الجمعة ٢١ كانون الثاني (يناير) ٢٠١١
بقلم زكية علال

الدرس لم ينته

عادة علنية ومكشوفة دأب عليها الحكام العرب منذ عقود من الزمن، إذ أن كل واحد منهم جعل بلده مملكة خاصة يحكمها مدى الحياة، وألغى كلمة «الانتخاب» من القاموس السياسي، وإن كان الانتخاب فلأجل تجميل صورته أمام الرأي العام العالمي ليبدو وجوده على كرسي الرئاسة شرعيا، وتكون هذه الشرعية التمويهية بإهدار المال العام في حملة انتخابية لا تفضي إلا إليه ولا توصل أحدا إلى سدة الحكم غيره .. يصرف من خزينة الدولة على العملية الانتخابية من أجل أن يكون رئيسا بنسبة 99 % والواحد المتبقي تقتسمه الأحزاب التي نفخ فيها من المال العام من أجل أن يجملوا العملية الانتخابية فتبدو أقل شحوبا، أو من أجل أن يكونوا توابل وبهارات تضيف إلى الطبخة نكهة يتذوقها المراقبون الدوليون ..

كنت أنظر إلى جرأة الرؤساء العرب وهو يعلنون أنفسهم حكاما على مدى الحياة ضاربين عرض الحائط بمبدأ التداول على السلطة الذي أصبح منطق العالم، وإن أحسوا بدنو أجلهم جعلوا من أبنائهم خلفا لهم، وكأنه لا يوجد من يصلح للحكم إلا من هم من سلالتهم وصلبهم، وغيرهم رعاع، قدرهم ألا يكونوا في مربع الطبقة الحاكمة، وإن تجرأ احد ورفع عينيه إلى ذاك المربع القاتم كانت نهايته غير محمودة، وفي أحسن الأحوال يُرحل خارج وطنه ليدفع ثمن أحلامه غير المشروعة ..

وكنت أستغرب أكثر موقف الشعوب العربية التي ترضى بقرار الحاكم وهو يعلن نفسه على هرم السلطة مدى الحياة أو وهو يوصي بالرئاسة لولده الذي لن يكون – بالضرورة – محنكا سياسيا مثل أبيه، فابن البط ليس – دائما – عوّاما..

كنت أتمنى بيني وبين نفسي أن يلقن شعب ما في خرائطنا العربية درسا لرئيس تجرأ وأعلن نفسه حاكما مدى الحياة ليكون عبرة لغيره.. لكن الدرس جاء من تونس والأستاذ كان الشعب التونسي الذي هب كرجل واحد، وأقام الدنيا ولم يقعدها مدة شهر حتى أطاح بمن اعتقد نفسه راسخا على كرسي أقامه على أشلاء حرية تلاشت بمجرد أن أحكم قبضته على مقاليد الحكم ..

لا أحد كان يتوقع أن هذا الشاب الذي فقد الإحساس بجمال الحياة فأقدم على حرق نفسه، سيكون سببا في تغيير مسار تاريخي في حياة أحفاد «أبو القاسم الشابي» الذي قال بان القدر يستجيب لمن أراد الحياة ..

شاب أشعل فتيل الثورة في تونس الخضراء.. ثورة شعبية عفوية جعلت بن علي يحس انه وقع داخل المصيدة وان عليه أن يخرج منها بأقل الخسائر..

لست ادري إن كان عيبا في هذا العصر أم فضلا انه يقدم لنا كل شيء على المباشر .. كانت صورة الرئيس الهارب من ثورة شعبه مثيرة للسخرية وهو معلق بين السماء والأرض لا يجد من يقبله لاجئا سياسيا في الوقت الذي كانت دول كثير تمنح اللجوء السياسي بسهولة ويسر لمن كان يطردهم من نعيم بلدهم .. بدا مثيرا للتهكم وأصدقاؤه ينفضون أيديهم من صداقته التي كان يفخر بها ..

لكن ما لم أستغربه هو موقف الدول الغربية التي تركته معلقا بين لعنة السماء وسخط الأرض، دون أن ترأف لحاله وتمد له يد العون وتقف إلى جانبه وهو في ضعفه، وقد كان من قبل الحاكم العربي المدلل الذي تحرص على إرضائه، لكن تبين أن الحب والدلال لمن يجلس على كرسي الرئاسة ويخدم مصالحهم الاقتصادية والعقائدية ولو كان في ذلك إذلال لشعبه وإمساك برقبته، ومراقبة الناس حتى في خلواتهم وغرفهم الخاصة ...

ما لم أستغربه – أيضا - صمت أغلب الحكام العرب الذين ركبهم الخوف وسكنهم الهلع من أن تمتد ثورة الشارع التونسي إلى شوارعهم التي تقف على فوهة بركان نشيط.. ما عدا الزعيم الليبي معمر القذافي الذي طلع أمام كاميرات العالم ليصنع التميز ومخالفة الآخر كعادته.. بدا حزينا لأجل الشعب التونسي الذي خسر قائدا مثل بن علي .. لم يفاجئني موقفه لأنه النموذج الحي للحاكم العربي الذي جثم على صدر شعبه ما يقارب نصف قرن من الزمن وكأنه قدره الذي لا يستطيع الهروب منه، وهو يسعى جاهدا – منذ أعوام - لكي يكون ابنه خليفة له حين يحين الأجل، وكأنه يريد أن يقول لنا بصوت عال كما جهر بذلك بعض الحكام العرب: ابن الرئيس يكون رئيسا، وابن الحمال يكون حمالا ..

وكم بدا حزن إسرائيل عميقا وفاضحا على رحيل بن علي الذي كان صديقا مخلصا يسهل لهم عملية المرور على رقاب الشعوب العربية، وكان يساعدهم على تحقيق خارطة إسرائيل الكبرى التي تمتد حتى المغرب العربي .. وكان يزعجه – كما يزعجهم - صوت الآذان لأنه يرتفع باسم الحق، فكرس تغييبه من القنوات الفضائية التونسية على خلاف أغلب الدول العربية، بل وقرر إلغاءه في أوقات النهار لأنه يلهي العمال ويقلل من نشاطهم ..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى