سامته البشرية خسفا على مرّ العصور.
– إنها حقا أريحية مثيرة للدمع...لكن ما الذي كنت ستفعل بحمار بطال يعاني الملل في حديقة لا يستطيع الخروج منها؟ أليس الأمر بمثابة الحكم عليه بالسجن المؤبد؟
– ومن قال لك أنني كنت أنوي حرمانه من الفسحة؟ بالعكس كانت كل الفكرة مبنية من البداية على فهم عميق لمصالحه ومصالحي . كان المشروع أن أغافل في آخر هزيع من الليل البوليس النائم في السيارة أمام باب البيت لجولة ممتعة في الحي أستعيد أحلى أحاسيس ومشاعر الطفولة. لكن الأمر بدا لي محفوفا بالمخاطر. ماذا لو لاقيت بعض جيراني وكلهم موسرون وأجانب لا يركبون إلا ’’المرسيدس’’؟ يا للفضيحة! ماذا لو تفطّن البوليس وأخذ لي صورة وأنا على ظهر الحمار. لا شكّ أنها كانت ستنشر من الغد في صحف السلطة تحت عنوان : كم من مرّة قلنا لكم أنه مجنون!
– كانت حظوظك لإقناع مثل هؤلاء الناس برؤاك دوما معدومة، لكن لو كمشوك في الثالثة صباحا على ظهر حمار لأصبحت معدومة ونصف.
– خاصة إذا اكتشفوا قربة الماء. أعترف بأن سورة من الجبن جعلتني أتخلّى عن حلم جميل كهذا.
– سورة من الجبن أو من التعقّل؟
– في بلدي اليوم لا فرق بين الأمرين. ديدن أغلبية القوم: الكذب قوام الأقوال والجبن قوام الأعمال. كل هذا مودع في بنك الذل الشعبي تحت اسم الحكيمة اعتدال بن تعقّل، العنوان زنزانة رقم 7، عمارة المصالحة الوطنية، شارع نبذ الشمم مهما كان مأتاه.
المهمّ.... كان حمار الفلاح الذي كان يتجاسر أحيانا على دخول بيتي لإعانتي على صيانة الحديقة يذكرني بعنتر. كنت أنظر إليه كما ينظر المراهق لغانية يعلم أنها محرمة عليه إلى الأبد. وذات مرّة قلت للرجل مداعبا وأيضا بمنتهى الجدّ: لا تتصوّر كم أحسدك. لا أشتهي شيئا قدر أن أركب حمارك وأقوم بجولة صغيرة في الحيّ تحت ستر الظلام. حدّق فيّ الرجل باستهجان معتقدا أنني أسخر منه فغيّرت الموضوع.
لكنني كنت دوما أعود إليه أريد أن أعرف كل شيء عن كائن تتفق كل الكتب العلمية على أنه كائن ذكي صبور متواضع وقوي الشخصية. وأحيانا كنت أتطرق إلى موضوع إمكانية وجود علاقة ما بينه وبين حمير الجنوب وهل يمكن أن تربطه أواصر نسب بحمير المرازيق وهل يمكن أن يكون،هكذا بمجرّد الصدفة، من ذرية عنتر. للأسف لم يكن الرجل يفهم ما أقصده ولا سرّ اهتمامي بدابة لم يكن يرى فيها إلا ما يراه الآدميون في مثل هذه الكائنات المقهورة الأسيرة المفترى عليها.
وعندما احتدّ القمع وأصبحت حبيس وطن حبسه قطّاع الطريق، جاءتني فكرة جديدة : شراء الحمار،حتى اختطافه إن تطلّب الأمر، و الفرار به تحت جنح الظلام من بوليسستان، من هذا العالم التعيس برمته.تصوريني على عنتر الثاني متسكّعا أبد الدهر بين المجرّات، أتفقّد الكواكب التي يزخر بها الفضاء اللا متناهي، أبحث في كل تجارب الله، معجبا، متعجبا من كثرتها وتنوعها وما تظهره من ابتكار وعبقرية، كل هذا ولا مخبر يتعقبني، لا عدوّ يهددني، لا خصم ينافسني، لا نصير يبتزّني، لا حليف يخدعني، لا صديق يخونني، لا قريب يريد تدخّلا، ولا بنت تطالب بالزيادة في المصروف الشهري.... أخيرا الخلاص! أخيرا النجاة! أخيرا الحرية!!
إذن سألت يوما الرجل عن ثمن حماره وقد بدأت الفكرة تدخل في مرحلة التفاصيل العملية. تردّد وقد أيقن أنها مقايضة رابحة مسبقا بين طبيب برجوازي من الأحياء الراقية و ريفي ماكر.
تنحنح بوقار ثم قال لي : أتركه لك بمائة وخمسين دينارا. فتحت فمي من الدهشة. ربما لمع بريق الاستنكار الشديد في عينيّ.سارع قائلا : إنه حمار لا يأكل كثيرا ويصبر على الضرب ولن تجد مثله في كل أسواق الحيوانات. لن أنزل تحت المائة والأربعين. انفجرت في وجه الرجل وقد اتخذت تلك السحنة المخيفة التي تستحوذ عليّ وأنا في سورة الغضب البدوي العارم.
– الحيوان الذي يسوى هذا الثمن، وحتى أقل، هو أنت وكلّ الآدميين أمثالك وأمثال هؤلاء الذين ينامون أمام بيتي وأمثال الذين بعثوهم.
يومها جمع الرجل فأسه وبقية أدواته وهرب بحماره دون أن ينتظر أجرته ولم أره ثانية. ما من شكّ أنه اقتنع أن من يتعقبوني على حق في مراقبتي بهذه الصفة اللصيقة. لا زالت مراجلي تغلي من الغضب إلى اليوم كلّما تذكّرت الثمن المطلوب.
– وهل كنت تريد الحمار مجّانا... هل كنت تنتظر من الرجل الفقير أن يهديه لك؟
– لا تفتعلي عدم الفهم.
– طيب. لكن بصراحة هل كنت قادرا على دفع الثمن الحقيقي للحمار؟
– طبعا لا. من يقدر على ذلك؟.لكن ثمة حدود لغباء الآدميين ووقاحتهم. مائة وخمسون دينارا لكائن له ذلك الجهاز العصبي بكل أنواع الخلايا التي قضّيت عمري عبثا في محاولة فهم طرق عملها... ذلك الجلد الأعجوبة... ذلك الجهاز المناعي العبقري... تلك الحواسّ الخمس البالغة الدقة والمهارة والإتقان... تلك النواة وسط كل خلية تحمل المورّثات وكل واحدة منها أعقد مليون مرّة من أي مصنع عصري اخترعه الآدميون..... حفنة من الدينارات قيمة كل الخوارق والمعجزات لتسيير العضلات، لضخّ الدم، لتوليد الطاقة، للتخلص من النفايات، لكل الأنسجة التي تطلب ابتكارها وتجريبها ملايين السنين!!! حفنة من الدينارات قيمة كل ذلك الذكاء المدهش والتعقيد المخيف الذي يكتشفه الباحث، فاغرا فمه من التعجّب والإعجاب، في كلّ خلية.... في كل نسيج....في كلّ عضو! ألا تعلمين أن أبحاثا عن بروتين بسيط أو هرمون يفرزه هذا الكائن العجيب تتكلّف ملايين الدولارات ويقول لي لن أنزل تحت المائة وأربعين دينارا . وفي نفس الفترة كان أمثاله من الحمير- بمفهومك للكلمة- يتهافتون على شراء آلات تنقل، ساذجة، بسيطة، غبية، مصنوعة من أكثر الموادّ بدائية، تقتل، تصمّ الآذان، تلوّث الهواء وتزيد في الاحتباس الحراري الذي يعدّ لنا الكارثة المناخية المقبلة....... بعشرات الآلاف من الدينارات!!!!
– ستجد صعوبة كبرى في إطار قوانين السوق الحالية أن تسعّر الحمار الواحد بمليار دولار وحوت القطب الشمالي بثلاثمائة مليار.....
– لن أترك لك الحوت ولا حتى بثلاثمائة مليار، أما الحمار فلن تأخذيه حتى بعشرة مليار مليار دولار، خاصة إذا كان من ذرية عنتر المباركة.... النمل، الفئران، الماعز، البعير وحتى الإنسان - الجراد مستثنى لأنه غلطة مطبعية - كل هذه الكائنات.... لوحات و سمفونيات لا تقدر بثمن، غير قابلة للتسعير ولا يجوز أصلا بداية التفكير في تسعيرها لأنّ الأمر غباء ما بعده غباء وإهانة للخالق ما بعدها إهانة .
– ما أستغربه ليس أن يودعوك السجن من فينة إلى أخرى وإنما أن يطلقوا سراحك.أنت حقّا إنسان ميؤوس منه.
• من كتاب الرحلة – 5 اجزاء على الموقع
مشاركة منتدى
31 آذار (مارس) 2007, 20:54
حقا يادكتور لكل من إسمة نصيب لقد انصفت عقولنا من كل إلاستبداد والتعسف وبالرغم انة لم يتسني لي قرأة رحلاتك إلا انني جادة في الحصول عليها واخرج الله لنا منصفين جدد ممن تتلمذواعلى رحلاتك