الثلاثاء ١ آذار (مارس) ٢٠٠٥
قصة قصيرة
بقلم محمد نجيب عبد الله

الحياة الأخيرة !!!

كنت قد متّ ست مرّات قبل الآن ... لذا لم يكن بديهياً و لا منطقياً لماذا يطلبون منّي الموت للمرة السابعة الآن ... لم نكن نعلم بالقطع هل يعيش جنسي سبع مراّت أم تسعاً ... و لكنني لم أكن أريد أن أجرّب ... خاصّة أن العديد من أقراني لم يكن قد مات مرّته الخامسة بعد ... بل إن بعضهم – بالطبع لن أذكر لكم أسماءهم – ماتوا مرّتين فقط أو ثلاثة على الأكثر ... لطالما وددت لو تركوا لي حياتي السابعة – ربما الأخيرة – تلك فترة أطول ... إلا أن القرار قد صدر بالفعل و تلقيّت إخطاراً بتسليم نفسي خلال ثمانية و أربعين ساعة على الأكثر و إلا حدث ما لا يُحمد عقباه ... بالطبع لم أكن أعلم ما الذي لا يُحمد عقباه إن كانت هذه ستكون ميتتي الأخيرة !!!

لم أرد أن أبلغ أحداً بالقرار الذي صدر لي ... خاصة مع جهلي إن كنت من الذين يموتون سبعاً أم تسعاً ... سيعلمون جميعاً عند اختفائي من حيواتهم أنني ما عدت موجوداً ... سيحدث بعض الهرج و المرج في مكان عملي و لكنهم سيعيدون توزيع ما تبقى من أعمالي على بقية الزملاء ... و لن تحدث حينها مشكلة ... هذا عن العمل ...

أما عن أصدقائي ... فالعمليون منهم لن يشعروا بشيء البتة و كأني لم أكن يوماً صديقاً لهم ... أما العاطفيون ... فسيبكون مدداً تتراوح ما بين ثلاثة أو خمسة أيام على الحد الأقصى ... و بعدها ستتكفل مراكز إعادة التأهيل و بث النسيان على إعادتهم لطبيعتهم سريعاً ... فلن تحدث مشكلة هنا أيضاً ...

أووووووبس .....

لقد نسيت حبيبتي ...

من المعروف أن الحبيبات عادة ما يستغرقن وقتاً طويلاً في افتقاد مَن يحبّون ... خصوصاً لو كانوا من المميّزين مثلي ... فقد كنت من أوائل مَن التزم بعدم التحدّث أكثر من ألف و خمسمائة كلمة يومياً ... و اخترت بنفسي أن أضع عدّاداً لحصر كلماتي اليومية ... بل أني وصلت حدّا من البراعة بحيث أني كثيراً ما كنت لا أتجاوز الألف و ثلاثمائة كلمة فقط في اليوم الواحد ... ثم أنني كنت أفضل مَن اتبع نظام الوجبة الواحدة ... بل و تفننت بأن امتنعت عن الطعام نهائياً أياماً كثيرة ... و استغنيت عن الغرفة الرئيسية و الحمّام بمنزلي ... فقد كان استخدامي لهما شحيحاً ... كم أنا فخور بنفسي ... لا أعرف كيف ستعيش حبيبتي من بعدي ؟!! إنها مسكينة حقاً ... لن يصرفوا لها مَن يعوّضني سوى بعد دهر من الزمان ... و ربما لا يجدون لي تعويضاً و ستظل هي تفتقدني بلا أمل ...

ماذا سأفعل الآن ...

أنا في أجازة لمدة يومين ... و هي متعة لا يتم وهبها إلا لمن هم مقبلون علي ميتتهم السابعة ... و لا بد أن أستغلّها جيداً ...

مسموح لي أن أتجاوز حد الكلمات ... و لكنّي لا أظنني سأفعل ... فاعتيادي على قلّة الكلام أنساني الكثير من الجُمل و التراكيب اللغوية و الكثير جداً جداً من الكلمات ... إذا كان مسموحاً لك بأن تتكلم ألف و خمسمائة كمة فقط في اليوم الواحد لوجب عليك التفكير كثيراً قبل أن تفعل ... فينتهي بك الأمر بألا تفعل ... و هذا هو ما وصلت إليه ... و ليس معنى أنني سأموت ... أن أتغيّر قبل مماتي ...

لا يخفى على ذكائكم أنه مسموح لي تناول ما لذ و طاب من وجبات يومية و يمكنني استخدام غرفتي الرئيسية و الحمّام ... و كل شيء ...

بل أنه يمكنني أن أذهب لأي مكان و أفعل أي شيء مجاناً ...

هذه الميتة السابعة ... ليست شيئاً هيناً ...

ماذا تفعلون لو كنتم مكاني ؟!!

يمكنني أن استعين بأحد مراكز تنظيم الميتة السابعة و هم سيضعون لي برنامجاً للاستمتاع باليومين الآتيين ... إلا أنني لن أفعل ...

اتصلت بحبيبتي ... و أخبرتها ... فجاءتني على عجل و وجهها يحمل اللوعة و الجزع ...

 إيه الإفترا ده ... هوّه ما فيش حد غيرك ... ده انت لسّه ميّت المرة السادسة من كام شهر ... و فضلت مستنيّاك ييجي أسبوع على بال ما رجعت ...

 معلش يا حبيبتي ... نصيب ... نعمل إيه ...

 أنا مش هاقدر أعيش من غيرك ... إنت إللّي ليّا في الدنيا دي ...

 ما تقوليش كده ... بكره تتعوّضي باللّي أحسن منّي ...

 أما مش عايزة إللّي أحسن منّك ... أنا عايزاك إنت ...

 بس ...... أنا ........ خلاص ......

 و .... أنـــا ....... مـعـــاك .......

ترقرت دمعة ساخنة على خدّها ... و هي تردف ...

 أنا هاتبرّع باللّي باقي لي لحد تاني ...

 يا مجنونة ده إنت لسّه فاضلّك حياتين ...

 هادّيهم لأمّي ...

 بس دي عندها سكر و ضغط و جلطة في المخ ... هاتعمل بيهم إيه ...

 هادّيهم لأمّك ...

 إنتِ عارفة إنها محجوزة في سراية المجانين ... حد يدّي واحدة مجنونة حياتين ؟!!

 خلاص ... هادّيك واحدة ... و يتفضّل ليّا واحدة ...

و هنا تهلّل وجهها ... و هتفت ....

 يلا بينا ... ما تضيّعش الوقت ... تعالى بسرعة نروح مركز تبادل الحيوات ... و أنا هاتبرّع لك بحياة ...

 يا حيبتي الكلام ده مؤثّر جداً ... و أنا حاسس إن الدمعة هاتفرّ من عيني ... بس أنا ماقدرش آخد منّك حاجة زي دي ...

 بلاش تخريف ... هاتاخدها غصب عنّك ...

 حبيبتي المفروض إن أنا إللّي أدّيلك ...

 إنت ياما إدّيتلي حاجات كتير ... سيبني أنا بقى إللّي أدّيلك حاجة المرّة دي ...

أحسست بالندم لأني أخبرتها و تمنيّت من قرارة نفسي ألا يجوز مثل هذا التبرّع إلا أنني ذهبت معها حتّى لا أغضبها أكثر من ذلك ... في الطريق كنت أحسست بالجوع – ربما للمرّة الأولى – فألححت عليها أن نأكل شيئاً قبل استكمال المشوار ... فوافقت على مضض ... فهي لا تريد أن تضيّع المزيد من الوقت ... كما لا تريد أن ترفض لي طلباً في ساعاتي الأخيرة ... فجلسنا نتناول الطعام في مطعم فخم ... فأنا لن أدفع شيئاً ... أنا ما زلت في فترة سماح الميتة السابعة ... استأنفنا ما انقطع بيننا من حوار دافئ ... حين أحسست ذبذبة هائلة في جنبي ... لقد تجاوز مؤشر الكلمات حدّه المسموح ... أغلقت العدّاد ... فأنا مسموح لي بالتجاوز ... إنها ميتتي السابعة ... ثم بدأت الموسيقى فقمنا للرقص – و نحن لم نكن لنرقص من قَبْل – في حيوية ... و بعد انتهاء الرقص ، قبّلتها قـُبلة طويلة حارّة في ثغرها ... أثارت حسد كل مراقبينا ... و لكنني لم أحفل بهم ... فأنا في فترة السماح ...

جرفنا الوقت السعيد فنسينا موعد مركز التبرّع بالحياة و وجدناه مغلقاً ... و لأننا كنّا قد استمتعنا كثيراً ، فإن لوم جبيبتي و اعتراضها جاءا مُخفَّفَـيْن ... و لخشيتها أن يمر الوقت هكذا غداً و عندها يأزف بنا الوقت – و ربما لأي سبب آخر – أصرّت أن تبيت الليلة عندي ... خصوصاً و أنه مسموح لنا باستخدام الغرفة الرئيسية و الحمّام كما تعلمون ...

في الشقة جلسنا متلاصقين متجاورين على الكنبة الوثيرة بالغرفة الرئيسية و لكننا لم ننطق بشيء ... تبادلنا النظرات ... ثم بدأ كل شيء فجأة ...

تملّكتنا روح حيوانية شبقية غريبة ... و في لحظات امتدت شفاهنا و أيدين تلعق و تلمس و تلثم و تهصر و تعتصر كل ما تجده في طريقها ... لم تعُقنا ملابس أو تحفّظات ... كلّها سقطت أرضاً ... و بدأنا نمارس فعل الحب في أكثر درجاته بدائية ... في عنف أحياناً ... و في رقة أحياناً ... لم أعرف كم مرّة فعلنا ... و لكن ما حدث و يحدث جعلني أتمنّى لو أن ميتتي السابعة كانت قد جاءت مبكراً عن ذلك كثيراً !!!

لم ننم ... و لم نتوقف ... و لم يعد أحد منّا يعلم أيّ ساق ساقه و أي ذراع ذراعه ... لم نبال بصرخاتنا العالية و تأوّهاتنا الماجنة و الشبق يزلزل جسدينا ... بل أننا استأنفنا ممارسة فعل الحب ثانية أثناء الاستحمام معاً ... ثم و نحن نتناول طعام الافطار ...فقد فاجأنا النهار و نحن لا زلنا مشتبكين في سيمفونية تعزفه أجسادنا المتعرّقة ... و عندما فرغت من تناول الافطار ... خرجت للبلكونة الوحيدة بشقتي ... عارياً كما ولدتني أمّي ... مستمتعاً بحرية اللحظات الأخيرة و عيون حبيبتي تتابعني في حنوّ بالغ و هي منكمشة على نفسها على الكنبة كقطة سيامية تمارس طقوس الميوعة و الدلال ... استنشقت هواء الصباح الباكر الذي يبدو كما لو أنّه لم يلوّث بعد في عمق ... ثم زفرت في قوة ... عاودت الكرّة عدّة مرّات ...

الآن فقط أدركت كمّ الأشياء التي افتقدتها طوال حيواتي السبع الموشكة على الانتهاء ... كم كنت أحمقاً و غبياً ...

أرسلت لحبيبتي قبلة عبر الأثير ... ردّت عليّ بالمثل ...

فتحت ذراعيّ ... فهرولت ناحيتي – عارية هي الأخرى – لتستقر في حضني في شوق ... ضممتها في قوّة كنت أسمع معها صوت ضلوعها و فقرات ظهرها و هي تطرقع و لكنها لم تتألم ...

اليوم هو اليوم الأخير ما قبل تسليم نفسي ...

اليوم سنذهب لتتبرّع لي بحياة من حياتيها المتبقيتين ...

اليوم لا يهم ماذا سيحدث ... و هل سيرفضون هذا العرض أم لا ...

اليوم أدركت أنّي حـيّ ...

و أنّـي أحـب ...

و أنّـي سـأعيــش ...

و لو ليــوم واحـــــد !!!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى