المطبخ
فجأة تأخذني رغبة في فنجان قهوة فأهرع لإعداده مترصدا تصاعد أولى روائحه والأذنان تعبان بنهم من نقر قطرات المطر على الزجاج والعينان مسلطتان على تفيحة وتفاحة كأنهما برزتا لأول مرة من المبهم الأصلي. كم يبدولي هذا المطبخ الصغير، مكانا مشبعا بكل ما يتمناه المرء من العالم.
آه المطبخ! كم تظلمه النصوص- ومنها هذا النص -هي لا تتبحّر في وصفه أوالاعتراف بفضله.
بربك هل يوجد في هذا العالم مكان أحسن من مطبخ دافئ يعبق برائحة القهوة الساخنة وبعطر خفيف لامرأة، تنقر قطرات المطر على زجاجه ويتهامس حول طاولته طفلتان تضحكان خفية من”با"،لا زالت فوق طاولتة قطعتان أوأكثرمن كعكة لذيذة... والبراد عامر بكل أصناف الأكل تؤكد أن عهد المجاعة ولي ولن يعود إن شاء الله.
هذا بخصوص المكان. حدّث ولا تسل بخصوص الأفعال التي يشهدها وكلها أفعال حلال مثل طبخ، صنّف، أكل، تمتع، ازدرد، مضغ، التهم، شبع، أتخم... أفعال تستمد قيمتها الهائلة من عالم عبرته أغلبية المسافرين وفعل جاع أكثر الأفعال تصريفا.
خذ الآن الكلمات التي تستعمل داخله مثل كسكسي بالقاروص، بريك بالتنّ، طاجين جبن،بسيسة بزيت الزيتون الصافي، حلوى شامية ومكسرات، مسفوف بالدقلة والسكر والسمن (لسحور رمضان). أليست بربك أحلى كلمات اللغة؟
تمط شفتيك قائلا لكن المطبخ ليس مكانا جديا على الطريق.يا رجل اتق الله (لا ضرورة هنا للتوجه لأي قارئة حيث لا يمكن لمرأة أن تتفوه بمثل هذه السخافة).
أي مكان غيره يوفر لك أشهى ملذات الرحلة.
هل ساحة المعركة هي التي توفر لك بقلاوة الشوام والكنافة النابلسية للفلسطيننين وبسطيلة المغاربة وبفتيك فريت الفرنسيين ومعكرونة الإيطاليين وسوشي اليابانيين وكرّي الهنود ونام الفيتناميين وكعكة تفاح النمساويين والبطة بالسكرالمحروق للصينيين والسمك بالأرز للسينغاليين؟
أي قيمة أمام هذه الكلمات، التي يسيل اللعاب ويخفق القلب لمجرد ذكرها، للنسبية والواقعية والمادية الجدلية والجهاد والحقيقة والفضيلة والعدالة والوطنية والتقدم والنمووالبيئة وحقوق الإنسان وباقي الكلمات المسببة لعسر الهضم وتعكير المزاج!
وبما أنك تريد أن تغمط حق المطبخ ودوره الهائل في ملحمة البشرية فإنني أقولها وأمشي متحملا كامل مسؤولياتي مجددا: لوكانت لكتب الدين والفلسفة والتاريخ والعلم والقانون والأخلاق جدية ومصداقية كتب الطبخ لما اضطرت الآلهة لمحاولة إغراقنا بالطوفان. قارن مثلا بين وصفات كتب الدين وكتب الطبخ.أيهما أكثر نزاهة وجدية وفعالية ونفعا للبشرية؟ لا شك أن أي حكم نزيه سيحكم لوصفات الطبخ لأربعة أسباب على الأقل.
أولا: هي تصف أشياء موجودة ولا يتقاتل البشر حول وجودها من عدمه مثل البطاطس والباذنجان والبصل والثوم والبقدونس.
ثانيا :هي تفسر طريقة معالجة كل هذه الأشياء بكل وضوح ودون أسرار محجوبة عن المستهلك لا يعرفها إلا الطباخ.
ثالثا: إذا مات المستهلك بالتسمم أوأصيب بالإسهال الحادّ، فهولا يتّهم بعدم فهم وصفة لا يأتيها الباطل من فوق ومن تحت، أوسوء تطبيقها، ولا يحال على التحقيق والتعذيب وحتى على الحرق حيا لبحثه عن وصفة أخرى أنفع، أولإظهاره بداية شك في السلامة العقلية للطباخ.
رابعا : في الحالة المذكورة أعلاه تسحب الوصفة نهائيا من كتاب الطبخ حال ظهور أول حالة أوتعدّل بكيفية جذرية بحيث لا تبقى سائرة المفعول على مرّ القرون تجرّب بإصرار مجنون تقتل الناس وتصيبهم بالإسهال الحادّ ولا من مجال للتخلص منها ومن أصحابها إلا بحرب دينية لا تبق ولا تذر.
ومع ذلك فإن الكهنة وليس الطباخون هم الذين يقودون العالم. بحقّ سكابي وبوكوز وبقية المحسنين للآدمية، ألا تشعر أن الرؤيا وضعت أخيرا الاصبع على الخلل الرئيسي في الملحمة البشرية؟ وفي كل الحالات تذكر أن المطبخ كان أول مختبر تمعن فيه الآدمي في خصائص الأشياء.حقا لا يمكن القول أن التجارب البيولوجية التي أجريت فيه على الدجاج والأرانب كانت غاية في الأناقة، لكن من ينكر أنها كانت انطلاقة السلسلة الطويلة من المعارف التي أدت بنا إلى الاستنساخ.
ثم أنظر أيضا كيف كان المطبخ أول ميدان تطورت فيه علومنا ونحن نسحق الأشياء،نذوّبها ونخلطها ببعضها البعض ونتابع مفعول الحرارة عليها. يا عيب الشؤم أن لا أحد فكر يوما في جائزة نوبل في الفيزياء والكيمياء للطباخ المجهول.
آه بخصوص الطبائع الفيزيائية للأشياء ومفعول الحرارة عليها.
تصرّ”ح”على أن كعكة الشوكولاطة يجب أن تكون صلبة...وأن تسيل من وسطها عند القضم. كيف يمكن للشيء أن يكون صلبا وسائلا في نفس الوقت؟ ها نحن أمام معضلة دوخت كبار الطباخين.
تنهمك”ح”في التفكير المعمق، تخلط أخماسها بأسداسها، أي بيضها بزبدتها بسكرها بالشوكولاطة الذائبة. ثم تضع الكعكة في إناء خاص والإناء في الفرن الذي لا تفارقه مترقبة بعصبية لحظة الحسم. ثم يأتيها أمر من داخلها بأن الوقت حان فتبادر بسرعة لإخراج كعكة إثبات الذات.فشل على طول الخط. الكعكة جافة ولا شيء يسيل منها عند القضم.
أبادر للمديح، خاصة وأنها فعلا لذيذة. عبثا. ها هوالآدمي مواجه بتحدي الأشياء وهولا يحب هذا.
ثاني محاولة: فشل على طول الخط : الكعكة سائلة (على الصدر) ولا أبلد من الشوكولاطةعلى الثياب.
تعود”ح”لكتبها تبحث عن الوصفة الصحيحة وكم من وصفات ستجد وستجرب والفشل هوالفشل. ثمة دوما خلل ما , إما في نسب المواد وإما في درجة الحرارة أومدة الطهي.
شيئا فشيئا يتسلل لي قلقها. أكتشف يوما أن مشاكلي مع الدكتاتور، واستعصاء العالم على الفهم وتسارع السنين ومشاكل الأمة والبشرية، وموعدي الذي أرجئه باستمرار مع طبيب الأسنان، وبقية المشاغل الأخرى، بدأت تتراجع إلى الخلف أمام هذا الملف الضخم. يصبح الموضوع محل نقاش معمق وتجارب لا تنتهي. تعود يوما”ح”من عيادتها وعلى وجهها ابتسامة النصر.
– أنقذتي مريضا؟
– أحسن من هذا.
– اكتشفتي خطأ في تشخيص أحد الزملاء وفضحتي الرجل عند المريض بابتسامة مشفقة.
– أحسن حتى من هذا، أعطتني صديقتي الأرجنتينية حلّ الكعكة. هيا لنجرب.
– الآن؟ في منتصف الليل.
– إنها العملية الأولى ولن تستغرق إلا بضع دقائق. يجب أن أذوّب بعض الشوكولاطة وأن أمزجها بقليل من الزبادي ثم أضع كل هذا في البراد ليلة كاملة ليجمد الخليط وسنستعمله غدا عند طبخ الكعكة.
ومن الغد تعود”ح”لتجاربها الشوكولاطية. تصب نصف خليط البيض والزبدة والشوكولاطة الذائبة على قاع الإناء ثم تخرج من البراد المسحوق الجامد لتضعه فوق هذه الطبقة، ثم تصب فوقه طبقة أخرى من الخليط الأول.
– هل فهمت؟
– طبعا وهل تظنيني غبيا؟
– فسّر.
– إذا اعتبرنا سرعة الضوء في نظرية النسبية العامة...
– لا تكن سمجا. سيصبح سائل الكعكة يابسا بأسرع من الخليط الذي وضعته في داخلها لأن هذا الأخير أبرد بكثير ويحتاج لوقت أطول ليصبح يابسا هوالآخر.
– هذا بالطبع ما كنت أقصده....شريطة أن يكون كلامك صحيحا.
تنسى”ح”وجودي وهي ممسكة بسكين تترصد نهاية الدقائق المحددة بمنتهى الدقة من قبل الصديقة أكبر طباخة مجموعتنا. أخيرا تفتح نافذة الفرن. تغرس سكينها في الكعكة ثم تصرخ بالنصر المبين، والسكين يعبر طبقة سطحية جافة، لكنه يخرج يقطر بالشوكولاطة الساخنة الذائبة وسط ها.
بالله عليك هل ثمة متعة تضاهي متعة الشوكولاطة الساخنة تسيل من جوف الكعكة عند القضم النهم، والحبيبة تفتعل التواضع وتحث على مزيد من المدح؟
يحضرني هنا أن هذا النص لذي أردته من البداية بازارا يجمع ما لا يجمع عادة، تناسى أهمية الحديث عن أصناف الطعام- خاصة المرطبات - بل لا يوجد داخله ولا وصفة طبخ واحدة. إنها حقا لغلطة فادحة أعتذر عنها مبادرا بتقديم وصفة التورتيلا كنوع من جبر الضرر.
انتبه في البداية أن التورتيلا على الطريقة التي تعرف مرفوضة جملة وتفصيلا لأن الاكتفاء بالبطاطاس والبصل وحدهما يعطيانها مذاقا باهتا. إن أحسن وصفة هي التي تتحفك بها الرؤيا هذه الفلسفة العلمية الحاوية لكل المعارف الضرورية لخيرة المسافرين ومنها هذا الطبق اللذيذ الذي يؤكل ساخنا في البيت وباردا على الطريق.
إذن تقول الرؤيا أن طبخ التورتيلا يكون كالآتي:
– قلي البطاطاس والبصل كما في الوصفة الإسبانية
– إضافة قلي الباذنجان والطماطم والقرع والفلفل، كل على حدة.
- تنشيف ما قلي بالورق الأبيض لتخليصه من فائض الزيت.
- تقطيع كل هذا بالشوكة والسكين ومزجه بعناية مع الملح والتوابل. قلت تقطيع ولم أقل عجن.
– خض ثماني بيضات على الأقل وإضافة ملعقة من الماء الساخن. لماذا الماء الساخن؟ الله أعلم وكذلك عم”ح”الذي أوصى قبل موته بعدم جواز خلط البيض دون إضافة ملعقة من الماء الساخن.
أنبه القارئ أنه لا يجوز له مطلقا إطلاق اسمي على ما سيرتكب إن لم يضف هذه الملعقة.
– وضع الخضر في مقلاة بها قليل من الزيت الساخن.
– سكب البيض (هل أضفت ملعقة الماء الساخن؟) على عجين الخضر هذه واسمه الكفتاجي.
هنا تبدأ الصعوبات حيث لا بدّ من التجسس بملعقة من الخشب على قاع التورتيلا حتى لا تلتصق وقلبها في صحن دون إراقة شيء، وإعادة قلبها من جديد حتى ينضج ما كان فوق. في حالة عدم فهم ما أقصد يمكنك إعادة القراءة ببطء فأنا واثق أنني أحسنت الوصف.
تسأل ماذا أفعل بالشيء إذا رفض الأطفال وأمهم، أكلها. ثمة حلول عدة منها سكبها على رؤوسهم، ومنها رميها من النافذة لا يهم على رأس من تسقط. لكن ما تنصح به الرؤيا هوتوخي الحذر تجاه الحلين سالفيّ الذكر وأكلها لوحدك لتكتشف الغلطة التي كنت سترتكب لواستسلمت لشيطان الغضب.
وعلى ذكر هذا الطبق، فإنه لا يفوت النص هنا تقديم بالغ الاعتذار باسم الإنسانية جمعاء لكل دجاج الدنيا والآخرة على ما سرق له منه من بيض، وكذلك على ما عرف من خنق وذبح وسلخ وقلي وما تعرض له من طبخ بكل الوسائل الوحشية.كما يتقدم بتعازيه لأولياء الضحايا سابقا ومستقبلا. وبالمناسبة أيضا يتقدم بنفس الاعتذار الخالص لكل الكائنات التي اضطررنا لبالغ الأسف لالتهامها. كما لا يفوته التقدم بكل الشكر والامتنان للأشجار التي أظهرت حس تعاون مع البشرية الجائعة كان له بالغ الأثر في نفوسنا جميعا، وأود أن اخص بالذكر التي أعطتنا التمر والزيتون واللوز والتين والعنب.
تقول نسيت القمح والذرة ناهيك عن الفلّ والياسمين والحبق والنعناع حتى ولوكانت نباتات لا تمضغ.
يا أخي من منعك من شكرها وإمضاء عرائض المطالبة بإقامة التماثيل لها وإطلاق اسمها على المدن والشوارع؟ شارع البرغل، ساحة الطماطم، زقاق القرع. يا للسخرية أن يطلقوا على شوارعهم أسماء كبرى المجازر وأن يكون لكل جزار كبير ساحته وتمثاله.
على فكرة من أعانك أكثر على مرارة الحياة؟ السكر والعسل والزبيب والفستق واللوز والبندق... أم خالد بن الوليد وطارق بن زياد وابوعبيدة الجراح؟
وفيما يخصني قد قررت أن أذهب لأبعد من إعادة تسمية الشارع والساحات لأغير اسم البلد الذي ابتليت به وأبتلي بي، حيث سيفقد من هنا فصاعدا اسم بوليسستان ليصبح زيتونستان وعاصمته دقلاية (تنطق القاف جيما على الطريقة المصرية)
تسأل ما دقلاية هذه؟ اعلم يا جاهل أنها النخلة الملكة في صحرائي - وأنها بالرغم من أنف كل العراقيين والمصريين،ولا أتحدث عن الإيرانيين والكالفورنيين وبقية الشعوب المتطفلة على تعهد النخيل- هي التي تعطى أحلى تمور ومن ثمة أحلى فواكه هذا العالم المرير. ماذا؟ تصرخ فيّ هل نسيت أنها أيضا نخلة صحراء الجزائريين وأن دقلتهم أحسن من دقلتكم. يا رجل اتقي الله في إثارة النعرات والغرائز الآدمية، أتريد لهذا النص – خاصة في هذا المقطع الذي حرصت على أن يكون بالغ الوداعة – أن يتسبب في حروب لا تنتهي بين وادي صوف ونفزاوة قد يسميها المؤرخون حروب التمر ويعطونها أرقاما أخشى أن تطول!
تحتج أن القضية ليست عالقة فقط بين شعوب النخيل وبأن زيتون أرضك أحسن من زيتون أرضي ومن ثمة لا مجال للاستئثار به. لماذا الخصام وعالمنا الآن لا يحكمه الوطنيون والقوميون والمتدينون والعنصريون وبقية الأغبياء الخطرين وإنما الطباخون،وهم كما نعرف بشر لا أكثر منهم براجماتية وميلا لإرضاء كل زبائنهم!
اتفقنا إذن على أن يكون اسم بلدي زيتون - ياسمينستان،واسم بلدانكم المختلفة زيتون- فلستانّ، وزيتون-برتقالستان، وزيتون- أرزستان، وزيتون- زعترستان،وزيتون - عنبستان،... وأوزوتاراما –زيتونستان وصالصا بومودور- زيتونستان وأولي تورو–زيتونستان.
ما على سكان المناطق الأخرى إلا أن ينهجوا نفس المنهج والحمد والشكر لله على كثرة الأشجار المثمرة والنباتات العطرة. هكذا يحفظ الأطفال دروس جغرافيا جديدة لها ألوان وروائح ومذاق الحياة وليست تلك الملطخة بالدم.