الدراما السورية مهددة بالتراجع الذي عرفته الدراما المصرية
شوقي الماجري.. أسطورة منسية في زمن ما زال يبحث عن أسطورته.. حكايته غريبة.. عجيبة.. متفرّدة .. كلحن رومانسي .. كتبها طموحه بحبر مقدود من حلمه الآتي من رحبة أشهر أحياء تونس العاصمة " باب سويقة" التي اختارها محطة يستريح فيها ، بين كل رحلة ورحلة في الزمان والمكان والإنسان... هناك تحت ظل طفولته وبين أحضان أمه وتحت نظراتها يحلو له المكوث استعدادا لرحلة قد تأخذه إلى " إخوة التراب " و صراعاتهم أو " الأرواح المهاجرة " و أحلامها أو " الطريق الوعر" و آلامها أو "شهرزاد "وحكاياتها أو "عمر الخيام "وأشعاره .. وهاهو الآن يحط الرحال في جنين الفلسطينية وأوجاعها ليخلد " الاجتياح " الذي تعرضت له من ماغول هذا الزمن..
.. قدره كأبطال الملاحم الرحيل في الفضاءات بقلبه و بصره.. زاد المبدع الحقيقي وتاجه الوحيد... نال العديد من التتويجات منها الجائزة الذهبية لأحسن إخراج عن مسلسل "أبناء الرشيد أو الأمين والمأمون".. لكن التتويج الحقيقي الذي ينتظره هو أن يفيد وطنه تونس بالكنز الذي يحمله في روحه... هو الآن هناك.. في أرض ما يحلم كل نجوم التمثيل بالوقوف تحت ضوء قمره.. لكن قلبه هنا في تونس.. لقد طال انتظارنا لك يا صديقي.. وأحلم أن لا ينفذ صبرك.. وحتما سيعانق الوطن حلمك.. لأن الأوطان كالإنسان لها أحلامها..
بادرني شوقي بطلب غير عـادي قـائلا:
أنا من سيحاورك، سأسألك وتجيبني بكل صراحة؟
– تفضل ماهو سؤالك الأوّل؟
– ماهي حكايتكم مع الحوارات... أنا غاضب قليلا من الصحفيين التونسيين – وهم أصدقائي – لأنني أرى أنهم قادرون على كتابة تحاليل للأعمال التي نقوم بإنجازها، لكن للأسف لم أقرأ مقالات نقدية حقيقيّة تكون بمثابة صدى لما يقدّم من إبداعات.
– أنا أتفق معك فلم أقرأ ولو مقالا نقديا حقيقيا واحدا عن الأعمال الدرامية التي عرضت على الفضائية التونسية تونس7 أو غيرها من الفضائيات العربية..هناك غيابا واضحا لهذه النوعية من المقالات في الصحافة التونسية. و أرى أنه يجب أن يكون هناك مجهود جدّي أكثر من المبذول حاليا إذا كنّا نعتبر أن ما ننجزه تتوفر فيه جدية تستحق أن يكتب عنها.
– وبما أنّك أثرت هذه الإشكالية، (غياب النقد الجدي) هل لك أن تتحدث عن أسبابها؟ وماهي الحلول التي تقترحها؟
– إما أن تكون الصحف أصبحت تخضع لهذا التوجه أي أنها لم تعد تعتمد المقالات التحليلية العميقة، وأصبحت جرائد أخبار وانطباعات، أو أن هناك نقص في الكفاءات القادرة على الرؤية والكتابة بعين ناقدة وتحليلية، أو صار ثمّة نوع من الكسل، أو أشياء أخرى لا أعرفها ..
– وما هو الحل الذي تقترحه؟
– القضية شائكة
– فعلا هي إشكالية كبرى ومحيّرة في الصحافة التونسية؟
– الحل موجود لأن الجرائد التونسية في السابق كانت تتضمن المقالات التي أشرتُ إليها. وهو حسب رأيي بيد الصحفيين أنفسهم الذين عليهم أن يفرضوا هذا النوع من المقالات ولا يبقوا في الشكل الحواري أو الانطباعي...
– هذه ظاهرة تونسية لأن الجرائد في البلدان العربية الأخرى..
– (يقاطعني) فيها كل الأساليب والأشكال الصحفية. وتفشي هذه الظاهرة في تونس هي حالة مرضية عاجزة عن تحقيق أي إضافة، وتحديدا الهدف الأساسي من الصحافة ألا وهو التقدّم بكل المجالات. لأن ماهو موجود انطباعي. أنا مع الشكل الحواري لكن لا يجب أن يصبح كل شيء.. فما يهم المبدع هو أن يتم الحديث عن أعماله بطريقة تحليلية حتى تتحقق له الاستفادة المرجوّة، و حتى لا يكرّر نفسه. وفي كل الحالات حديث المبدع عن إبداعه ليس محبذا، لأنني أعتبر حديثي مقارنة مع ما أنجزه ساذج ومرتجل. أترك لك المجال لتبدأ حوارك ..
– رغم الظروف التي أنجز فيها مسلسل "الأمين والمأمون" فإنه حقق نجاحا كبيرا وكل الاستفتاءات اختارته أفضل مسلسل، واختارتك أحسن مخرج لرمضان 2006، بماذا تفسر هذا النجاح؟
– هناك عدّة عوامل تكاثفت وتناغمت حتى يكون المسلسل بمثل هذه الجودة، و لو أنجز في ظروف أحسن لكان أفضلا. و عموما هو عمل كل عناصر مكونة له وصلت إلى درجة هامّة من الهرمونيا اللاّزمة من الكلمة والنص والموضوع والطرح الفكري وأماكن التصوير والممثلين والموسيقى وإيقاعه وعرضه الأول كان في MBC ، وكل هذه الشروط ساهمت في أن يأخذ المسلسل حقّه، وجاء عملا دراميا بالقوة اللازمة. خاصة وأنه متماهي مع ظرفه. وحسب رأيي فإنه كاقتراح فكري وفني وسياسي متفاعل مع لحظتنا الراهنة وجاء في وقته.
– يتحدّث "الأمين والمأمون" عن الفترة العباسية ، لكن في عمقه يتجاوزها ليكشف المرحلة الحالية ومن هنا تتأتى إضافة شوقي الماجري لأن المسلسلات التاريخية السابقة حافظت على بعدها التوثيقي وتمسكت به، لكنك منحت التاريخ أبعادا فكرية وسياسية وفنية معاصرة ومنحته حياة جديدة.فهل قمت بذلك عن قصد؟
– طبعا قصدت تحقيق هذه الإضافة 100% ، لأنني عندما أنجز عملا تاريخيا طموحي لا يتمثل في تقديم متحف متحرّك من المعلومات عن فترة ما، فهذا لا يهمّ أحدا اليوم. إن ما يهمني عندما أنجز عملا تاريخيا هو أن نراه نحن أبناء اليوم بنظرة معاصرة تحيل علينا وإلينا. لذلك فإن الاقتراح الذي أنجزت وفقه هذا المسلسل هو ضدّ إعادة فترة وشخصيات معينة بطريقة غير متحفية تقوم على إعادة تقديم المعلومات. فقد سعيت إلى تقديم قراءة عصرية عن تلك الفترة تطالنا نحن اليوم و تهمنا كثيرا ، فمثلا عندما أطرح أسئلة لها علاقة بالسلطة أعتبر أنها عمود فقري في مسلسلي لأن مسألة السلطة خطيرة جدّا، وكذا مسألة الدولة، وذلك لأكشف أنه حتى الممارسين للسلطة بما فيهم الرشيد نفسه يكون مضطرا لفعل ما حتى تبقى الدولة والسلطة، وهذه الأخيرة هي أقوى حتى من الممارسين لها. فالسلطة هي التي أدخلت "الأمين" و"المأمون" في حرب فرضت عليهما رغما عنهما .كنت أتساءل مع الممثلين اللّذين تقمصا دورهما، ماذا كان يحدث لو تقابلا الأمين والمأمون بعد الصراع، الأكيد أن الوضع سيختلف، وسيأخذ مسارا مغايرا كليا لما حدث ، لأن ما وقع فرضته عدة معطيات منها الحاشية والتأثيرات السياسية وغيرها بسبب السلطة، و هي التي فرضت حربا نتيجتها الحتمية قتل أحدهما. أنا أحبّ بشكل خاص عدّة لحظات في مسلسل "الأمين والمأمون" وتحديدا المتعلقة بالجانب الإنساني الفردي الحميمي لشخصيتهما، وهي ميزة عموما لم نكن نشاهدها في المسلسلات التاريخية. ومنها مثلا: مشاهد الأمين وهو في لحظات خلوته في الليل وهو يقول بصدق لا متناه أنا لا أرغب في السلطة ويا حبّذا لو يعفيني المأمون من الصراع معه"، والعكس أيضا حدث عندما يقول المأمون في قمّة لحظات صفائه : " لماذا لست مثل عمر بن الخطاب وأبا بكر الصديق رضي الله عنهما في طيبتهما؟ لماذا أنا الرجل الذي كنت أؤمن بأن السلطة لا تعني لي شيئا فجأة أحسست بأن هذا الكرسي الوثير يشدني إليه ويأسرني". طبعا كل هذا تمّ في لحظات ذاتية عندما يختليان بأنفسهما كلّ واحد على حدة، وهو يعني أن هناك أشياء أقوى من الإنسان في علاقته بالسلطة وهذا طبيعي لأن جهاز السلطة أقوى من أفراده وحتى ممن ينفذونه ويمارسونه إنه أقوى منهم بكثير. مثال ذلك ما قاله هارون الرشيد لما قتل جعفر البرمكي لإبنه المأمون لما قال له :" يا أبتي هذا جعفر البرمكي"، فأجابه الرشيد: وهذه الدولة، والدولة أقوى من جعفر وأقوى من يحيى وأقوى من هارون نفسه".
أقول هذا لأبرز أن إحدى الأطروحات المهمّة جدّا التي ضمنتها مسلسلي هي الخاصة بسؤال السلطة والعلاقة معها وبعصرها. وهذا حسب رأيي طرح معاصر يستجيب ويتفاعل مع ما يحدث الآن. وهناك أيضا الطرح الفكري المهم جدّا المرتبط بقضية السلطة في بعدها السياسي ، ويتمثل في القضية العقائدية فالإشكالية الخطيرة المطروحة في العمل هي العقلانية، لما دعا المأمون إلى إعمال العقل حتى في المسائل الدينية، أثار مسألة خطيرة جدّا هي خلق القرآن، وأيضا مسألة القضاء والقدر وحرية الإنسان في الاختيار وقد سيطرت عليه في لحظة ما لما شيّع الدولة لكنه تراجع بعد ما قتل علي موسى الرضا الذي ولاّه العهد، وقال أنه أتى به ليقتل ونفى قتله ونسبه إلى الفضل بن سهل... وهكذا... أي أن كل هذه التشعبات هي من فكر اليوم، فقضايا العقل والقضاء والقدر والشيعة والسنة والفرس والعلاقة بين الفرس والعرب لا تزال متواصلة وحاضرة بقوّة إلى اليوم، لم تنته ولم يحسم في أمرها، ونحن لمَا نتحدّث عنها فذلك من منطلق أننا نحياها اليوم.
– تمكنت وأنت في أول إخراج لمسلسل تاريخي من تحقيق إضافة نوعية تحسب لك، لأن الدراما التاريخية التي تعودنا عليها ظلت توثيقية ومتحفية؟
– أكيد... وأضيف إلى ما قلته في إجابتي عن هذا السؤال بسؤال آخر: ماذا أقصد بقولي قدمت عملا يتحدث عن أبناء اليوم وواقعهم السياسي إلخ..؟ إجابتي هي التالية: أنا أنجزت مسلسلا على نفس منوال الطرح المعاصر، وتلاحظ النفس التمثيلي في المسلسل وحركة الكاميرا وردود أفعال الممثلين في توجيه الشخصيات أو ما يسمى بإدارة الممثل ستتضح أشياء مهمة جدّا، سأكشف لك سرّا هاما يتمثل في أنني كنت أطلب من الممثلين أن يكونوا كما هم أي أن لا يتقمصوا الشخصيات في بعدها التاريخي فقط وأن لا يكونوا غير مرتاحين في ملابسهم وفي لغتهم، بل عليهم أن يكونوا في منتهى الراحة وأن يستعملوا ملابسهم ويوظفوا إكسسواراتهم من أجل القيام بردة فعل كما يحسها ويعيشها اليوم، فمثلا عندما يريد أحد الأبطال أن ينظر في عيني امرأة أو يلمسها يفعل ذلك كما يقوم به في حياته الطبيعية ...وهذا تم دون الوقوع في أخطاء تاريخية لأننا متوجهون إلى إنسان الآن وهنا. من هنا يأتي الاختلاف في الرؤية عندما أنجز عملا ما، لأن كل عمل له ثوابته. وقد أكّدت كثيرا على هذا الجانب في مسلسل "الأمين والمأمون" أي أن يكون معاصرا في إيقاعه وفي تمثيله وأن يكون خاصّ جدّا وأن تكون هناك أشياء لا تقرأ فقط في الكلمة. صحيح أن هناك حوارات طويلة – هي من أطول الحوارات التي أنجزتها طيلة مسيرتي- وكذلك مشاهد طويلة أيضا. لكنها أنجزت بطريقة مدروسة و بمنتهى الدقة.إلى حد أن المشاهد لا يحسّ أنه أمام ممثلون يمثلون. هذا هو الاقتراح الفكري الجمالي الذي تحدثنا عنه.
– ماذا يعني لك أن يتم إخبارك أحسن مخرج وأن يكون مسلسلك أفضل مسلسل؟
هذا أمر يفرحني لأنني في السابق كنت أتّهم بأنني أقدّم وأنجز اقتراحات فنية جميلة جدّا، لكن هناك من ينعتها بالنخبوية أو لا تشد كل الناس إلخ... لكنني كنت متمسكا باختياراتي ومتشبثا بمقترحاتي الفنّية لأنني أؤمن بأنني لست مطالبا بأن أشد كل الناس بل مدعوا بأن أكون صادقا معهم عبر اقتراحي الجميل والحقيقي. ربما يلزم بعض الوقت حتى يتعوّد الناس على ما أريد اقتراحه. كما أن شرط العرض مهم جدّا، لأنني أنجزت أعمالا مهمّة جدّا لكنها لم تعرض حصريا على فضائية MBC التي هي المحطة الأولى عربيا في رمضان، وهذا المعطى مؤثر على جميع الأصعدة وعموما أنا فرح لأنه يؤكد أن تشبثي بخصوصيتي ورؤيتي كان موفقا، ويبرز أنني كنت أعرف ما أنا بصدد التأسيس له. كما أنني لم اسع إلى كسب الناس بأي طريقة من خلال تقديم أي موضوع فيه قضية كبرى استفزازية عمدا حتى أنال رضا الناس.أنا أحاول أن أعمل كما أحس وأرى، وإذا أصبحت اليوم مشتركا في هواجسي وأعمالي مع مجموعة كبرى من الناس، فإن هذا لا يمكن إلاّ أن يسعدني.
– جيل كامل من المخرجين اشتهر في العقد الأخير منهم نجدت أنزور وباسل الخطيب وبسام الملاّ وحاتم الخطيب، وهو جيل سوري، نقل مركز الثقل الدرامي من مصر إلى سوريا. كيف تفسّر هذه النقلة كأحد رموز المخرجين المنتمين إلى هذا الجيل ؟
– أرى أنه انتقال مفيد للعرب بصفة عامة بما فيهم المصريين حتى يتجاوزوا حالهم، ، وسبب الانتقال يتمثل في أن المصريين كانوا متقوقعين على حالهم لفترة طويلة جدّا، وظلوا يكررون نفس المسلسلات بنفس الحقيقة بمجهود بسيط جدّا وبطريقة راديوفونية مخيفة جدّا مع نفس الوجوه ونفس التقطيع وباختصار.. هم كانوا يقومون بإخراج حوارات فقط، وليس هناك أعمالا بالمفهوم الحقيقي للدراما لأن أغلبها ينجز في منازل واستوديوهات و"السلام عليكم". لأنهم يملكون السوق الذي هو حكرا عليهم. وحدثت النقلة لما ابتعد السوريون قليلا عن هذه الرؤية وتصورهم للأعمال وخرجوا من الأستوديو وأعطوا قيمة أكثر للحركة والصورة وغيّروا في المواضيع وخاصة في بداياتهم، لأن السوريين الآن مستواهم تراجع قليلا، لكنهم في بدايتهم أنجزوا مواضيع عربية مكّنتهم من كسب الجمهور العربي وشده إليهم ونيل رضاه واستحسانه تدريجيا، ممّا مكّنهم بعد ذلك - أي اليوم- من أن يكون أي عمل لهم مقبولا في أي مكان، كلهجة أو كبيئة أو أي شيء... من هنا أتت النقلة. والذي يحدث الآن هو أن السوريين أنفسهم وقعوا في خطأ المصريين من خلال وقوعهم في التكرار، وعليهم أن ينتبهوا لأن ما حصل هو أن المصريين بدأوا اليوم خوض عدة تجارب مختلفة نوعا ما وهو أمر إيجابي. لأن هذه ديناميكية يجب أن تخلق منافسة ، فليس من المعقول أن يبقى التلفزيون أو المسرح أو السينما أو كل الفنون التي لها علاقة بالجمهور الكبير، حكرا على جيل أو بلد.
– لكن هذا الثقل ينحصر بين مصر وسوريا فقط، فأين المغرب العربي؟ وأي موقع يمكنك أن تضعه فيه؟
– هذه مشكلة أخرى...
– خاصّة وأن المغرب العربي بدأ يفرض نفسه في السينما والمسرح، لكن دراميا هو غائب ويكتفي بالفرجة؟
– صحيح... هو غائب دراميا ولنكون واضحين أقول: إنه غائب لأنه ليس هناك قرارا يخوّل له أن يكون حاضرا... والمسألة لا تتعلق بعدم وجود مبدعين.
– هل هذا ينطبق على جميع البلدان المغاربية؟
– لا... أعتقد أن هناك بداية حركيّة في الجزائر التي أنجزت عدّة أعمال مشتركة مع سوريا، والعاملين في هذا القطاع لهم رغبة واضحة في الدخول بمنطق مختلف، والتلفزيون الجزائري بدأ السير في هذا الاتجاه. كما أن المغاربة (المغرب) بدأت تبرز عندهم نوعا من الديناميكية وهو ما يوضحه الإيقاع المستمر لعدد الأفلام والمسلسلات، ويبدو لي أنهم واعون بضرورة الانفتاح على الآخرين. ولكن بالنسبة إلى تونس أنا لا أعرف.. هناك مشكل حقيقي مازال متواصلا إلى حدّ اليوم، فهي لم تدخل في إنتاجات مشتركة حقيقية ولم تنجز أعمالا عربية كبرى تسمح للناس بأن تراها وهذا حسب رأيي يقتضي جرأة من المسؤولين على هذا القطاع.
– أي الحلول موجودة؟
– الأكيد أنها موجودة..
– وحسب رأيك هل الإمكانيات موجودة؟
– موجودة.. (يقولها بكل ثقة و دون أدنى تردد)
– وما هي القرارات التي يجب أن يتم إصدارها لتجاوز هذا الوضع ؟
– يتمثل القرار أولا وقبل كل شيء في أن يؤمن ويتأكد المسؤولون بأن هذا الأمر مهمّ لنا. وعموما فإن التلفزيونات الحكومية والمؤسسات الثقافية غير مطالبة بأن تربح ماديا، لكنها مطالبة بأن تنفق على أعمال مهمّة كي يشاهدها الجمهور. وقد يكون هذا الأمر لا يهم أصحاب القرار لأننا مكتفون بما يقدم، وراضون عنه. لكن المشكل اليوم يتمثل في أن التونسي لم يعد يرغب في مشاهدتها والمشكل أيضا يتمثل في أن إيقاع هذه الأعمال غير مواكب ومتماشي مع إيقاع بلدنا، خاصّة وأن التونسيين لهم إمكانية مشاهدة أعمال أخرى على فضائيات أخرى. و حسب رأيي الحل سيفرض، وهو إما أن يتم اللّحاق بالإيقاع الموجود حاليا ويسن قرار يدعو إلى إنجاز أعمال مهمّة يشاهدها التونسيون وغيرهم، وإمّا أن تبقى خارج التاريخ.خاصة وان العالم كلّه صار يتحرك وفق الواسطة البصرية في الدراما أو في غيرها، لأن الدراما لم تعد منحصرة في إطار فني أو ثقافي فقط، بل بالعكس هي متشابكة مع كل مكوّنات المنظومة الحضارية: سياسيا ودينيا واجتماعيا إلخ... مثلا الدراما السورية حققت إشعاعا هاما لسوريا وشعبها و ثقافتها و سياحتها وكل ما يهمّها. وأريد التأكيد على أن انفتاح الدراما التونسية والمغاربية على المشاهد العربي سيخدم هذه البلدان على كل الأصعدة : اقتصاديا وسياحيا وثقافيا وسياسيا إلخ... و سيفيدها بدون حدود، لأنه سيخدم طبيعتها وممثليها وتقنييها وكل شيء.. كل شيء..
– الدراما السورية بدأت تشهد تراجعا ملحوظا مقارنة ببدايتها باستثناء أعمال قليلة جدّا ،ماهو تفسيرك له؟
– يتضمن سؤالك محورين، الأول يتمثل في أنه من الطبيعي أن يحدث هذا التراجع لأنه من المستحيل إنجاز 30 أو 40 مسلسلا سنويا على نفس المستوى، هذه طبيعة الأشياء.. وثانيا صحيح أن هناك نوع من التراجع، وصحيح أن السوريون بدؤوا بمواضيع أعمق مما نراه حاليا، لأن في سوريا نفسها صارت الأعمال تخضع للجمهور الذي أصبح يرغب في الخروج من تلك الأعمال ويطالب بتجاوزها، و بالاهتمام أكثر بالأشياء والمسائل التي تخصه في بيئته وخاصة المشاكل الاجتماعية، هذه ردّة فعل السوري نفسه وأقول هذا لأنني أعرف عن قرب المجتمع والمشاهد السوري. وتبعا لهذا حدث تراجع للمنتجين والكتاب والمخرجين عن الأعمال الدرامية. التاريخية و السوريون هذه السنة لم ينجزوا سوى عملا تاريخيا واحدا فقط، ومسلسل "الأمين والمأمون" هو إنتاج مشترك وهذا يجعل المتلقي يحس بأن هذه الأعمال اليوم كقيمة فنية لا تتوفر على المجهود اللازم، حتى أنها تكاد تشبه الأعمال المصرية. ولذلك لابدّ هنا من الانتباه إلى هذه المسألة، المخرج الحقيقي يجب أن يحكي عن الذي يريده في الوقت الذي يختاره هو. بالنسبة لي ليس هناك أي فرق بين عمل تاريخي أو معاصر، لأن كل عمل هو اقتراح فني بالأساس، وهذا الأخير حضوره ضعيف في أغلب الأعمال المقدمة لأنه حسب رأيي هناك استسهال أو تعويل على شيء آخر هو أن الناس يريدون رؤية مشاكلهم، أنا موافق، لكن نحن في ميدان "فني" (بين ظفرين). هذه هي المشكلة الخطيرة التي تواجهها وتتعرض لها الآن الأعمال السورية.
– أمام تنوّع المواضيع والاقتراحات الفنية بين عمل درامي تاريخي وعمل درامي واقعي أو اجتماعي، أي منها تفضّل؟ ولماذا؟
– كل الأعمال التي أنجزتها تتحرك في عالم واحد رغم اختلافها لأن كل عمل له خصوصيته ورؤيته ولكن ما أحاول القيام به هو أن أطوّع الأعمال لمقترحي الفني الخاص، ولا يهم إن كانت تاريخية أو معاصرة أو روائية بحتة أو مقتبسة و الكثيرون صاروا يعرفون أعمالي قبل أن يروا اسمي في الجنريك من خلال مشاهدتهم لبعض اللقطات.
– أي أصبح لك أسلوبك الخاص؟
– وهذا يعني أن أمنح كل أعمالي على تنوّعها بصمتي الخاصّة لأنها تتحرك في عالمي الخاص الذي أعرفه وأحسه والذي هو لا يتبع لا للدراما السورية ولا لغيرها، هو إبداع شخصي.
– بعد هذه التجارب ابتكرت أسلوبك الخاص وهذا يحسب لك، لكن يحمّلك مسؤولية أكبر ألا وهي كيف يمكنك أن تحافظ عليه و تعمل على تطويره؟ هل لك حلول فنّية؟ وألا تخشى أن تتراجع مثلما حدث للدراما السورية؟
– لا.. أنا مهدّد بالتراجع عندما لا تكون لدى إمكانيات أو عندما أقبل مشروعا لا يعنيني ، لكن إذا توفرت الإمكانيات وكان المشروع المقترح يمكن أن يصبح مشروعي وأتبناه فليس لي أي سبب لأن أتراجع، لأن المسألة ليست مسألة صنعة أو أي شيء آخر، يبدو لي أن هناك طاقة ذاتية إضافة إلى المعرفة... وإذا توفرت الشروط التي ذكرتها، أعتقد أنني في كل مرة سأقدّم اقتراحا مهمّا بقطع النظر إن كان سيعجب المشاهدين، أو أكثر أو أقلّ أهمّية ممّا أنجزته، هذا موضوع آخر، ولكن هناك مستوى معيّن أؤكد لك بأنني لن اسمح لنفسي بأن أتراجع عنه..
– شوقي الماجري وتونس؟ سؤال كبير جدّا والإجابة عنه طالت أكثر من اللازم؟
– حسب رأيي يجب أن نتوقف عن طرح إشكالية وجودي في تونس لأن وجودي في أي مكان مرتبط بمشاريعي. وطالما ليس هناك مشروعا فنيا واضحا ومتفق عليه يمكنني من العمل، فأنا أنجز مشاريعي في مكان آخر. ولا يهم وقتها إن كان في تونس أو غيرها... اليوم أنا قادر على التواصل مع كل الناس بما فيهم التونسيين من خلال المحطات الفضائية والأعمال نفسها التي تعرض في تونس أو خارجها، هذا الجانب الذي يخصني شخصيا، أما الجانب الآخر فأنا بكل صراحة لم تعد لدي رغبة للحديث عنه لأنه لم يعد يخصني فأنا موجود بالطريقة التي حدثتك بها.
– لكن لنكون واضحين ، يجب أن نؤكد على أن تغييبك - أو إقصائك بكل ما تحمله هذه الكلمة من معاني- من تونس، هو بالأساس خسارة للدراما التونسية، لأنك قادر على تحقيق إضافة هامّة جدّا لهذا المجال الذي يعدّ متأخرا جدّا على كل المستويات مقارنة بالمجالات الأخرى؟
– أكيد أنني قادر على المساهمة في خلخلة وتحريك هذا الركود ولكن المسألة ليست مرتبطة بي والآن أنا لا أستطيع أن أفعل أي شيء في ظلّ ما ذكرته سابقا. وبمستطاعي المساهمة في تحريك هذا الركود إذا كان هناك قرارا واضحا وحقيقيا وصادقا وعينيا، عندها لكل حادث حديث. والدراما ليست مسألة سحرية، لأن لي شروطي التي أقدمها في كل الأعمال التي أنجزها وقد ذكرتها منذ قليل لأنني لست مستعدا أن أخرج عملا اجتماعيا بيئيا صغيرا في 15 حلقة، هذا لا يعنيني وهم لا يحتاجونني لينجزوه، لذا لابدّ من تغيير عقلية كاملة، وإذا توفرت ا لشروط فإنني أؤكد لك، بأنني قادر على إنجاز أعمال مهمّة جدّا، وربّما أهم مما أنجزته في أي بلد آخر..
– وإذا لم تتوفر شروطك؟
– "الله غالب" (قالها بكل حسرة )
– السؤال المطروح لدى أغلب الممثلين التونسيين: لماذا لم تمنحهم الفرصة في أعمالك ؟
– أقول مشكلة الممثلين التونسيين سببها الدراما التونسية، فالأعمال التي أنجزها تتبع القطاع الخاص، والمسؤول عن أي مشروع خاص عندما تقترح عليه اسما لا بدّ أن يعود بالفائدة المباشرة للعمل. لذا من الصعب جدّا أن أقترح بعض الممثلين التونسيين لأن المنتج لا يعرف شيئا عن الدراما التونسية وعنهم وليس من السهل أن يقبل بممثّل ما لأنه يبحث في المقام الأول عن الربح. وهو ولما يرغب في ممثل من بلد بعيد فإنه يفضل أن يكون معروفا لدى المشاهد العربي. لذا فإن العملية ليست سهلة بالطريقة التي يتوقعها البعض. ومع ذلك فأنا في كل مرة أحاول أن أقنع المنتجين بضرورة المساهمة في التعريف والاستفادة بممثلين من المغرب العربي وهناك بعض الأسماء التي أصبح حضورها عاديا في الدراما العربية. ولكنها عملية صعبة جدّا ولهذا أؤكد على أن المشكلة تكمن في الدراما التونسية، لأنه لو كان لنا انتاجات مهمّة كانت ستحظى بالعرض في الفضائيات العربية وحينها سيتم مشاهدة الممثل التونسي، ووقتها فإن عملية إقناع المنتجين والمخرجين والمشاهد العربي ستكون أسهل بكثير.
– لكن في إطار مشروعك ألست قادرا على فرض من تريد من الممثلين في أعمالك، أم أن هذا من عمل المنتج؟
– هناك فضاء نتحرّك فيه، ولا أحد يفرض على الآخر، والعملية تتمثل في تقديم اقتراحات منطقية، وأنا لست قادرا على فرض شيء غير منطقي. و في النهاية يهمني ما يفيد العمل. ويخضع الكاستينغ لمنطق معين، فالشخصيات تفرض عليك نوع من الممثلين وهم موجودون في الفضاء الذي نتحرّك فيه هناك. لذا فإنه من الأسهل في التعامل بيني وبين الجهة المنتجة أن يكون الاتفاق على ممثلين من المكان الذي أعمل فيه. إضافة إلى منطق السوق الذي أخضع له، فأنا أنجز الأعمال الفنية في سوق منطقه التالي بالنسبة للمنتج: وهو أن تشرك ممثل خليجي حتى تهتم بالعمل محطات خليجية، لماذا هي وليست المغاربية، لأن تونس مثلا عندما تقتني العمل لا تدفع ثمنه رغم أنّها تقتنيه بسعر رخيص-وهذا أقوله بكل جدّية- لذا فما هي فائدة المنتج؟
– مع ذلك فإني أختلف معك، لأن المخرج الذي يمتلك مواصفاتك لا يجب أن يتحكّم فيه منطق السوق أو طلبات المنتج وشروطه والمخرج الحقيقي والمبدع في إطار تقديمه لمقترحه الفني عليه أن يغامر بتقديم ممثلين مجهولين وكبار المخرجين في العالم هم وحدهم القادرين على صنع النجوم أي فتحوا أبواب أخرى لمقترحاتهم الفنية، وهذا يحسب لهم في مسيرتهم. وأتت كشوقي الماجري قادرون على تحقيق كل هذا؟ فلماذا لم تقم به؟
– حتما هذه المرحلة ستأتي ومع ذلك فإن الممثلين الذين أديا دور الأمين والمأمون غير معروفين ولكنهما من الأردن بلد الجهة المنتجة. وهما صغيران في السن وعملا معي في العمل السابق "شهرزاد" في أدوار بسيطة ولأول مرة يؤديان دور البطولة المطلقة، وغامرت بهما لأنني كنت متأكّدا من أنني سأبلغ بهما إلى تقديم أداء عاليا وممتازا أفضل من أداء بعض النجوم السوريين والمصريين. بالنسبة لهذا المنطق أنا أوافقك.أما بالنسبة لمغامرتي بممثل تونسي..بغض النظر عن أنه تونسي أو جزائري أو ليبي أو مغربي ، أنا مازلت بحاجة إلى بعض الوقت، أو كما قلت فإن العملية لا تتم فقط من خلال المخرج، فمثلا : ما الذي أدى بجمال سليمان أن يقوم ببطولة مسلسل مصري وينجح نجاحا مهما،الجواب بسيط و هو : لان جمال من خلال الدراما السورية أصبح ممثلا عربيا مهمّا. علينا أن نبدأ بالعمل هنا في (دارنا تونس) وإذا أردنا أن نبرز تاريخنا وبلدنا وممثلينا و.. ونحقق لهم الإشعاع . ونحن كأفراد وكتونسيين في كل مكان، نحاول أن نساهم في التعريف بمبدعي تونس، وأنا اقترحت أكثر من مرة القيام بإنتاج مشترك، لأنه ستسهل أمامي وقتها كل الأمور وأفيد الممثل التونسي، وأقول نحن لنا ممثلين ومواضيع وحضارة وطبيعة. وأذكر لك مثلا أنني عندما أقترح على منتج أن يصوّر عملا أندلسيا في تونس عوض عن المغرب - وأنا دائما أقدّم مثل هذه الاقتراحات- يفضل المغرب لأنه تعوّد بتسهيلات أكثر وأقل تعقيدا و أرخص من ناحية الكلفة... وبالتالي اقتراحي لا يلقي السند اللاّزم، لكن يمكن أن يتحقق عندما تتوفر الظروف اللازمة ، لأنه عندما نمنح التسهيلات المطلوبة ولا نعقد الأمور ولا تكون الكلفة غالية، تستطيع تونس أن تدخل ضمن البلدان التي يمكن التصوير فيها.
– هناك من الممثلين من يروّج بأنك لا تؤمن بوجود ممثلين تونسيين مهمين؟
– هذا غير صحيح، وأنا أعرف بعض الممثلين في تونس قيمتهم وطاقاتهم التمثيلية مهمّة جدّا وربما هم أهم من بعض النجوم المصريين والسوريين..
– هل لك أن تذكر أسمائهم؟
– لا.. حتى لا أنسى بعضهم وأكون بذلك قد ظلمتهم.. لكن يوم أنجز عملا في تونس سترى كيف سيتغير الممثل التونسي وستعرف حقيقة ما يختزنه من طاقة ، لأنني سأضعهم في الإطار الذي يمكّنهم من تقديم أفضل ما عندهم، وستكون صورتهم مغايرة كليا لما هو موجود لأن مهمة المخرج تتمثل في وضع ممثليه في إطار يحفّزهم على إبراز أجمل ما لديهم. و أعتقد أنني قادر على فعل هذا مع الممثل التونسي، وسيأتي يوم ويتحقق هذا الحلم الخاص بي إذا توفّرت الإمكانيات.
- يحكى أن رفوف وزارة الثقافة التونسية صارت لا تقدر على فراق مشروعك فيلمك السينمائي الطويل "مملكة النمل" بعد سنوات طويلة من استضافتها له ؟ فماذا عنك أنت؟
– هذا الموضوع وبكل صدق لم أعد ارغب بالحديث فيه، وأصبح يمثل لي كابوسا متكررا والحسم فيه طال أكثر من اللازم. وحسب رأيي هذه السنة في كل الحالات سيتم إيجاد حل له. والمشكلة بالنسبة إلي شخصيا غير مفهومة،الموضوع موجود، النص مكتوب. وأعتقد أنني قادر بعد الأعمال التي أنجزتها على إخراج فيلم، لكن هناك شيء ناقص لم أفهمه وهو سيحدد إن كان سيكتمل أم لا، لأن ما يحدث أصبح لا يطاق.
– العملية الدرامية مختلفة عن العملية السينمائية، فأين يكمن الاختلاف عندك؟
– طبعا الاختلاف موجود على عدة مستويات منها المدة الزمنية لكل منهما، فمثلا الفيلم مدته ساعتان في حين أن المسلسل عشرين فيلما، أي أن الطاقة الموضوعة فيه لا يمكن أن تكون بقيمة ساعتين، والفيلم السينمائي فيه دقة وتحليل أكثر، وطريقة إنتاجه أسهل بمعنى أن المخرج يكون متأكّدا من تفاصيله أكثر وملما بها، أما إنتاج المسلسلات فهو صعب جدّا.. جدّا.. وأن يتم إنتاج مسلسل في نفس ظروف "الأمين والمأمون" هي معادلة قاتلة كما أن هناك وعي آخر في التلفزيون، فلما تحكى حكاية في 30 حلقة ستتشعّب في مسارات وأشياء أخرى لا تقدر السينما على تحمّلها، والحمد لله أنها لا تتحملها كما أن ظروف العرض مختلفة فالمسلسل يراه الملايين في حين أن السينما أكثر حميمية ولا يراها إلاّ الآلاف وهذا يسمح بأن يتقبل الناس أكثر التفاصيل الدقيقة.
– كيف تقرأ السينما التونسية، التي أرى أنها تعرف تراجعا محيرا؟
وأنا أيضا أعتقد أن هناك تراجعا فمنذ فترة طويلة لم أر فيلما مهمّا ويعبر عنّي هناك نوع من التراجع مقارنة بسينما السبعينات والثمانينات
– ما هي الأسباب ؟
- عديدة، وأهمها تقوقعها في مواضيعها التي تتحرك في فضاء واحد مع نفس الأشخاص وفي طريقة التناول وحتى في الإخراج، ولم يعد هناك ديناميكية، هذا التراجع يطال كذلك المجالات الأخرى كالمسرح.. وطبعا هذا أدى كما نرى جميعا إلى مقاطعة الناس للسينما التونسية، وهو ما يؤكد وجود مشكل في الطريقة والتناول.و الحل يكمن في أن تتحرك السينما في فضاءات أخرى، وان تكون متفرّدة في اقتراحاتها ولا تتبع الموجة الموجودة، وعلى المخرجين العودة إلى مرجعياتنا السينمائية حتى نرى كم أن السينما قادرة على أن تكون مفتوحة بمعنى تحكي عمّا تحبه .. السينما فن حقيقي وعلينا أن نعود لكل هذا، ونعطي إمكانية الاختلاف ودعم المخرجين الشبان لابدّ من خلق ديناميكية جديدة.
- حاليا أنت بصدد تصوير "الاجتياح" الذي هو من إخراجك و المسلسل يحكي قصة اجتياح "جنين"، الأكيد أن الأعمال الدرامية السياسية تخضع لشروط وخطوط حمراء، كيف تتجاوزها فنّيا؟
– إن تحديد الخطوط الحمراء صعب نوعا ما. لأن تعريفها يختلف من فترة إلى أخرى..
– فيما يتمثل هذا الاختلاف؟
– مثلا الحديث اليوم عن القضية الفلسطينية أصبح خطا أحمرا، في حين من قبل (يتنهّد بحرقة ويواصل) كان العكس واليوم عندما تُختار القضية الفلسطينية كموضوع لعمل درامي تثار عدة أسئلة، كيف وأين ستحكي عنها؟ ووفق أي رؤية، وهذا قد يعجب بعض الناس وقد لا يعجب البعض الآخر وهناك من يرفض عرضه وأخرى يرحّب به، وهناك من سيحتج على عرضه ، وسأروي كيف أن الإسرائيليين لما اجتاحوا "جنين" قاموا بفظائع لابدّ من محاكمتهم عليها كما ينص القانون الدولي لأنها تدخل في باب الإجرام في حق الإنسانية. وهذا من شأنه أن يسبب لنا مشاكل مع بعض الجهات بما فيها جهات عربية، وعليك أن لا تستغرب من هذا القول لأن هذا هو الوضع الذي وصلنا إليه مع الأسف. وبما أن المواضيع السياسية هي حساسة وحاضرة في الواقع وآنية وتخص الوضع العربي اليوم ومتغيرة، ففي كل مرة نوجد أمام خطوط حمراء جديدة، لذا نحن لا يمكن أن نحددها وأحيانا أستغرب من بعض المواقف، لماذا ومنها لما يُثار موضوع ما في فترة ما أو بعد الانتهاء من إنجازه يتعرض لمشاكل، كما أن العكس يحدث أحيانا واستغرب من أن العمل لم يخضع لأي رقابة.
– وأين تتحرك أنت ضمن كل هذا؟
– أحاول التوفيق، ولكن في النهاية أنا مدعو وجوبيا أن أكون مسؤولا عن نفسي ومع الناس وأمتنا والتاريخ أي عندما أقترح عملا لابدّ أن أكون مقتنعا به وصادقا حتى أستطيع الدفاع عنه أمام نفسي أولا ثم أمام الآخرين وعندما تكون كاذبا لا يمكن أبدا أن تنجز عملا بمواصفات معينة وإن تمّ فهو يسبب مشاكل، وقد حدثت أشياء من هذا النوع، وأتمنى أن لا يحدث هذا معي. وان لا يفرض عليّ أي شيء من هذا القبيل لأنني وبكل صدق مسؤول عن أعمالي وأحس بمسؤولية كبرى تجاه أمّتي والناس والفن والتاريخ. و عندما أقترح عملا أعرف ما يجب عليّ أن أقوم به.
- كانت لك مشاركة ناجحة في مسلسل "الطريق الوعر"؟
– ولو أنني إلى حد اليوم لي مشاكل مع هذا المسلسل لأنني كنت أريده أن يكون ملكي أكثر مما أنجز، فأنا حاولت كثيرا أن أقوم فيه بنوع من المعادلة التي هي حسب رأيي لم تكن ناجحة 100% لأن الموضوع كان حساسا وكنت أحس كما لو أني أمشي على الحبل وشخصيا لي مشاكل ذاتية مع الطريق الوعر. وفي مسلسل "الاجتياح" سأعمل على تجاوزها وقد ساهمت بجزء كبير في كتابته وكانت لي لقاءات يومية على امتداد حوالي شهرين مع كاتبه، وتعبنا في كتابته، وحسب رأيي هو نص جميل جدّا وهو يمثلني بنسبة كبيرة جدّا، وأنا أتبنّاه بنسبة 100% ومن الآن أستطيع أن أقول أنه ليس لي أي مشكلة معه.
– تتميز عن زملائك المخرجين باشتراكك في كتابة سيناريو مسلسلاتك؟
النص هو الأساس وأي اقتراح يقٌدّم يبدأ من اقتراح النص وأنا لست منفذ نصوص أو حوارات، أنا منفذ مشاريع وبالتالي يهمني المشروع ككل.. وهو ينطلق من كلمته وجملته وفكرته والدراما الخاصة به....
وهذا الكل يدخل في إطار عملي ونلاحظ في السينما أن المخرجين الذين تمكنوا من تأسيس وتأصيل خصوصيتهم هم عموما إمّا أنهم يكتبون سيناريو أعمالهم أو يشتركون في الكتابة وأنا بصراحة لا امتلك النفس لكتابة 30 حلقة وهو عمل يتطلب مني 5 سنوات. وهذا غير ممكن ولكن لي القدرة على تطويع النص بمقترحي الفني. لا يوجد أي نص نفّذ كما هو في كل الأعمال التي قدّمتها لأني أومن بأن النص مادة حية متحركة ، وأنا مخرج تهمّه كثيرا الدراماتوروجيا وإيقاع النص وأطروحاته. والنص هو جزء من كل أنا من يجب أن يسيطر عليه في النهاية.
– تتميّز أعمالك بشاعرية مرهفة على كل المستويات (الصورة/الحوار...)؟
– أنا أحب الشعر كثيرا، ومارست هواية قراءته والاستمتاع به وفهمه لفترات طويلة من حياتي. كما أنني مارست المسرح والموسيقى وأستهلك الأدب بالمعنى الحقيقي. وكل هذا أوصلني إلى قناعة أن من يقرأ الشعر أو أي أثر أدبي ويحبّه بصدق ويفهمه يصبح كأنه كاتبه، لأن القراءة الحقيقية هي في صعوبة الكتابة كما يقول "غوتة" وأنا الشعر الذي أحاول أن أكتبه في أعمالي وفق مقترحي الفني ينتمي إلى المدرسة الشعرية لكبار الشعراء في السينما التي هي طبعا مدرستي الأولى. وأنا من الذين يستبطنون كثيرا من الخمسة أو الستة شعراء في تاريخ السينما، وهؤلاء المخرجين ومنهم فيلليني ودارتفسكي وكوروزاوا وبرادجانوف وأستاذي الكبير هاس. ومن خلال هؤلاء المخرجين فهمت أن السينما فن كبير. وهم اثروا ميدان الفن باقتراحات خطيرة جدّا. وعندما نقول فن نقول شعر لأنه أبو الفنون. و هؤلاء أعتبرهم شعراء لأن الشعر في مفهومه العميق بالنسبة إليّ ليس نوعا أدبيا، بل هو موقف ورؤية فنية وهو يخص الفرد والمؤلف بالمعنى الشامل والشعر لا يمكن أن يكون إلاّ خاصا، وأنا أتفاعل معه في هذا المعنى.
– كيف تقرأ المدونة الشعرية العربية؟
– أنا لا أتابعها بالمفهوم النقدي، ولا املك الدقة المطلوبة للحديث عنها، وأنا في أكثر حالتي الذاتية أستمتع ببعض الأبيات. ومن قال بأن العرب هم شعراء كلامه صحيح، وهو مازال متواصلا إلى اليوم ،وبعض أبيات محمود درويش يحققن لي الامتلاء بالحياة. بهذا المعنى أتعامل مع الشعر...
– ومن يشدّك أكثر من هؤلاء الشعراء: محمود درويش أم بدر شاكر السياب أم سميح القاسم،أم البياتي...؟
– كل الذين ذكرتهم ولكن بتفاوت، فمثلا أنا أعتبر أن محمود درويش في بعض الحالات أضطر للإجابة على وضع الاستعمار الحقيقي للإجابة بطريقة معينة ويكتب بطريقة ما، تُؤطّر في حالة ما. ولكن في قصائد أخرى أنا أعتبره من اشعر الشعراء المعاصرين ونفس الشيء بالنسبة للسياب. وأنا لا أتعامل مع شعراء معينين بل مع قصائد و أبيات. لأن الشعر عندي هو أن يقول الحياة بطريقة خاصة تعمق تفاصيل مقترحه الإبداعي.