الثلاثاء ٨ شباط (فبراير) ٢٠١١
بقلم عمار علي حسن

الخروج الآمن للشعب

حين مرض حسنى مبارك قبل سنوات تداول المصريون بحسهم الفكاهى اللاذع نكتة تقول إن أحد المقربين من الرئيس نصحه بأن يوجه خطابا يودع به الناس، فنظر إليه وقال: «إلى أين سيسافر الشعب؟». بعدها خرج علينا إعلامى كبير مقرب من النظام الحاكم وتحدث عن «الخروج الآمن للرئيس»، وقبل المصريون بتسامحهم التاريخى المعهود هذا الأمر، وانتظروا وصفحوا وغضوا الطرف عن المظالم القاسية، لكن مبارك فاجأ الجميع فى خطاب لاحق أمام البرلمان أكد فيه بقاءه فى الحكم حتى النهاية، أو «حتى آخر نفس وعرق ينبض»، وراح فى الوقت نفسه يمهد الطريق أمام توريث نجله الحكم.

ورغم ما شاب الانتخابات الرئاسية من عوار وانعدام تكافؤ بين المتنافسين جعلها لا تزيد على «استفتاء محسّن» تصرف مبارك طيلة السنوات السابقة بوصفه رئيسا منتخبا، بعد أن زج وصيفه أيمن نور فى السجن، وجلس على كرسى الحكم ينتظر مجموعة أخرى من «الكومبارس» تخوض معه انتخابات 2011، لكن الرياح جاءت بغير ما تشتهى سفن النظام، ثورة جديدة بدأت بـ«الفيس بوك» لتنتقل إلى «الناس بوك» وتزلزل عرش الاستبداد والفساد، رافعة شعارها الأثير: «الشعب يريد إسقاط النظام» وقائلة للرئيس بصوت هادر: «ارحل».

مبارك لم يستجب. صمت ثلاثة أيام كاملة ثم خرج بخطاب ينطوى على وعد ووعيد، وقرر تشكيل حكومة جديدة، ثم عين نائبا له وهى خطوة رفضها على مدار ثلاثين عاما، وبعدها راح يقدم بعض رجال نظامه كباش فداء، ويتراجع تكتيكيا، ويعد بإصلاحات جزئية، لكن كل الميادين الثائرة ردت عليه: «ارحل»،

فلم يجد له سندا غير الجيش بعد أن انكسرت ذراع الأمن المركزى الباطشة أمام غضب الشباب الثائر. وأخذ الرئيس يمارس اللعبة القديمة مع الغرب «إما أنا أو الفوضى» «أنا الجدار العازل أمام قفز الإخوان المسلمين على السلطة»، لكن صوت الغرب، الذى فهم كل شىء، جاء: «الآن يعنى الأمس».

فى ميدان التحرير سألنى شاب فى الليلة الأولى: «متى سيقول فهمتكم؟» فابتسمت وقلت له: «ليس الآن على أى حال». وسأل آخر: «كيف سيكون الخطاب الأخير؟»

فأجبته: «ربما لا يجد وقتا لإلقاء مثل هذا الخطاب». كبرت الثورة واكتسبت ملايين جدداً وأماكن جديدة، لكن عيون مبارك ظلت معلقة بالغرب، يراه ولا يرانا، فقد كان معقل آماله وسنده فى أن يبقى محتفظا بحكمه كل هذه السنين بوصفه «الصديق» و«الحليف» الذى معه تطمئن أوروبا والولايات المتحدة إلى تحقق أمن إسرائيل، وضمان تدفق النفط، وانسياب التجارة الدولية عبر قناة السويس، ومكافحة الإرهاب الدولى.

يعاند الرئيس الزمن، ولا يقف طويلا عند سُنن التاريخ ومعطيات الحياة، ولا يريد أن يتذكر أن الغرب يتخلى عن حلفائه إن لفظتهم شعوبهم، إذ ليست هناك قوة فى الأرض تقف أمام «شعب يريد». ويبتلع الرئيس ريقه ويعاند عناده، ويتوجه بخطاب عاطفى قدم نفسه فيه كأب للمصريين، «ولد وعاش وحارب وسيموت ويدفن فى أرض مصر»، لكن نظامه أرسل بعد ساعة واحدة مجموعات من البلطجية وأرباب السوابق والسجون لتقتل أبناء الرئيس فى ميدان التحرير، ويرد الثوار: «جمعة الرحيل».

أيام مليونية، وجمعتان للغضب والرحيل تباعاً، لكن مبارك لا يلقى بالاً للشعب، ويتوجه ليخاطب الأمريكيين عبر شبكة «إيه بى إس» قائلا: «فاض بى الكيل وأريد الرحيل لكن أخشى الفوضى»، ونعرف من كريستيان أمانبور،

وليس من تليفزيون الفقى، أنه موجود برفقة أسرته فى القصر وحوله حراسة مشددة، وندرك بعد ساعات أن الرئيس يسعى لالتقاط أنفاسه من جديد، من خلال إصلاحات داخل حزبه. يطالبه الناس بأن يُعبّد لهم الطريق فيطلى شقته، ويقول لهم بثقة يحسد عليها: «استجبت لمطالبكم».

يفتح شاب فى الثامنة عشرة من عمره صدره لرصاص الشرطة فى شارع قصر العينى فيجلس رفعت السعيد مع عمر سليمان ليتحاور، وتستمر لعبة الترويع والتجويع والترقيع، لعل النظام يعيد ترتيب صفوفه، ويوظف معارضته التى صنعها على عينه ورباها ورعاها فى تطويق الثورة وتفريغها من مضمونها، معتقدا أن بوسع «الجمل والحصان والحمار والسنجة والجنزير» أن تواجه «الفيس بوك وتويتر والموبايل» ومبدأ «سلمية.. سلمية»، وبوسع الإعلام «الكاذب العبيط» الذى تفوح رائحته العفنة من مبنى ماسبيرو أن يصد ويرد ويخفى الحقائق إلى الأبد.

يذهب «الحكماء» و«المعارضون المستأنسون» إلى المكاتب المغلقة لاهثين وراء الحدود الدنيا والفتات المتاح، بينما يصرخ الشباب فى الميادين المفتوحة: «لا تفاوض إلا بعد الرحيل» ولا ينتظرون أحدا، ولا يهتمون بالمهزوم الذى انكسر ظهره ويجلس على المقهى يتثاءب، ويروض الوقت، يأكله الندم لكنه يحلم بأن يستعيد عافيته، ويضرب بعصاه الغليظة من جديد، ليبقى هو ويبحث الشعب عن «خروج آمن».

يتم كل هذا والرئيس يعد الدقائق كى تكتمل مدته، مراهناً على تعب الحناجر التى تصرخ برحيله، والأيادى التى تضرب الهواء مطالبة بإسقاط نظامه.

يراهن مبارك دون أن يكلف نفسه ساعات قلائل ليقرأ تاريخ الثورات، ويعرف أنها تقوم ولا تقعد حتى تحقق أهدافها، وأنها قد تمضى بين مد وجزر، بين كر وفر، لكن جذوتها لا تموت، وموجاتها المتلاحقة تكبر باستمرار، وأن التظاهر هو أحد أشكالها، وليس نهاية مطافها، وأنها قد تمتد من الميادين إلى المؤسسات، ومن العاطلين إلى الموظفين، ومن الأفراد إلى الروابط السياسية والاجتماعية، وأن إبداعاتها لا تنتهى.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى