السبت ٨ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٧
مقاربة لخصوصية النص والطرح الصوفي
بقلم خالد إبراهيم المحجوبي

الخطاب الصوفي بين الفتنة والاغتراب

تقديم عارض:

لايكفّ عالم التصوف عن إثارة الباحثين في ساحته لاجتراح التساؤلات ، والافتراضات ، والتخمينات ، بناء على الإرث الصوفي المتواصل المتجدد الذي لم يسجل تاريخ الفكر بعد انقطاعه عن التواصل مع العصر الحديث ، لكونه نتاجاً إنسانياً قبل أن يكون طائفياً ، أو أيديولوجياً . وكل منتج إنساني هذا حاله لابد أن يستعصي عن الانقطاع ، وأن يتعالى عن التحقيب الزمني وآثاره ، خلافاً لما تكون عليه عادة النظريات (المؤدلجة) أو المشاريع الفكرية الخاصة .

ولاجرم أن من أهم عناصر الظاهرة الصوفية ، ما اصطلح على تسميته بالخطاب الصوفي ، الذي رأيته منغمساً في معنيي الفتنة ، والاغتراب ؛ وهما معنيان لايزالان في طور التشكل على مستوى الطرح البحثي المتعلق بالخطاب الصوفي ، وهذا البحث مقاربة درْسية للخطاب الصوفي من حيث تأصل الفتنة والاغتراب فيه تأصلاً سانخاً مكيناً .

مدخل مفاهيمي :

تؤوب كلمة الفتنة معجمياً إلى الجذر (ف ت ن) الذي يحمل دلالات أشهرها الابتلاء والاختبار ، والإعجاب ،بالشيء ، والإحراق. ( )
إن مفهوم الفتنة يستحضر علاقة بين طرفين : طرف فاتن جاذب مؤثر ، وطرف مفتون منجذب متأثر . إذا ًهما طرفان يصنعان حالة الافتتان لكل منهما مواصفاته التي لاتتحقق إلا في حالة اكتساء الآخر مواصفات أخرى مترتبة عنها وهي الانجذاب والتأثر .وأود التوكيد هنا على إن كلمة الفتنة لم تتخذ بعدُ استعمالا تواضعياً ، فلم تتخذ كلمة الفتنة صفة مصطلحية في أي مجال معرفي حتى الآن، فهي إذا ليست مصطلحا وهذا أمر يزيد من مشقة دراسة كل موضوع تكون الفتنة وصفاً له ، ولست أوافق من يقول إن الفتنة صارت مصطلحا كما يرى بعض الباحثين ( ).
استقرّ لكلمة الفتنة في الاستعمال الحديث معنيان رئيسان :

الأول : الخلاف المؤدي إلى تشاجر وتصادم وتفرق بين الناس ،وهذا معنى استعمله القدماء من ذلك وصف بعضهم ما حدث بعد اغتيال عثمان بأنه الفتنة الكبرى ، ووصفهم ما حدث في عهد المأمون بشأن موضوع خلق القرآن بفتنة خلق القرآن.

الثاني : الحالة التي يصلها الإنسان متأثراً بشيء جميل بديع ، ومن هذا الباب وصفت المرأة شديدة الجمال بأنها فاتنة .
إن واقع النص الصوفي جامع لكلا المعنيين السالف عرضهما ، فهو نصٌ فاتن مستجلب للخلافات والشقاق ، وهو أيضا ًوهو أيضاً خطاب فاتن بارع الجمال فاحش البهاء ، ولاجتماع هذين المعنيين فيه فهو أولى الخطابات بوصف الفتنة.
أما كلمة الخطاب ففي الاستعمال الشائع تعني كل ما يكتب أو ينطق موجها إلى الغير لأجل إيصال فكرة ما .وهي عائدة للجذر (خطب) الحامل لمعان أهمهاالكلام الموجه.

وما نعنيه بالخطاب الصوفي هو ما يسميه بعض الباحثين بالنص الصوفي ، وغيرهم باللغة الصوفية. فالمراد هنا بالخطاب الصوفي ما أنتجه الصوفية النظريون من القوالب اللغوية ومحمولاتها المعنوية ، أعني الآراء والطروحات الفكرية.
مراحل الخطاب الصوفي :
لم يتخذ الخطاب الصوفي صورته الفاتنة بادئ الأمر إنما مر بمراحل حتى بلغها ، تلك المراحل أراها ثلاثة هي:

1- مرحلة التدقيق في الخطاب التقليدي ، حيث تم استعمال اللغةالتقليدية على نحو مركز كما الحال عند الجنيد والمحاسبي.

2- مرحلة الشطح، وهي مرحلة لم يسلم أهلها لأن الخطاب الشاطح عاش متهما دائما لكونه خطاباً صدامياً بما يحمله من معان مستشنعة في الظاهر ، لايبدو لناظرها انطواؤها على مخفيات معنوية هي المرادة دون الظاهر الشاطح ، كما هو في بعض كلام رابعة العدوية ، ثم أبي يزيد البسطامي ، والشبلي .

3- مرحلةالخطاب الفاتن ، وهي التي مهد لها البسطامي ، ثم أرسخ قواعدها الحلاج بوضوح في كتاباته التي استغلقت على فهوم الناس خواصهم وعوامهم ، حتى روي أن بعض شيوخ التصوف كانوا يستثقلون كلامه .

ومن الظاهر أن الحلاج لم يتّكل بشكل تام على هذا النوع من الخطاب الفاتن ، بل استخدم الخطاب التقليدي أيضاً ، من ذلك ما نجده في قوله ((من ظن أن الألوهية تمتزج بالبشرية ؛فقد كفر)) . وقوله ((إن معرفة الله هي توحيده ن وتوحيده تمييزه عن خلقه ، وكل ما تصور في الأوهام فهو تعالى بخلافه ، كيف يحل به ما منه بدأ))( )
إن الحلاج في هذا النص يستخدم خطاباً تقليدياً على نمط الخطاب الفقهي السائد قبل عصره وأثناءه . وكانت ذروة الخطاب الحلاجي الفاتن في كتابه (الطواسين) بعدما نجح في تفجير اللغة _حسب عبارة يوسف زيدان_ بعدما ترك أساليب الصياغة اللغوية الشائعة في عصره حيث فجر(( كل التراكمات اللغوية والدلالية)) .

وفيما يتصل بالموضوع الصوفي العام فإن الفتنة حالّة فيه حلولاً مكيناً مستوطنة خطابه المميز ، مكتسبة معنيين لصيقين بهذا الخطاب المتصوف ، ذانك المعنيان هما اللذين أسميهما :المعنى الجمالي للفتنة ، والمعنى الجِدالي للفتنة .
إن هذين المعنيين هما أهم ردائين اكتساهما الخطاب الصوفي ، فضلاً عن رداء آخر لا يقل أهمية عنهما هو رداء الاغتراب وهو ما سيأتي تفصيله تالياً.

أولاً : المعنى الجمالي للفتنة: أعني به شدة الانجذاب لمصدر مؤثر قائم على بهاء مفرط وجمال زائد عن المعتاد من مصادر الجمال .
ثانياً: المعنى الجدالي للفتنة : أقصد به العداوة والخصومة المتولدة عن جدال صدامي ناتج عن خلاف بين طرفين أو أكثر ،من ذلك فتن الفرق والطوائف التي ملأت التاريخ الإسلامي بمشاكلها وعقدها.

لقد استطاع الخطاب الصوفي خلق الفتنةالجمالية ، والفتنة الجدالية كليهما ؛ حتى ملأ التاريخ الفكري والسياسي للحضارة العربية والإسلامية ؛ فكان مصدراً قوياً رابياً للفتنة ، حيث صدرت عنه بمعنييها _ أعنى المعنى الجمالي ، والجدالي _.
ابتدع الصوفية النظريون ضروباً طارفة من التعابير وأشكالاً حادثة من الأساليب على هيئات لم يستألفها عالم الكتابة والتصنيف عند العرب والمسلمين ، إلا في آخرات القرن الثالث الهجري ، وكان الرائد الأهم في هذا المجال هو أبو مغيث الحلاج المقتول عام 310هـ، الذي إن نوزع الريادة ، فلا يمكن نزاعه الأهمية.

فهو الذي أربك من جايله ،ومن تلاه بخطابه المـُغرب ، هذا برغم سبقه بمحاولات لم تصل إلى درجة قوة وشهرة وتأثير خطابه هو ، تلك المحاولات السابقة تكاد تنحصر في أبي يزيد البسطامي المتوفى سنة 261هـ.
ولم يزل الإغراب المعنوي هو الصفة الأنهد للخطاب الصوفي بعد الحلاج ، خالقاً فتنة جدلية خلافية استتبعت صدامات ومآسي حلت بساحة أهل التصوف النظري الذين قدموا قرابين كثيرة ثمناً لخطابهم الفاتن .

وقد حاول كثير من أهل التصوف التخفيف من حدة الإغراب المعنوي بوضع معاجم صوفية لبيان وتجلية الحُمُولات المعنوية للمصطلحات الصوفية التي هي مادة الخطاب الصوفي . من أشهر تلك المحاولات ما سطره محيي الدين بن عربي المتوفى عام (636هـ) في رسالة له بعنوان (اصطلاح الصوفية) . وما كتبه عبد الرزاق القاشاني في كتابيه : رشح الزلال ، واصطلاحات الصوفية ، بناء على طلبات من بعض العلماء الذين استغلقت أمامهم أبواب فهم الخطاب الصوفي ، وفي هذا يقول القاشاني ((...لما فرغت من تسويد شرح كتاب منازل السائرين ، وكان الكلام فيه وفي شرح فصوص الحكم ، وتأويلات القرآن الحكيم مبنياً على اصطلاحات الصوفية ، ولم يتعارفها أكثر أهل العلوم المنقولة والمعقولة...سألوني أن أشرحها لهم ...فتصديت بالإسعاف بسؤلهم)) .
وقد أسهمت هاته الأعمال المعجمية في تخفيف حدة الانغلاق المعنوي الدلالي للخطاب الصوفي الذي ارتدى عباءات الغموضية ، والغمامية ، والعمائية ، أثناء عملية اجتياحية مربكة لعالم التصنيف والتأليف باللسان العربي .

بواعث الإغراب في الخطاب الصوفي :

لقد اجترح الصوفية ضرباً مميزاً من الأساليب والمصطلحات كسوْا بها خطابهم وكان مرجع ذلك الإغراب الخطابي مايلي:
1- دافع موضوعي : وهو عجز اللغة التقليدية عن الوفاء بما يكفي للدلالة إلى المعاني الصوفية الدقيقة العميقة.
2- دافع ذاتي : وهو تعمد الصوفية الازورار عن مألوف الأساليب والمفاهيم اللغوية ، لأجل الحفاظ على إشاراتهم ومعانيهم أن تصاب بتشويه فهمي ، أو إنكار مؤذٍ من طرف العوام غير المطلعين على دقائقهم ، وغير المستكنهين لأعماقهم.
إن ذلك الإغراب جاء مقصودا وسط الساحة الصوفي للتعمية على من يسميهم ابن عربي ((علماء الرسوم)) ومما يؤكد ذلك ما ذكره ابن عربي في مقدمة رسالته اصطلاح الصوفية فقال عن غير الصوفية ((...مع عدم معرفتهم بما تواطأنا عليه من الألفاظ التي بها نفهم بعضا ًعن بعض كما جرت عادة أهل كل فن من العلوم ))
الاغتراب الصوفي :
الاغتراب مصطلح غير قديم شيوعه ، استوطن أكثر من ساحة معرفية وتخصص علمي محملا بدلالات متغايرة ، فهو يمتلك صلاحية الدلالة على ثلاثة مفاهيم أساسية ، هي التالية :-
1_ المفهوم الأول:- يعزى إلى الغرابة والإغراب حيث يتحقق التزّيل عن السائد والمألوف من الأفكار والأشياء فتتشيأ الغرابة إلى سمة ملازمة ووصف لصيق . وقد أصبح هذا المصطلح أخيراً ملازماً لقائمة النعوت الملصقة بالمجتمعات المعاصرة في بيئتها العلموية كما هو حال مصطلح التشيؤ والتّسلّع والتوثّن .
2_ المفهوم الثاني :- الذي يدل إليه مصطلح الاغتراب مفهوم التوجه والانكفاء إلى الغرب بما يحوى من ثقافات وعادات مما يُحدثُ حالة ضدّية معاكسة لحالة التّسلّف أعنى الانقلاب إلى التراث السالف والاعتماد على رموز . وهــذا هو ما يتوهــم الكثيرون أنه حقيقة الأصالة فيرونها رجوعاً واتكاءً ، لا تقدماً وبناءاً .
وظاهرٌ أن هذا المفهوم هو الأكثر اعتمالاً والأوسع نفوذاً في ساحة الكتابات العربية التي صارت إلى استعمال مصطلح الاغتراب منذ زمن غير بعيدفانضمّ إلى منظومة المصطلحات المحدثة التي اجتاحت عيون وآذان القراء العرب .

3_ المفهوم الثالث لمصطلح الاغتراب يدل إلى حالة نفسية وجدانية يعيشها الإنسان الذي لم يوفّق إلى تحقيق التآصر أو التماهي مع محيطه بمكوناته الفكريــــة والسلوكية فيكـوّنُ ذلك الإنسان حينها مع محيطه وعالمه علاقة لا تجاوز كونها علاقة جغرافية فحسب وهذا هو حال كل صاحب قيم مثالية ومبادئ أنموذجية وسط العالم العولمي حيث تسود المعاني المتجسدة للتوثّن والتشيّؤ والتبلّد والتنميط تحت إشراف الإنسان ذي البعد الواحد المؤمن عملياً بموت الإله .

ومن التيسير أن نسمي كل مفهوم باسم يدلّ إليه فنقول بشأن المفاهيم الثلاثة السابقة إن حالات الاغتراب هي :-

 الاغتراب الفكري
 الاغتراب الجغرافي
 الاغتراب النفسي

إننا إذا ماولجنا عالم التصوف النظري عند المسلمين سنلقى للاغتراب وجوداً غير خافٍ وتمكناً غير واهنٍ ، إلى درجة تقودنا إلى تأكيد وجود الاغتراب بمفاهيمه الثلاثة السالف ذكرها جميعاً مستوطنة الساحة الصوفية النظرية ،في تنقلاّت غير نسقية ،وتفاوتات نسبية واقعة بين أقطاب وممثلي تلك الظاهرة التصوفية ، حيث نجد مثلاً المفهوم الأول فقط عند بعضهم ،ثم نجد الثاني والثالث عند آخرين ، ثم نجد الأول والثالث عند غيرهم، كما قد يلابس بعضهم أحد تلك المفاهيم حيناً من عمره ثم ينفك عنه إلى غيره كما هو حال أبي حامد الغزّالي الذي عايش الاغتراب النفسي والفكري تم تحرّر عنهما بعد حين كما صرّح بذلك في كتابه المنقذ من الظلال (9) .

لقد كادت كل تصريفات الغربة والغرابة أن تستوطن ساحة الصوفية النظرية فوُجد فيها الإغراب والاستغراب والاغتراب والغرابة والغربة والتغرّب والتغريب وإلى كل هذه المصطلحات وُجدت مقتضياتها من قبيل التوتّر، والقلق ، والتميز، والشذوذ ، والإبداع .
كلُّ أولئك سالت به أدوية التصوف النظري فألقت به في بحيرة التراث الإسلامي ؛ فانزعجت به عقول ، واشرأبت إليه قلوب ، وتأسست عليه مناهج ، وارتفقت إليه مناتج ، وسوّدت منه طروس ، وقُطّعت فيه رؤوس ولنستذكر هنا رأس الحلاج ، والسهروردي .
لقد لجأ كثيرون إلى الاغتراب بوصفه وسيلة للانبعاث من بئر التخلف الذي تحقق للأمة الإسلامية أن تنحضج فيه قروناً طويلة . وفي كلامنا هنا عن الاغتراب سنهدف إلى معنى واسع مما يحمله هذا المصطلح وهو اجتراح مفارقة ما للمألوف الثقافي على الصعيدين الفكري والاجتماعي بخاصة .

إن المألوف الثقافي الذي أعنيه هنا يحوي الموروث الديني والقيم الاجتماعية التقليدية . فضلاً عن الوسائل التعبيرية _ تحديداً اللغة الأسلوب _
و لا جرم أنْ كان التصوف النظري أهمَّ المكونات التراثية التي حققت واقعية الاغتراب بمعناه المذكور قبل قليل .
إن الاغتراب الصوفي بهذا المعني يجيء شاخصاً في صورتين هما الاغتراب التفكيري ، والاغتراب التعبيري وقد تمثلت هاتان الصورتان عملياً في كل من :-

1_ النزوع إلى عوالم فكرية غربية عن الثقافة الإسلامية وذلك بعد الاتصال الفكري الحاصل غبّ إطلاع المسلمين على ثقافات اليونان والفرس والحضور .

2_ اللّجوء إلى عوالم تعبيرية طافرة ، وطارفة مُبدَعة ، لا عهد لأساليب العرب بها ، و لا وشيجة إليها من دلالاتهم المألوفة وهذا ما سوّغ القولَ بأن الصوفية قد ابتكروا لغة خاصة بهم .

إن تينك الصورتين هما المظهران الرئيسيان لما تحقق لدى الصوفية من إغراب واغتراب وهذا ما سأقاربه الآن من خلال تحديد موجز وتشخيص مصغّر لكلٍ من الاغتراب التفكيري والاغتراب التعبيري .

أولاً : تشكلات الاغتراب التفكيري :-

قامت هذه التشكلات على أفكارٍ ونظريات دخيلة إلى ساحة الثقافةو والاشتراع الإسلامي فنشأت ثم تطوّرت تلك الأفكار تحت إشراف النفوذ الغنوصي والنزوع الاستبطاني الذي اتجهت نحوه عقول الصوفية النظرية فانغمست في لحجه ثم ارتفقت على ثبجه .
إن تلكم الأفكار ثم إقامتها على أسس ثلاثة هي :-

1_ نظريات جاهزة ورثت عن الاغريق وفلاسفة الشرق كنظريتي الفناء ووحدة الوجود .

2_ مواجيد داخلية شخصية استشعرها الصوفي فعبرّ عنها فظهرت في هيئة أفكار مغتربة عن مألوف ثقافته وثوابت عقيدته بمعالمها التقليدية .

3_ تأملات ذاتية تمتاح من مساحات الخيال المبدع ذلك الخيال الخلاّق الذي كان ابن عربي من رؤوس أربابه وأنوف روّاده .

لقد كان من أهم روافد الاغتراب التفكيري ما جاءت به فلسفات الشرق والغرب إلى ساحة المسلمين والمتصوفين من أهم تلك النظريات الوافدة ما يلي :-

1_ نظرية الفناء التي ليس في الوسع نكران أصولها الهندية المنطلقة مما عرف بطريقة الباكتي وتدعى طريقة الحب ومفادها ماعبر عنه الجرجاني بإيجاز حين عرف الفناء بأنه (( عدم الإحساس بعالم الملك والملكوت بالاستغراق في عظمة الله ومشاهدة الحق))(10) وفي تلك الطريقة يتم الارتقاء إلى حالة تسمى " السامادي" فيتحقق الذهول والغياب عن الذات ظاهراً وباطناً (11) وهذا ما يسنح في غير جلاء ضمن كلام للجنيد البغدادي ، لكنه سيكون أوضح وأصرح لدى البسطامي ، والشبلي .

2_ نظرية وحدة الوجود هذه موروثات فلسفة الإغريق من لدن المذهب الأيوني الذي ذهب إلى أن مجموع الوجود هو الله ذاته ، كمـا قـد صرح بهذه النظرية "اكسنوفان" ( 580 / 480 ق . م ) حيث جعل الألوهية حاضرة في العالم ومطابقة للوجود الثابت الذي لا يتبدّل (12) .

3_ نظرية الحلول هذه أتت من تراث المسيحية بعد أن عبث بها " بولس" ، والمجامع المسكونية . وهي - أي نظرية الحلول - مما التقمه بعض الصوفية النظريين في سياق اغترابهم التفكيري والشواهد على ذلك كثيرة لعل من أصرحها ما نلقاه في أشعار ابن الفارض من ذلك قوله رامزاً للذات الإلهية بضمير المؤنث :

لها صلواتي بالمقام أقيــمها
وأشهد فيها أنها لي صلّتِ
كلانا مصل واحد ساجـد إلى
حقيقته بالجمع في كل سجدة
وما كان لي صلى سواي ولم تكن
صلاتي لغيري في أدا كل ركعةِ (13)

كما يقول :-

ففي الصحو بعد المحو لم ْ أكُ غيرها
وذاتي بذاتي إذ تحلّت تجلّت
فوصفي إذا لم تُدع باثنين وصفها
وهيأتها إذ واحدٌ نحن هيأتي (14)

ثانياً :- تشكلات الإغراب التعبيري :-

لقد أنجز الصوفية النظريون اغتراباً ذريعاً على المستوى التعبيري وحصرياً في اللغة والأسلوب فظهر لهم لغة متميزة لم يألفها العربي وجاءت في مسبوكات أسلوبية غير تقليدية حتى صار مستألفاً أن تطالع نصاً صوفياً فلا يسنح لك فيه مايمكن استيعابه ، ولا تظهر لك منه بارقة معنى فقد صار جل كلامهم أقرب شئ إلى طلَّسمات أو ألغازٍٍ غابت دلالاتها في بطون أصحابها وقد حققت تلك اللغة اغتراباً تعبيرياً بامتياز .
جاء اجتراحهم إياها مقصوداً لأجل باعثين هما :-

1_ كي تبقى أفكارهم ومعانيهم في نطاق طائفتهم بمعزل عن إدراك الأغيار والمخالفين فهي تعابير وتصاريف داخلة نطاق المضنون به على غير أهله ونرى أن " القشيري " قد أكد هذا الغرض حين قال في رسالته عن المتصوفة أنهم " يستعملـون ألفاظـاً فيما بينهم قصـدوا بها الكشف عن معانيهم لأنفسهـم والاجمال والستـر على من باينهـم في طريقتهـم لتكون معاني ألفاظهم مستبهمة على الأجانب"(16) إن خفاء معاني كلامهم جعل التوحيدي يقول : " ما أحوجنا إلى عالم منطيق يكشف لنا كلام هذه الطائفة "(17) .

2_ الباعث الثاني :- كون اللغة التقليدية بتعابيرها وأساليبها قاصرة أو عاجزة عن الافصاح الكاشف للمواجيد الصوفية وما يمور فيها من معانٍ وأفكار مجاوزة لما استقر في عقول غير المتصوفة ن ومفارقة لما استألفه عوام الناس وخواصهم من الخارجين عن نطاق التصوف النظري وأعماقه أولئك الذين وصفهم القشيري بالأجانب (18) وسمّاهم ابن عربي " علماء الرّسوم " (19)وجعل موقفهم من الصوفية كموقف الفراعنة من الرسل .

الحواشي والهوامش

1- للتوسع ينظر لسان العرب لابن منظور – مادة فتن 5\3344 وما بعدها . ومختار الصحاح للرازي ص241

2- ويخالفني في هذا الرأي إبراهيم محمود ، فهو يرى أن كلمة الفتنة صارت مصطلحاً انظر كتابه (الفتنة المقدسة ) دار رياض الريس – بيروت – ط1- 1999- ص18

3- انظر تفصيل ذلك ف ترجمة الحلاج في سير أعلام النبلاء للذهبي

4- أخبار الحلاج ص47

5- نفسه ص31

6- المتواليات :دراسات في التصوف- يوسف زيدان – الدار المصرية اللبنانية – القاهرة - ط 1- 1999- ص25

7 - اصطلاحات الصوفية – القاشاني – تصحيح وتعليق: عاصم الكيالي—دار الكتب العلمية – بيروت – ط1 – 2005- ص9

8 - اصطلاح الصوفية – ابن عربي – وهي رسالة مطبوعة صحبة كتاب رشح الزلال للقاشاني – دار الكتب العلمية بيروت -ط1 -2005- ص169

(9)- انظر كلامه في دخوله مذهب السفسطة ثم انفكاكه بعد نحو شهرين وتحوله إلى مذهب الوثوقية. وقد أرجع الغزالي الفضل في ذلك إلى نور قذفه الله في صدره لا إلى براهين وأدلة وهذا ماصرّح به في ص (10) من " المنقذ من الظلال " ط دار المعارف سوسة. تونس .

(10) - انظر التعريفات للجرحاني ص 192 .

(11) - انظر التصوف المقارن – محمد غلاب ، مكتبة نهضة مصر ، القاهرة ط 1 _ ص 144 وبعدها .

(12)- تاريخ الفكر العربي إلى أيام ابن خلدون ، عمر فروخ ، ص 60 – 72 – 73 ويرى جولد زيهر أنهانظرية منتحلة من الافلاطونية الجديدة انظر كتابه ( العقيدة والشريعة في الاسلام ) ص 144 .

(13)- ديوان ابن الفارض دار النجم ، بيروت ، ط 1 – 1994 ص 87

(14) -ديوان ابن الفارض. ص 87

(15)- الرسالة القشيرية . تحقيق عبد الحليم محمود و د. محمد بن الشريف . دار الكتب الحديثة . 1/ 218 .

(16) -البصائر والذخائر . أبو حيان التوحيدي . نشره أحمد أمين وأحمد صقر – لجنة التأليف والترجمة – القاهرة . 1953 / ص 48 .

(17)-انظر الرسالة القشيرية ، 1/ .218

(18)-انظر (الفتوحات المكية) ابن عربي .تحقيق: عثمان يحي .الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 4/264

المصادر والمراجع

  1. ( أخبار الحلاج) –جمعه وقدم له سعدي ضناوي وهو مطبوع مع ديوانه وطواسينه – دار صادر – بيروت- ط1 – 1998.
  2. (البصائر والذخائر) . أبو حيان التوحيدي . نشره أحمد أمين وأحمد صقر – لجنة التأليف والترجمة – القاهرة – 1953
  3. ( التصوف المقارن) – محمد غلاب ، مكتبة نهضة مصر ، القاهرة ط 1
  4. (ديوان ابن الفارض) - دار النجم ، بيروت ، ط 1 – 1994
  5. (الرسالة القشيرية ). تحقيق عبد الحليم محمود و د. محمد بن الشريف . دار الكتب الحديثة.
  6. (اصطلاحات الصوفية) – عبد الرزاق القاشاني – تصحيح وتعليق: عاصم الكيالي—دار الكتب العلمية – بيروت – ط1 – 2005-
  7. ( اصطلاح الصوفية ) – محيي الدين بن عربي – وهي رسالة مطبوعة صحبة كتاب رشح الزلال... للقاشاني – تصحيح وتعليق عاصم الكيالي -دار الكتب العلمية بيروت -ط1 -2005
  8. (الفتنة المقدسة ) – إبراهيم محمود- دار رياض الريس – بيروت – ط1- 1999-
  9. (الفتوحات المكية) ابن عربي .تحقيق: عثمان يحي .الهيئة المصرية العامة للكتاب
  1. ( المتواليات :دراسات في التصوف) - يوسف زيدان – الدار المصرية اللبنانية – القاهرة - ط 1- 1999

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى