الثلاثاء ٥ شباط (فبراير) ٢٠٠٨
بقلم جميل حمداوي

الرؤية الرومانسية في ترانيم عشق

تمهيــــد:

تزخر المنطقة الشرقية من المغرب الأقصى بمجموعة من الشواعر اللواتي يكتبن الشعر بالعربية الفصحى سواء أنشرن أعمالهن الشعرية أم لم ينشرنها بعد، إلى جانب مجموعة من الشواعر اللواتي يكتبن بالأمازيغية (مايسة رشيدة المراقي، وفاظمة الورياشي، ولويزا بوستاش، وعائشة بوسنينة...)، أويبدعن باللغة الفرنسية (فاطمة جعفر وفوزية دندان)، أو يكتبن أيضا أشعارهن بلغة الزجل كالشاعرة نصيرة عبد المومني في ديوانها:" الصوت المكتوم" الذي صدر بمراكش سنة 1998م.

وكل هذا الإنتاج الإبداعي الشعري إن دل على شيء فإنما يدل على مدى ثراء الساحة الثقافية بالمنطقة الشرقية من المغرب، وتنوع سجلاتها التعبيرية الشعرية واللغوية ، وتعدد تياراتها الفنية واتجاهاتها الأدبية، وحضور الكتابة النسائية بكل ثقلها إلى جانب الكتابة الذكورية .

ويلاحظ جليا أن شواعر المنطقة الشرقية يملن إلى شعر الانكسار وقالب القصيدة النثرية أو ما يسمى بالشعر المنثور بكثرة؛ نظر ا لما يطرحه شعر التفعيلة أو الشعر العمودي من صعوبات على مستوى النظم والكتابة، وما يستلزمانه من ضوابط إيقاعية ومجهود فكري يستوجب التجلد والتحلي بكثرة الصبر. لذا، ترفض المبدعة الأنثى كل القيود وتختار الإيقاع النثري الذي ينسجم مع عواطفها المسترسلة وانسياب تدفقات شعورها.

ونذكر من هذه المبدعات : نزهة الذهبي في ديوانها الشعري:"عنفوان الروتين"(2000م)، وبشرى الأنصاري في ديوانيها: " زنبقة بيضاء في يدي"(2002م)، و"مشكاة من علقم" (2004م)، وحبيبة الخلفي في ديوانها: " " تباريح الروح" ، وحليمة الإسماعيلي في ديوانيها:" العطش" (2001م) ، و" ما أوسع الموت فيك" (2004م)، وفاطمة عبد الحق في ديوانيها:" زمن الانتظار"(1995م)، و" صهيل الخيول الميتة "(2004م)، ونزيهة الزروالي في ديوانها الشعري:"غربت... ولكني احتفظ بك"(2002م)، ونرجس الخضر في ديوانها:" متاهات عشق"(2007م)، و مهاد منصف في ديوانها الأول: " ترانيم عشق"(2008م).

ويلاحظ أن أغلب هذه الدواوين الشعرية المكتوبة بالعربية الفصحى طبعت في مدينة وجدة ( مطبعة الجسور، المطبعة المركزية، مؤسسة النخلة للكتاب)، ماعدا ديوان " العطش" الذي طبع بمطبعة فضالة بالمحمدية.

وتعزف هذه الدواوين كلها على مكونات شعرية الكتابة النسائية وسماتها التعبيرية دلالة وصياغة ، فتتأرجح رؤاها الشعرية بين الرؤية الوجودية (فاطمة عبد الحق في ديوانها الأول)، والرؤية الإسلامية ( فاطمة عبد الحق في ديوانها الثاني)، والرؤية المأساوية ( نزيهة الزروالي)، والرؤية الرومانسية ( حبيبة الخلفي، ونرجس الخضر، ومهاد منصف، وحليمة الإسماعيلي)، والرؤية الواقعية التي تتناثر محتوياتها في معظم الدواوين الشعرية المذكورة باعتبار أن الواقع جزء لا يتجزأ من الذات الباكية أو الحالمة.

وسنركز في هذه الدراسة على ديوان " ترانيم عشق" للشاعرة الناظورية نهاد منصف ، وهي مبدعة متوهجة في أشعارها الرومانسية ، نزارية في تعابيرها الغزلية.

1/ دلالات الديـــوان:

تنطلق الشاعرة نهاد منصف في ديوانها الأول " ترانيم عشق" من رؤية رومانسية ذاتية وجدانية قائمة على التغني بالحب الإنساني وجمال الطبيعة وتمجيد الذكورة مع تصوير آلامها المترنحة وكآبتها التي تنفطر حزنا وتعاسة وكمدا. وقد ارتكنت الشاعرة في بناء رؤيتها الشعرية الرومانسية إلى استلهام تجربة نزار قباني وتمثل أبعادها الذاتية الإنسانية وعصرها في قصائدها التي تتقطر بالحب الحالم تارة، وبالدموع السائلة الحرى تارة أخرى.

أ/ تيمــــة الحـــب:

تعبر الشاعرة في مستهل ديوانها عن حبها الكبير لعشيقها المتخيل وفارس أحلامها الوسيم الذي تستحضره في قصيدتها الولهى " أحبك....أحبك كثيرا" ، فيختلط حبها مع عشق القصيدة وانتشاء شعرها لذة وانعتاقا. ومن ثم، تتحول قصيدتها الشعرية إلى آهات من الحب وباقات من السكر واللذات الروحية التي تهيج الشاعرة وترفعها إلى عالم الروح والهيام:

ها هي القصيدة …
تنخر أضلعي ..
و تُسْكِر كلماتي .
ها هي القصيدة ..
تذبحني ،
حبيبي ..
تذبحني ،
تقتل بداخلي ..
كل حاضر
و كلّ آتي .
حبيبي ..
يا أحلى كذبة ،
صنعتها ،
و أعطيتها حياتي .
عشقتك في كل وجود
و بِكلّ اللّغاتِ .
مزجت نور عينيك .. العسليتين ،
بخمر يسيل من ذاتي .

وتسترسل الشاعرة في حبها الرومانسي اللذيذ ممجدة الذكورة النبيلة رمز الدفء والحنان. وتلتجئ الشاعرة أيضا إلى استرجاع ذكرياتها السعيدة، وهي تتغزل بفارس أحلامها، مجسدة حبها الأفلاطوني تجسيدا وجدانيا يوتوبيا، فتقضي مع أطيافه البراقة أيام الصفاء والهناء ، وتسطر له صفحات خالدة من العشق الجميل والحب الهائم داخل حنايا الضلوع وأحشاء الذات المتهيجة بالحرقة والوجد وأنغام الشدو والوله النابض بالدموع وعبرات المنفلوطي. ومن هنا، فالحب عند الشاعرة انتصار في انتصار وبداية لتحبير قصائد الشوق والشعر المنثور وخواطر الفؤاد المكلوم:

لأيام سأقضيها ..
على ضفاف ذراعيك .
و أحلام سأطفيها ،
على شواطئ شفتيك .
أتوق حبيبي لكلام ..
سأقوله ،
حين أمتطي جياد العشق ..
على خدّيك .
و أمنيات ستموت ..
لتتحقّق ..
عند أصابع قدميك .
أتوق عزيزي لأحلام ..
ستختفي بين عينيك .
و بساتين دُرّاقٍ ستنمو ..
بين يديك ..
و على جفنيك .
رغم أنك كلّلت حبّي بالانتظار ..
و غسلت أحداقي بالمرار ..
و ابتعت لي هدايا الشّوق ..
هدايا البعد ..
و الانتحار .
صنعت لي دواوينا ..
من الضّباب و الغُبار .
جلبت ألماسا ..
مُلطّخا بدم الدّمار .
و غنّيت لي قصائدا ..
كُتِبت بأيدي الأقدار .
و ها أنا أرقص عارية ،
على أرصفة ..
كلّها أسرار .
لكنّي حبيبي لا ألوم .
فحُبّي لك ليس إلا ..
انتصارٌ و انتصار .

وإذا كان بدر شاكر السياب يختفي في أشعاره وراء شخصية سندباد، وصلاح عبد الصبور يختفي وراء الحلاج ، وأمل دنقل يختفي وراء زرقاء اليمامة ، وأدونيس يختفي وراء مهيار الدمشقي ، وخليل حاوي يختفي وراء إليعازر، والبياتي يختفي وراء أورفيوس، فإن الشاعرة نهاد منصف تختفي وراء قناع شاعر المرأة نزار قباني لتجعله رمزا موحيا وتجربة إنسانية تبحث الشاعرة من خلاله عن ذاتها ووجودها وكينونتها، وتقدم عبر هذا الرمز الأدبي المرأة المعشوقة كائنا روحيا معبودا مقدسا لذاته ، وترفض أن تقدم الأنثى كائنا جسديا مدنسا بالفتنة والغواية الممسوخة:

"إني خيّرتك فاختاري ..
ما بين الموت على صدري ..
أو فوق دفاتر أشعاري "
مُحتارة أنا يا نزاري ..
أأموت على صدرك العشبيّ ..
المليء بالمروءة ،
و عشق الأنثى ،
و ملايين الأزهارِ ؟
أم أموت على دفاتر أشعارك ..
التّي سلبتني قلبي ..
و صلبتني على كلّ جِدارِ ؟
آسفة ..
لا أعرف ما أختار ..
آسفة جدا يا نزاري .
ليتك تعلم ..
أنّي أقتات على حروفك ،
و أرقص في حبرك ،
حتّى الدُّوَارِ .
ليتك تعلم ..
أنّي أغفو ..
على صفحات دواوينك .
و أذوب يوميا ..
و أنا أُوظّب لذكراك ..
حُزَم القرنفل ،
و الزّعتر ،
و النَّوَّارِ .
ليتك تعلم ..
ليتك يا نزاري .

وفي الأخير، ترتمي الشاعرة في أحضان عشيقها الذكوري لتحضنه بصدرها الحساس وقلبها الدافئ لتعلن تجددها العنقائي وانبعاثها الحقيقي والطبيعي بعد موتها على غرار الكثير من القصائد التموزية لدى السياب والبياتي وخليل حاوي وأدونيس، تلك القصائد التي تعزف على ثنائية الموت والحياة والألم والأمل. ويعني هذا أن الشاعرة تتجدد بواسطة الحب المثمر ، والذي بواسطته ينعتق كيانها من إسار الوحدة والكآبة . ومن هنا، تربط الشاعرة وجودها بالغير الذكوري الذي تراه أس سعادتها ومقوم حياتها وجوهر كمالها:

عانقني ولا تُخبرني عن ماضيك ..
واترك تضاريس حاضري
تُنسيك الأسى .
عانق شجرة ..
تموت وتجدد كل يوم ..
بين ذراعيك .
وانس غرابة الأيام ،
وضيق الأحلام .
عانقني وانس قلبك ..
واجعل زمنك
يذوب على خارطة أحضاني .
يا من شممت في تراب خطاك
رائحة العشق التائه ،
ورائحة الربابة والشوق
تفوح بكل أناقة ..
بين كل دمعة ودمعة .
ترسم بإصبعك على ظهري
أيام الظلم ،
و وجوها قنأت قهرا ..
ثم تمسح كل هذا
وترتاح ..
فلا تحلو الراحة
إلا ساعة النسيان
وأنا النسيان .

ومن هنا، تصور الشاعرة مشاعرها العاطفية تجاه الغير الذكوري الذي تقربه تارة في أشعارها عشقا ووصالا ودفئا، وتارة أخرى تستبعده رفضا ومقتا بسبب خيانته وهجره وغدره وازدرائه بالأنثى الروح التي يحولها في مخيلته إلى جسد شبقي ليس إلا.

ب/ تيمـــة الحزن و الألـــم:

يتضمن ديوان الشاعرة مجموعة من القصائد المأساوية التي تتغنى فيها بالألم والحزن والحرقة بعد الصدمات العاطفية التي تهز الشاعرة هزا في تخييلها الفني والإبداعي أو في حياتها المرجعية ، وتفتتها شعوريا ولاشعوريا. ومن ثم، تنخر آهات الأحزان قلب العاشقة المتيمة، وتكسر أحلامها المجنحة على صخور الواقع ومتاريس حقيقة اليقظة والصحو، لتسقط محطمة بين أنياب الخيانة و الهجر والبين والغدر مذرفة دموع الحسرة والخيبة. ومن أهم القصائد التي تشخص تيمة الحزن والألم نذكر قصيدة " الدمع الثاني":

ها قلمي ..
ها أحزاني .
و القلب فيه عصفورة ،
مكسورة الجناح ..
بسبب الدّمع الثاني .
مغدورة الريش أنا ،
أرفرف دون عنوانِ .
و حين عرفت سماءك
طرتُ بكل عنفُوانِ .
و قلت هنا مسكني ..
هذي سمائي .
و رقصت يمينا و شمالا ،
و غنّيتُ ..
و عزفتُ كبريائي .
و نمَوْتُ بين كفّيك ..
شمسا ..
أسطورة ..
و خرافةً للبلاءِ .
و تقابلنا تحت العِشق ،
في تلك المدن الظّلماءِ .
غلطتك ..
كعقلة الأصبع ،
صغيرة ..
صغيرة ..
لا تستحق بكائي .
لكنني لم أتوقّعها ،
و أنا في كف الرّاحة ..
التي صارت رحائي .
أهذا جزائي ؟
ندمان ..
و تبكي الملامة ،
و تعلم أنك ذبحتني ..
و شربت دمائي .
ندمان ،
و تعرف أني أسقي الاهتمام ..
و تعرف أن حبّك نبعي .. و مائي .
لا ..
لم أتوقع أن يكون هذا جزائي .
و بعد جرحك نفسك ..
صار مساء العشق مسائي ..
و لم أتوقّع أن يكون هذا جزائي

.

وتسقط المعاناة الذاتية والكآبة القاسية شاعرتنا في الغربة الذاتية والمكانية والوحدة القاتلة التي تجعلها كنازك الملائكة، تجتر آهاتها وتتلذذ بآلامها الحزينة وتتذكر أيامها الماضية في علاقتها بحاضرها الرومانسي المتناقض في أبعاده الجدلية وأحواله المتلونة كما تتلون الطبيعة الإنسانية والفصول الكونية والأبراج الفلكية، وتجر غدها المعسول الذي يترنح بالدموع والمأساة والتراجيديا بسبب الفشل العاطفي والغدر الذكوري؛ مما يجعل الشاعرة تتأرجح بين رؤية رومانسية متفائلة حبلى بالأحلام الوردية، ورؤية رومانسية متشائمة مثقلة بالهموم والأنات التي يحفها إسار التفجع والتحسر. وفي هذا السياق، تقول الشاعرة في قصيدة:" أقدار":

نبتتْ أشواك الشؤم
على رموشي ،
وتكاثفت مجامر الخوف
تطرقع في كنفي ..
تُحدث صوتا يُرى
و لايُسمع .
تٌحدث ألاما تتألم ..
قبل أن تؤلمني .
باتت نواقيس الحب هامدة ،
لا تدق في الكنيسة المنسية .
وانصهر ثلج الشتاء ،
وتهدّمت الأكواخ الجبلية .
غادرت عصافير الصباح
في رحلة أبدية .
بعدما نسيت الفجر
ونسيتني .
وها أنا جالسة
تحت شجرة مبتورة ..
أُنشدُ ألامي سيمفونياتٍ ،
من سُلّم حياتي ..
بدل السلّم الموسيقي ،
الذي هجرني
وانتسب للسعداء .

وعليه، فالحب والألم والحزن من أهم التيمات الشعرية التي يطفح بها ديوان نهاد منصف. لذا ، تتأرجح تجربة الشاعرة بين الأمل والألم، وبين التفاؤل والتشاؤم. وتبقى القصائد الأخرى التي تتخذ صبغة واقعية موضوعية انعكاسا لذات الشاعرة المكلومة والمتصدعة التي تعزف على أوتار الشوق والصراع الذاتي والتمزق النفسي والاستهداء بأشواق الحب وألحان المعشوق الحالمة.

2/ الصياغة الفنية والجمالية:

تستند الشاعرة في قصائدها الشعرية إلى استخدام شعر الانكسار والانزياح عن كل مقومات القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة من خلال تنويع الروي والقافية والتحرر من صرامة الوزن والتفاعيل الخليلية. كما تختار الشاعرة في إبداعها الشعري قالب القصيدة المنثورة والكتابة الغنائية البسيطة لتعبر عن تجربتها الشعرية الرومانسية التي تستوجب حرية العواطف وتسريع الانفعالات وتمرير الدفقات الشعورية بدون قيود الروي والقافية ، و التحرر من كل الشكليات الإيقاعية التي تتنافى مع انسياب المشاعر وانفجار حرقة العواطف واسترسال الأشواق والآهات.

وتخضع القصائد الشعرية للوحدة العنوانية الرومانسية المجردة، وتنصاع أيضا لقانون الوحدة الموضوعية والعضوية والشعورية، كما تنماز بالاتساق والانسجام والترابط الدلالي والتركيبي والنفسي.

وعلى مستوى الإيقاع الداخلي، تنبني قصائد الديوان على جمل شاعرية قصيرة خاطفة تساهم بشكل كبير في إثراء الموسيقا الداخلية، وشحن محتويات الديوان بالترانيم اللحنية التي تقوم بدور كبير في خلق هارمونيا إيقاعية جياشة زمنيا ومكانيا من خلال هيمنة السواد على البياض، والتحرر من سيميترية الفضاء التشكيلي التقليدي الذي نجده في القصيدة العمودية. فلننظر- إذا- في هذه القصيدة لنتبصر جيدا الهارمونيا الإيقاعية في الديوان، والتي تتلون قصرا وطولا حسب تنامي الدفقة الشعورية :

ها قد أتيت يا بلح النخيل ..
ها قد خرجت
من قصرك تحت الماء ،
وقدمت لتزور القتيل .
تفجّرْتَ رجولة ..
من تحت البحار ،
وسكنتني أمواجا .. ،
وإبداعا .. ،
وهديلا .
ها قد قدِمتَ حصانا رمّاحا ،
و حفِظتَ مواقيت الصهيل .
يا وليد المغامرة ..
وقادما من بلاد المستحيل .
ها قد قدِمتَ لتزور ،
بعد أن جَزَمَتِ الحياة ..
أن ليس لك بديل .
ها قد حظرتَ لتراني ،
صاحبا في جعبتك
ترياقا ،
و أنشودة ،
جزيرة معزولة ،
وشمس الأصيل .
ها قد حظرتني ..
يا موتي الجميل .

وتلاحظ أيضا أن الشاعرة توظف جملا شعرية قد تتعدى السطر الشعري الواحد إلى عدة أسطر لتوقفها عند نهاية تركيب الجملة المفيدة أو عند نهاية الوقفة النفسية الشعورية كما في هذه الأسطر التي تشكل جملة شعرية ممتدة في إيقاعها النفسي:

ها قد قدِمتَ لتزور ،
بعد أن جَزَمَتِ الحياة ..
أن ليس لك بديل .
ها قد حظرتَ لتراني ،
صاحبا في جعبتك
ترياقا ،
و أنشودة ،
جزيرة معزولة ،
وشمس الأصيل .

وتمتاز لغة الشاعرة بكونها لغة موحية مليئة بالرقة والأنوثة، وزاخرة بالسلاسة والليونة، وطافحة بالشاعرية والانزياح، معبقة بأريج الذات والوجدان ، حتى إن حقولها الدلالية لاتخرج عن إطار التيار الرومانسي كحقل الذات وحقل الحب وحقل الألم وحقل الطبيعة.

وتطفح قصائد الديوان بالصور الشعرية الانزياحية القائمة على الاستعارات المشخصة والمجازات المؤنسنة والرموز الموحية والأقنعة التناصية الحبلى بالإحالات المرجعية والمعرفة الخلفية التي تذكرنا بشعراء الغزل، وتستدعي تناصيا أشعار مبدعي الرومانسية و كتابات نزار قباني. لكننا نجد على المستوى البلاغي أن الشاعرة تستخدم الاستعارة بكثرة ، وترتاح لمجازاتها التخييلية في تحبير ديوانها الشعري وتنميطه فنيا كما في هذا المقطع الشعري الحلمي الغني بالاستعارات التشخيصية:

أوجدتني امرأة ..
تسقي صباحاتها
بعلقم بُعدك ..
في كل زاوية .
تتأرجح على الحبال ..
بين الهاوية ،
و الهاوية .
أوجدتني امرأة ..
تغوص بين أضلعك
باحتراف ..
و تجزّ عشب روحك
باحتراف ..
و تقضي عطلتها ..
على قسمات وجهك المثالية .
نسجتَ لي حياتي ..
من جديد .
صرت أعيادي ،
احتفالاتي ،
و ميلادي المجيد .
صرتَ كل الناس ..
كل المساحات ،
من الخليج إلى المٌحيط ..
لكنّي عاجزة تماما
عن معانقتك ..
خارج الحلم ،
و كيّ قمصانك ..
خارج الحلم ،
و تعديل شعرك ،
خارج الحلم ..
و هكذا تمضي أيّامي ..
في الحُلمِ ..
في الحلمِ .

و إذا انتقلنا إلى بنية التداول التواصلي ، فسنجد حضور الذات التي تختفي وراء ضمير المتكلم، والتي تتقابل جدليا مع الغير الذكوري الذي بدوره يختفي وراء ضمير المخاطب تارة وضمير الغائب تارة أخرى.

خاتمـــة:

يتبين لنا من خلال هذا الديوان الشعري أن شاعرتنا مهاد منصف شاعرة رومانسية تتغنى بتجربة الحب التي تجعلها من ناحية تعزف على أنغام الهوى والعشق الجنوني وتمجيد الرجولة النبيلة، ومن ناحية أخرى، تدفعها التجربة إلى التذمر والشكوى وتبيان آهاتها المفجعة المترنحة بالدموع والمأساة الحزينة.

هذا، وقد غلفت الشاعرة كل مشاكل الواقع الموضوعي بغلاف الذات والوجدان والعواطف المرهفة والأحاسيس المتقدة باللوعة وحرقة الغدر والفشل العاطفي القائم على الهجر والبين والانقطاع عن التواصل الحميمي.

أضف إلى ذلك أن الشاعرة قد اتكأت على مقومات القصيدة المنثورة المبنية على الإيقاع الداخلي كالتوازي والتكرار واستخدام الجمل القصيرة والتعادل الإيقاعي وتشغيل الأفعال المتراكبة. دون أن ننسى بأن الشاعرة قد استخدمت الصورة الرؤيا استخداما متنوعا ومتلونا حسب سياق التدفق الشعوري عبر توظيف الاستعارات المجازية والرموز الإحالية.

وفي الأخير ، نتمنى للشاعرة نهاد منصف مستقبلا شعريا زاهرا، ولاسيما أن الشاعرة مازالت في مقتبل عمرها وفي ريعان شبابها، ومازالت في مستوى دراسي ثانوي تشتغل بكل جدية لتخوض غمار الإبداع وكتابة الشعر، وتخلص في عملها أيما إخلاص لتفرض ذاتها في الساحة الشعرية النسائية والذكورية على حد سواء.
وعندما أقارنها بمجموعة من الشعراء الذين لهم باع كبير في ميدان الشعر، فإني أتعجب كثيرا بذكاء هذه التلميذة المتميزة التي قدمت لنا تجربة شعرية نقية وباقات من الأشواق الشعرية الجذابة وآهات إنسانية تستوقف القارئ المتذوق للشعر لتدبر معاني الديوان التي تحمل رؤيا ذاتية يمكن اختزالها في الرؤيا الرومانسية الإنسانية الوجدانية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى