الخميس ٢ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٦
بقلم محمد نجيب عبد الله

و لكن القافلة تسير...

- 1 -

الصفعة الباردة ألقتها في وجهه... "سأتزوج"...

الكلمة الملعونة قذفتها بها بعد سنوات ثلاث...

يبلغ سرعة مجنونة... أعمدة الكهرباء تعبر ناظريه في ومضات متتالية... نفير السيارات حوله يتصاعد... يزيد ضجيج الأفكار المتدافعة كالحمم إلى رأسه...

أكان صيداً سهلاً إلى هذا الحد؟!

وهي... مجرد امرأة رخيصة؟!!

بركان الغضب ينفجر دموعاً في عينيه... إحساس مضنٍ بالقهر... الخديعة... الندم... هل أحست يوماً كم كان يحبها بجنون... كم غرق فيها كما يغرق المراهق في أول قصة حب...

الدموع... المطر... الليل... منحنيات الطريق الزلقة...

تخشّبت قدمه على دوّاسة الوقود... غاصت بها إلى القاع...

بين جفونه... تقتحمه صورتها... التي كانت يوماً ما جميلة...

زادت سرعته... تعتمت الرؤية تماماً... كل شيء يتأرجح في هلع... المنحنى الأخير... المنحنى الأخيـر... عجلة القيادة لا تطاوعه... صرير رهيب... ارتجّ رأسه بعنف فكان الظلام الدامس والدوامات السوداء...

- 2 –

همهمات غامضة تأتيه من مكان بعيد... أضواء خافتة وأخرى مزعجة...

أهو الموت؟!

أيدٍ غريبة تتناوله في حزم... جفونه ثقيلة... لا يكاد يرفعها قليلاً حتى يرى الممرات البيضاء تركض على جانبيه... المعاطف البيضاء تركض معه... كمامة يتسلل منها الهواء خفيفاً موضوعة على وجهه... إبرة رفيعة انغرست في ذراعه... الخدر يسري في جسده... وبينما الدوار يشتد وقبل أن تظلم الدنيا تماماً... ظهرت أمام عينيه المرهقتين......

الـلـعـنـة!!!!

هل يجب أن تدفعه امرأة للنهاية....... وتصحبه أخرى إليها؟؟!!!

هل يجب أن يأتي الموت بهذه الأيدي الملساء كالحيّة؟؟!!

همست: "– كل شيء سيكون على ما يرام... ستكون بخير..."

أراد... حقاً أراد... أن يخبرها... يصرخ فيها... يقسم لها... أن شيئاً لن يكون على ما يرام... شيئاً لن يكون بخير... طالما أن امراة ما تتحرك في محيطه الضيّق... تتنفس الهواء ذاته الذي يتنفسه...

ولكن الوعي لم يمهله... إذ عاب عنه... ثانية!!!

- 3 –

هل يؤلمه جسده؟

لا يدري...

إن آلاماً عنيفة تمزّق قلبه... تعربد في أعماقه...

ما جدوى كل الأشياء؟!

إن العالم مكان كريه حقاً...

هل كان يسعى للإنتحار حين انطلق بسيارته بتلك السرعة المروّعة؟!

ربما... لِمَ لا؟!...

إن كانت كل الأمنيات تتخلى عنه... كل الأحلام تخونه... مرة أخرى كان كابوس السنوات الثلاث يعبر خاطره في صورة أطياف... كم يكره نفسه... يكره حلمه المقتول على أعتاب الواقع... و يكرهها... يكرهها لأنها قدمت قلبه قرباناً لتنال الأفضل الذي لم يكن ليمنحها إياه بإمكانياته الأقل في سوق التنافس الذي وضعته فيه بماديّتها الحمقاء... كل الأشياء لا تزال مختلطة بعنف... مشاعره الجريحة ترفض فكرة البقاء... مجرد أن يفتح عيونه على لون السماء الذي يذكّره بعيونها الزرقاء يجعله يتمنى الموت ألف ألف مرة...

فيلجأ للغوص في الظلام ثانية!!!

- 4 –

حدة السواد تخفت تدريجياً...

وما بين الغفوة والغفوة... كان يراها واقفة قباله... بنظرة حنان تجعله يتمنى اللجوء لصدر أمه... ملتمساً بعض العطف يخفف سطوة الألم...

إحساس - غامض مبهم - أن وراء تلك العيون السوداء المتطلعة إليه بإشفاق... خلل ما...

"– ها نحن ذا قد تجاوزنا مرحلة الخطر..."

بحنان همست في أذنه وأصابعها النحيلة تعبث بخصلات شعره كما تداعب الأم – التي تمناها – طفلها... فتح عينيه عليها... شعرها الداكن المصفف بعناية أسفل "الكاب" الأبيض... ملامحها الناعمة... صوتها الذي ينساب إليه - رغم أنفه – مخترقاً سدود الكآبة...

عقدت حاجبيها في عتاب وأكملت:

"– ألا يستحق هذا الخبر منك... حتى ابتسامة؟!"

تنهد بيأس وتمتم:

"– هل تظنين ذلك؟!"

بدهشة أجابت:
"– أي إنسان سيفرح على الأقل بنجاته من موت محقق..."

لم يجبها...

إنها على حق...

أي إنسان سيفعل... أي إنسان سواه!!!

لِمَ أنقذوه... يقذفونه إلى آتون الألم المُرهِق...

ألا تعرف كيف يصبح الموت أحياناً أمنية...

ألأن مهمتها الصراع ضد الموت؟؟!

أما كان حريّاً بها أن توفر جهودها لشخص يريد الحياة...

عادت أناملها تعبث بشعره... صوتها الحاني يتخلله من جديد... في أرق وأعذب صوت همست كالموسيقى:

"– أعلم كيف تصبح الحياة أحياناً مهمة شاقة... لكن الألم يخبو بعد حين... ليفسح مجالاً لأحداث أخرى..."

للمرة الأولي... يغمض هو عينيه...

بدا مستمتعاً باقترابها منه على هذا النحو...

هذه المرة... هي أيضاً على حق!! هل هي دوماً كذلك؟!

يعود رأسه يؤلمه... صورة حلمه القديم تقتحمه باعثة الحنق من جديد... كل الأشياء تهتز... إلا أن ابتسامتها الحانية تحاول انتشاله وهي تتمتم في خفوت:

" – دعنـي أساعـدك على تجاوز الألـم..... "

هل يسمح لها أن تفعل؟! هل يسمح لإمرأة أخرى أن تتدخل في حياته ثانية؟؟

هل يمكن أن تقتله إمرأة........ و.... تـحـيـيـه... امـرأة؟؟؟!

التردد... الحيرة... الخوف المبهم...

قاوم بعض الوقت...

قاوم بشدة أي وجود أنثوي في حياته...

لكنه اكتشف فجأة أن مقاومته كلها هراء... وأنها تنساب إليه دون أن يشعر... تتسلل عبره دون أن يملك حق صدها... تشرق عليه كل يوم... عيناها البراقتان تفيضان رقة... ابتسامتها الناصعة كالفجر تمتلئ عذوبة...

هل اعتاد وجودها؟؟!!

يدرك الآن أن الأمر يتجاوز بكثير مرحلة الاعتياد... وأنها أصبحت بعضاً منه... الجزء الرائع في أعماقه... إنها أطهر من الأطفال... أجمل من الفراشات... أكثر شفافية من الملائكة.... اعـتـيـاد!!!!!!

إنها تجري في دمائه... تسري في أنفاسه... تتدخل في المنحنيات الدقيقة في نفسه... تغفو عند الليل تحت جفونه... وحين تأتيه كل صباح يزداد تشبثاً بالحياة... إنه لا يستطيع أن يموت الآن... لن يسمح لشيء أن يبعده عنها ولو كان سطوة الموت!!!

الليلة... عندما تأتي... سيعترف أنه يحبها... إنه لا يذكر الآن هل عرف العشق قبلها... كأنه وليد لم يعرف طعم الحياة من قبل...

دخلت... تطلع إليها بشوق... أراد احتواءها تحت أهدابه كما يفعل كل ليلة...

تحدثت إليه بالمرح والرقة المعتادين... تداعبه... احتضن كفها بين يديه فجأة... نظرت إليه بحنانها المألوف... كانت أناملها النحيلة تستكين في يده... في حنين همس: "– أحـبـك...."
ثم أردف: "– لا أظنك بحاجة لهذا الاعتراف... تعلمين أن للحياة وجه واحد الآن... هـو وجـهـك... تعلمين أني أحتاج نبضك... كي أستطيع البقاء.."

اضطربت وازدادت عيناها بريقاً كأنما هي موشكة على البكـاء.....

اقتربت منه متمالكة نفسها... وانغمست أصابعها في شعره كعادتها... قلبه يخفق بجنون... نظرت في عينيه مباشرة... لا يستطيع أن يحتمل نظراتها المسددة إليه طويلاً... إذ ينصهر تحت وطأتها...

غمغمت: "– أعلم ذلك... لكن الحياة لا تحمل وجهاً واحداً أبداً... أما النبض الذي تحتاجه للبقاء حقاً... هو نبضك أنت... يجب أن تتعلم كيف تحب حياتك أولاً... قبل أن تحب أي شخص آخر... عندها فقط... سأوقن أن الذي تحمله لي عشقاً بحق..."

وانسحبت في هـدوء... كالأطيـاف... وتركته وحـيـداً...

الدموع مكتومة في عينيه...

إنها مخطئة هذه المرة الأولى... إنه يحتاج إليها حقاً... لا يستطيع لها فراقاً... لا يبغي من حياته سواها...

ولكن مهـلاً...

لِمَ يندفع إلى جرح جديد بينما قديمه لم يندمل بعد؟؟!!

مرة أخرى هي على حق!!!

لماذا لا يستطيع أن يرى حقيقة الأشياء إلا حينما تخبره بها؟؟!!

عـلـيـهـا الـلـعـنـة...

إنها ليست إلا صورة مكررة من الكابوس السابق!!!

لكنه هذه المرة لن ينهار... لن يكتب اسمه ثانية في قائمة الضحايا... سيندمل الجرح ويعود أصلب مما كان... فذروة الضعف هي نفسها التي توصل إلى قمة القوة... ولسوف يصل!!!

- 5 –

كالعادة....

كانت غرفة الممرضات خالية حين ولجتها... إنها تشعر بالإرهاق ككل مرة... نظرت إلى نفسها في المرآة... كل شيء يتبدل في سرعة كأن القناع الشمعي الأملس الذي يغطي ملامحها يذوب ويذوي فجأة...

أتلك هالات سوداء تحيط بعينيها؟؟! ربما هي نتاج التعب والسهر الطويل... هي كذلك... ولكن أين ذهب ذلك البريق المعتاد؟؟! علامات الإجهاد تحفر أخاديدَ عميقة بملامحها الناعمة... الابتسامة الواثقة الدائمة على شفتيها تتجمّد... ما هذا؟؟! شعيرات بيضاء تطل عليها بتحدٍ من أسفل "الكاب"!!!

كم هو مرهق هذا الاستنزاف العاطفي المستمر رغم إيمانها بقدسية مهنتها وأن قليلاً من الحب يصنع الأعاجيب... شيئاً من الحنان يعيد الحياة إلى جسد ميت...

ذلك هو الطـُعـم الذي ترميه بمهارة كي تنتشلهم من بحار اليأس... نفس الطـُعم يمنحهم القوة لمقاومة آلام عملية الصيد...

لكنها عملية مرهقة... إلى الحد الذي تطبع فيه بصمات ثقيلة غائرة تنتهك قسماتها... ترسم تجاعيد قبيحة على وجهها... تغتال لون شعرها الداكن...

إلى متى؟؟ ربـاه إلـى مـتـى؟؟؟!! يجب أن تسفك كل قدرتها بالتعاطف مع أناس لا تربطهم بها صلة... أناس لا يدركون كم تبذل لأجلهم... ينعتونها بالخيانة حين يكتشفون أن مشاعرها لم تكن غير نوع آخر من العلاج... إلى متى يجب أن تعطي دون أن تدخر شيئاً... بعد فترة ستنتهي تماماً... لن يعود هناك ما يمكن أن تمنحه للآخرين... ولا ما يمكن أن تستبقيه لنفسها...

مسكينة هي... مسكينة حقاً......

حاولت أن ترسم على شفتيها ابتسامة حقيقية... فشلت كالعادة... كل مرة تفشل... كل مرة يؤلمها الفشل... حتى اعتادت عليه... يجب أن تحيا بوجهين... الوجه الباقي لها دوماً... يفتقد كل البريق... كل علامات الحياة... يفتقد الابتسامة... النضارة... النعومة... الـ.......

بحكم العادة...

اقتحمت خلوتها إحدى زميلاتها هاتفة بها:
"– أسرعي... هناك مصاب في حادث انتحار... حالته حرجة... ويريدونك هناك..."

بسرعة... كانت تعدل وضع "الكاب" على رأسها لتخفي الشعيرات البيضاء... وترسم على شفتيها ابتسامة حانية... تستعيد البريق المفقود في عينيها... بيديها تمحو علامات الضجر والارهاق عن ملامحها لتعود نقية... تركض في الممرات البيضاء... مع المعاطف البيضاء... تضع قناع الأوكسچين على وجه الشاب... تعد محقناً رفيعاً تغرسه في ذراعه... وحين فتح الشاب عينيه في وهن وذعر... تخللت شعره بأصابعها وهي تهمس له:

"– كـل شـيء سـيـكـون عـلـى مـا يـرام...

.... سـتـكـون بـخـيـر..."


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى