الرثاء في العصر الجاهلي
الملخص
الرثاء هومن أهمّ الأغراض الشعريّة في الجاهلية. فهوكالمدح إلّا أنّ هناك قرائن تدلّ على أنّه في الميّت أوالقتيل،بعبارة أخرى أنّ الرثاء هوموطن العاطفة الحزينة يصف فيه الشاعر الجاهلي المرثي بجميع الصفات التي يصف بها الممدوح. ولا شكّ أنّ العاطفة عندما كان الرثاء في الأقرباء أصدق منها في غيرهم. فلذلك نجد الشاعر يباشر بالرثاء عند رثاء الأقرباء دون أن ينهج المنهج المعروف للقصيدة الجاهلية،فيرثي دون أن يقف على الأطلال ويصفها، ودون أن يبكي أويستبكي لسيطرة العاطفة الحزينة عليه. وهوفي رثائه يستخدم الأساليب المختلفة من إستفهام واستثناء ونداء وما إلى ذلك للتقرير أوالتهديد أوالحسرة أوالتعطيم للمرثي.
الكلمات الدليلية: الأغراض الشعرية، الرثاء، العاطفة الحزينة، المهلهل.
المقدمة
يعتبر العصر الجاهلي من أغنى العصور الأدبية عند العرب شعراً. فله أثر كبيرفي هيكلية الشعر في العصور التالية له شكلاًومضموناً. أمّا من حيث الشكل فنسج للشعر العربي نسيجاً شكلياً خاصاً فرض نفسه على عاطفة الشاعر العربي طوال القرون المتمادية وشكّلت فيه ذائقة شعرية رافضة لغيرها من أشكال البيان العاطفي. فاحتبس الشاعر الجاهلي في ذائقته المفروضة عليه.فلم يستطع الخروج عليها فأصبح الشكل ميزاناً لتمييز جيّد الشعرمن رديئه وقبيحه. ثمّ أتى فيما بعدجيل من الدارسين بينهم خليل بن أحمد الفراهيدي كشف الأوزان العروضيّة التي عرفت فيما بعد بالأوزان الفراهيدي فالأبيات بموسيقاهاالخاصةتتصل بعضها بالبعض بموسيقى آخرىجانبية تشكّلـها القافية التي تتميز بها كل قصيدة من أخرى بل تسمّى كلّ قصيدة بحرفها الأخيرة.امّا من حيث المضمون فكان الشاعرالجاهي يبدأ قصيدته بذكر الحبيب ومنزله ووصف آثاره وصفاً دقيقاً،ثمّ يخلص إلى وصف ناقته التي تنجيه من أحزانه وآلامه. فيصورها للقارئ أرجلها وأيديها وضمور بطنها وصلابة فقراتهاوإستطالة وجهها وكثرة أسفارها. ثمّ يعرض غرضه الرئيس في القصيدة.
والشاعر كما قيل هولسان قومه وقبيلته يوذّع مناقبها يدافع حريمها مادحاً أبطالها يهجوأعداءها يرثي موتاها وقتلاها يفخر بمناقبها، فيرفع شأن من يريد ويخفض بمنزلة من يعارضه.كما أنّه هوالذي يشجّع الأبطال للقتال ويقوّيهم بأبياته ويهزم الأعداء بتمزيق شوكتهم.فهوراية القبيلة وسيفها القاطع.
والرثاء هي من الأغراض الرئيسة التي تناولها الشاعر الجاهلي. فهوعند الرثاء إمّا يبدأ القصيدة بمنهـج الجاهلي المعروف وإمّا يباشر فيها بالرثاء لطغيان عواطفه وتسليمه أمام مشاعره دون مراعاة للأسلوب السائد على القصيدة آنذاك.
إذن دراسة الرثاء كغرض من الأغراض الأصلية للشعرالجاهلي هي دراسة توضّح البيئة الجاهلية وتبيّن منهج الشاعروتبرز أنواع الرثاء والمرثيين والصفات ممدوحة بها. ونحن في هذا المجال ندرس هذا الغرض دراسةإجمالية يشمل عدداًمن الشعراء الجاهليين كلبيد بن ربيعة،ودريد بن الصمة، ومن الشواعر الخنساء وسعدى بنت الشمردل وغيرهم من الشعراء.
الرّثاء في العصرالجاهلي
الرِّثاء لغة من رَثَی ؛رَثْياً ورثاءًورثايةً ومرثاةً ومرثيةً،ورثى الميّت أي بکاه بعد موته وعدّد محاسنه.واصطلاحاً «هوبکاءالميّت والتّفجع عليه وإظهار اللّوعه لفراقه والحزن لموته وعدّ خلاله الکريمة ». [1]
وهوعندعرب البادية «کان تشييع الميّّت بمشي الأقارب خلف الجنازة حفاة وبحلّ النساء شعور هنّ وتلطيخ رﺅوسهنّ بالرّماد وقد يحلق النّساء رﺅوسهنَّ حزناً علی الميّّت ». [2] امّا الرثاء في الأدب فهو" الشعر الذي يعبّر فيها الشاعر عن الحزن واللوعة، الّتي تنتابه لغياب عزيز فجع بفقده، بتعداد مناقبه والإشاده بمآثره والتوجع عليه، وتتردد في الرثاء صولة الموت وسلطان الفناء، ويتضمن ابياتاً حكمية تدعوالى الإعتبار والزهد. [3]
والشّاعرالجاهلي کان يتّبع في رثائه المنهج الشعري الجاهلي المعروف أحياناً ويدخل في الرّثاء مباشرة أحيانا أخری.ففي اتّباعه المنهج الشعري الجاهلي کان يقف علی الأطلال وبقايا منزل الحبيب. فيبکي ويسائل الأشياء عن حبيبه. ثمَّ لکي ينسی ألمه ينتقل إلی الصّحرا ء بالرّکوب علی جمل قويّ سريع يشبه حمار الوحش. فيصف ما تقع عليه عيناه. ثمّ يدخل في الرّثاء. وهذه طريقة نجدها في قصيدة للنّابغة الذّبياني في رثائه النّعمان الغساني ومستهلّها:
دَعاکَ الهَوی وَ اسْتَجْهَلَتْکَ المَنازِلُوَکَيْفَ تَصابي المرءِ و َالشَّيبُ شامِلُ؟وقَفْتُ بِرَبْعِ الدّار ِ، قَدْ غَيَّر البِلیمَعارِفَها ، وَ السّاريات الهَواطِلُ
[4]
والغالب أنّه کان يدخل الرّثاء مباشرة لحزنه الشّديد وللتّموّجات العاطفيّة الحادّة في نفسه ممّا کانتْ تضيق عليه المجال علی متابعة المنهج المعروف. فتجري الكلمات في مجرى عاطفي حزين فيستهلّ رثاءه بما يظهر من حزنه، فيزيده ذكر المرثي حزناً على حزنه ودموعاً على دموعه، فتطول له الليالي، فيصرخ الشاعر بتفجّعه في مستهل القصيدة کما يقول المهلهل:
أهاج قَذَاءَ عيني الاذّکارُهدوءًا فَالدّمُوعُ لها انحِدارُهدوءًا فَالدّمُوعُ لها انحِدارُكأنّ الليل ليس له نهار
[5]
وکما يقول المهلهل :کُلَيبُ لا خيرَ في الدنّيا ومَنْ فيهاإنْ أنتَ خلّيتَها في مَنْ يُخَلّيها[6]
إلّا أنّ العاطفة كما مضى تسود على الشاعرأحياناً.فهويبدأ القصيدة بعتاب من يعاذله،فلا يستطيع الصبرعلى اللائم. فيعظّم شأن المرثي. فعلى سبيل المثال يقول دريد بن الصمة مخاطباً من يلومه في رثاء أخيه:
أعاذلتي كلّ امرء وابن إمّهمتاع كزاد الراكب المتزوّدأعاذل إنّ الرزء في مثل خالدٍولا رزء في ما أهلك المرءعن يد[7]
فيواصل العتاب ثمّ يعدّد مناقب المرثي حتى ينتقل إلى أبيات يصوّرفيها عاطفته الجيّاشة قبال أخيه قائلاً:
تنادوا وقالوا أردَت الخيل فارساًفقلت : أعـبد اللّه ذلـك الـرديفجئتُ إليـه والرماح تنوشـهكوقع الصياصي في النسيج الممدّدوكنت كذاك البوّ وريعت فأقبلتإلى جَلَد من مسـك سقـبٍ مقدّدفطاعنت عنه الخيل حتّى تنفّستوحتّى علاني حالك اللـون أسود[8]
كما أنّ الشاعر يرى قتل المرثي ظلماً وجناية لايدرك كنهها،فيعدد مناقب المرثي ثمّ يهدّدالقتلة مثل ما نجده في قول المهلهل:
قل لبنــي ذهلٍ يردّونهأويصبروا للصّيلم الخنفقيقفقد تروّوا من دم محـرّمٍوانتهكوا حرمته من عقوق[9]
أمّا أسلوب الشاعر الجاهلي فهويتنقّل بين النداء والإستثناء والتكرار والإستفهام. فيستخدم الشاعر النداء أحياناً لبيلن حزنه وألمه كما نراه في قول لبيد حيث يقول:يا عينِ هلّا بكيت أربد إذقمنا وقام الخصوم في كبديا عينِ هلّا بكيت أربد إذألوت رياح الشتاء بالعضد[10]
كذلك يأتي النداء لعتاب اللائم ولبيان مكانة المرثي وتعظيمه والمبالغة في شدة ما أصاب الشاعر مثل ما مضى من قول دريد إبن الصمة في رثاء أخيه :
أعاذلتي كلّ امرء وابن إمّهمتاع كزاد الراكب المتزوّد[11]وربّما يستخدم النداء لتهديد القاتل كما يخاطب المهلهل قاتل أخيه قائلاً:يا أيّها الجاني على قومهجناية ليس لها بالمطيق[12]
فإنّ إستخدام النداء كما ترى في المثالين السابقين يعطي للشعر حيويّة تجرّ القارئ ليواسي الشاعر في مصيبته ويشاركه في أحزأنه وآلامه لإلقاءالوحدة الزمانية بين الشاعر ومخاطبيه للشعور بأنّ المنادى حاضر في مرأى القارئ.
إضافة إلى ما مضى فإنّ الشاعر يستخدم النّداء أحياناً لإستحضار الغائب والإلتذاذ بذكر المرثي، فيخاطب الميت أوالمقتول فكأنّه حاضر أمامه ويناديه ويستلذّ بتخاطبه. فالأبيات التالية من المهلهل يزيدك شعوراً بصراخ الشاعر حزناً لإستحضار أخيه المقتول والإلتذاذ بإسمه حيث قول:
دعوتك يا كليب فلم تجبنيوكيف يجيبني البلد القفار؟أجبني يا كليب خلاك ذمّضنينات النفوس لها مزار؟أجبني يا كليب خلاك ذمّلقد فجعت بفارسها نزار[13]
فمناداة الشاعر المرثي مرّتين بعد فعلين أمرين يخاطب بهما إجابة أخيه مطالبة المسترحم الملحّ توضّح عاطفته الفائرة التي تغلّب عليه فخضع الراثي لها خضوعاً لا بدّ منه. كذلك يشعر القارئ بآهات الشاعروعاطفته الحزينة عندما ينادي المرثيّ الغائب الحاضر في قلبه كما ترى في الأبيات التالية:
كليب لا خير في الدنيا ومن فيهاإن أنت خلّيتها في من يخلّيهكليب أيّ فتي عزّ ومكرمةكليب أيّ فتي عزّ ومكرمة[14]
إضافة إلى أسلوب النّداء فالشاعر يستخدم أسلوب الإستثناء للتأكيد أوالحصر. فالإثبات بعد النفي في الإستثناء يقرّرالصفة أوالموصوف في نفس السامع إلى جانب ما فيه من التأكيد. والذي يزيد المعنى تقريراً في النفوس هوالتكرار لأسلوب واحدٍ كما يلي:
ما النّاس إلّا الدّيار وأهلهابها يوم حلّوها وغدواً بلاقعوما المرء ألّا كالشهاب وضوئهيحور رماداً بعد إذ هوساطعوما البرّ إلّا مضمرات من التّقىوماالمال إلّا معمرات ودائعوما المال والأهلون إلّا وديعةولا بدّ يوماً أن تردّ الودائعوما النّاس إلّا عاملان فعاملٌيتبّر ما تبني و آخر رافع[15]
والتكرار يقع أحياناً في النّداء كما رأيت في الأمثلة الواردة سابقة كما يقع في ذكر إسم المرثي تعظيماً له وحسرة لفقدانه :
على أن ليس عدلاً من كليبإذا خاف المغار من المغيرعلى أن ليس عدلاً من كليبٍإذا طرد اليتيم عن الجزورعلى أن ليس عدلاً من كليبٍإذا ما ضيم جار المستجير[16]
ويقال أنّ الشطر الأوّل يتكرّر عشرين مرّة [17] ممّا يدلّ على خضوع الشاعر لغليان عاطفته وعلى الإشارة إلى أنّ المرثي لا يقارن به أحد شأناً ومنزلة.
كما يأتي الشاعر بالإستفهام لبيان شدّة تفجّعه بفراق المرثي ومبالغته في ذكرمناقبه كما نجد في البيتين التاليين للمهلهل حيث يقول :أ تغدويا كليب معي إذ ماجبان القوم أنجاه الفرار ؟أ تغدويا كليب معي إذ ماحلوق القوم يشحذهاالشّفار ؟[18]
فيشكوالشاعر من غربته بعد المرثي، فيجمع بين إستفهام ونداء وطباق ليجمع بين عذاب الفراق وإلتذاذ بذكره واستحضاره وشجاعته ولتأكيد ألمه وحسرته له.
كذلك إنّ الإستفهام يستخدم لتقرير أنّ العمر يمرّ وينتهي إلى النّقصان والضعف ولبيان أنّ الموت شامل لا مفرّ منه وهذه لتعميم المصيبة وتنفيس المصاب وارتياحه كما يقول لبيد في رثاء أربد:
أليس ورائي إن تراخت منيّتيلزوم العصا تحني عليه الأصابع[19]ويقول أيضاً:أتجزع ممّاأحدث الدّهر بالفتىوأيّ كريم لم تصبه القوارع[20]
وکان الشّاعر الجاهلي في رثائه يصف المرثیّ بجميع الصّفات الفاضلة ويخلع عنه ما يعيبه من الصّفات. يقول في ذلک بطرس البستاني : « هم يصفون الميّت بجميع الفضائل الّتی يفاخرون ويمدحون بها ». [21] فنجد لبيد بن ربيعة يقول في أخيه أربد راثياً:
أشْجَعُ مِنْ لَيثِ غَابةٍ لَحِمٍذُونَهْمَةٍ في العُلاوَ مُنْتَقَد[22]وکذلک قوله :حُلوًّ کريمٌ وَ في حَلاوَتِهِمُرٌ لطيفُ الأَحْشاءِ وَ الکَبَدِ[23]
فکما تشاهد أنّ الشاعر يصف المرثيّ بالشَّجاعة والآمال البعيدة العاليه وحُسن الخُلق وبأَنّه مکرم أصدقائِه ومخوّف أعدائه. والشاعر الجاهلي يصف المرثي بصفات أخری کالحلمِ والهيبة:
حَليمٌ إذا ما الحِلْمُ زَيَّنَ أهلَهُمع الحِلْم في عينِ العدوِِّ مَهيبُ[24]
والمرثي عند الشاعر الجاهلي نحيل الجسم مندرس الثّوب لا من فقر ؛ لأنّه في سعة العيش بل من رجحانه الآخرين علی نفسه، فهوزاهد جواد في فقره وبؤسه لا في الغنی فقط. کما يقول دريد بن الصِّمة:
تَراه خَميصَ البَطْنِ وَ الزّادُ حاضرٌعتيدُ ويَغْدُوفي القَميصِ المقَدَّدِوإنْ مَسَّهُ الإقواءُ والجهدُ، زادَهسَماحَاً وَ إتْلافاً لِما کانَ في اليَدِ[25]
کما يصف الشاعر الجاهلي المرثيَّ بأنّه لم يکتسب الفضائل طوال حياته، بل هي طبيعة لمرثيّه:
الحزمُ وَالعَزمُ کانا مِن طَبائِعِهما کلُّ آلائِهِ يا قومُ أُحصيها[26]ويعدّ الشاعر فضائل المرثي ويتذکّره،فلايقدرأن ينام:أ ليلتَنا بِذي حُسْمٍ أَنَيريإِذاأنتِ انْقَضَيْت فَلا تَحوري[27]
فثثقل عليه هذه المصيبة،فلا يستطیيع أن ينساه،فيبکي حتّی تأتيه المنيّة کماتقول الخنساءفي رثاء أخيها صخر:
فَلا وَاللهِ لا أَنْساکَ حتَّیأُفارِقَ مُهْجَتي وَيشقَّ رَمْسي[28]وتقول:وَسَوفَ أَبکيکَ ماناحَتْ مَُطَوَّقَةٌوماأََضاءَ تْ نُجُوم اللَّيلِ للسّاري[29]
فلا تقدرأن تتحمّل فراق أخيها المتخلّق بالأخلاق الکريمة والفضائل العاليه الّتی مدحته بها،فموته أعظم مصيبة راها الإنس والجنّ:فَلَمْ أَرَمِثْلَهُ رُزْءً لجِنٍّولَمْ أَرَمِثْلَهُ رزءً لإنْسِ[30]
ولم تكن الخنساء هي الوحيدة في رثاء أقربائها. فنجد غيرها من الشواعر اللاتي فجعن بموت أخوتهنّ وآبائهن فرثينهم، كرثاء سعدى بنت الشّمردل الجهينة لأخيها في قولها:
أ من الحوادث والمنون أروَّعُوأبيت ليلي كلّه لا أهجعُوأبيت مخلية أبكّي أسعداًولمثله تبكي العيون وتهمعإنّ الحوادث والمنون كليهمالا يعتبان ولوبكى من يجزع[31]
فحزن الشاعر الجاهلي بعد ممات المرثي يجعله أن لا يری خيراً في الحياة بعده ويدعوألّا تطول حياته :
فإنْْ تَحْیَ، لا أَمْلَلْ حياتي وإنْ تَمُتْفما في حياةٍ بعدَ مَوتِکَ طائِلُ[32]
ويصف الشاعر الجاهلي قومه بالعزّ وعدم الخضوع أمام الظّلم. وأحياناً يسيطر عليه العصبية الجاهلية، فيرى الإغماض عن الأخذ بالثأر ذلّاً لقومه فيحرّض بذلک قومه :
أقولُ لتغلبٍ والعزّ فيهاأََثيروها، لذلِکُمُ إنْتصارُ[33]
ويهدّد احياناً قوم القاتل ويريد منهم تسليم القاتل إليهم. فإن لم يفعلوا ذلک لا بّدَ من القتال بينهم. کما أنّه يری أنفسهم مستحقّين للموت لولم يأخذ واثأر المقتول منهم :
قُلْ لبني ذُهْلٍ :یيردّونَهأويَصبِروا للصَّيْلَمِ الخَنْفَقيقْإنْ نَحْنُ لَمْ نَثْأَرْ به فَاشحَذُواشفارَکم مِنّا لحزِّ الحُلُوقْغَداً نُساقي- فَاعْلَموا –بَينناأَرْماحنَا مِنْ قاِني ءٍ وکالرَّحيقْ[34]
وبعد أنْ يحزن الشّاعر الجاهلِِي لموت المرثيّ ويهدّد قاتليه فيتعهّد ألاّ ينتقل إلی المللّذات والغانيات والخمر وَأنْ لايَخلع درعَه وسيفَه حتّی يأخُذ ثأرَه، کما يقول المهلهل:
خُذْ العهدَ الأَکيدَ عليَّ عمريبِتَرکي کلَّ ماحَوَتِ الدِّيارُوَهِجريَ الغانياتِ وَشُربَ کأسٍوَ لُبسْي جبّةً لا تُسْتَعارُولستُ بِخالعٍ دِرعي وسَيفيإلی أنْ ييخْلَعَ الليلَ النَّهارُ[35]
ثم إنّ النظرة العابرة إلى ما وصل إلينا من الرثاء توضّح لنا أنّ الرثاء هومحطّ الحكمة العقلية حيناً والعاطفة الجيّاشة حيناً آخر، كما نجد أحياناً أنّ العاطفة تتخلّل الحكمة فتمزج الصلابة بالرقّة. فالشاعر إذا كان ذا شخصيّة متأمّلة في الحياة يغلب عليه العقل فيبرّر الشاعر المصيبة بتجاريبه وتأمّلاته العقلية ممّا يجعل شعره بعيداً عن العواطف أو ينقص مكانتها خلال الأبيات. فيتحدّث الشاعر عن الحياة وما فيها من فقر وغنى وجزع وفرح وخسران وربح وشيب وشباب وعجز وقوّة. فلا يتكلّم عن شئٍ إلا ويأتي بضدّه تنفيساً لما أصابه وخلاصاً منه وتسهيلاً لمواصلة الحياة وهذه حكمة ناتجة من تخاطب الإنسان مع الطبيعة توجد فلسفة جديدة للحياة. ومن الشعراء الجاهليّن الذّين برزت الحکمة في رثائهم بروزاً واضحاً هولبيدبن ربيعة. فهويرکزّ جلّ عنايته علی إعطاء الاعتبارات العامّة. فيتحدّث عن التغيرّ والتَّحوّل في الدّنيا وعن أنّ ساکنيها جاؤوا قوماً بعد قوم حتّی استخلفنا هم :
وَمَا النّاسُ إلاّ کَالدّيارِ وَأهلُهابِها يَومَ حلّوها وَ غدْواً بلاقِعُوَيَمضُونَ أَرْسالاً وَنخلُف بعدهموَ يَمضُونَ أَرْسالاً وَنخلُف بعدهم[36]
ويتذکّر المتوفّی ويذکر الموت بأنّه موعد لکل النّاس. فبعضهم ماتوا وبعضهم قريب من موتهم :
فلا تَبْعَدَنْ إنَّ المنيّةَ مَوْعدٌعَلينا فَدانٍ للطّلوعِ وَطالِعُ[37]
والشاعر الجاهلي يأتي بالحكمة في رثائه ليستخلص من همومه «إذا لم يجد سبيلاً إلی إدارک الثّأر، أوإذا أدرکه، أوإذا کان المّیت قضی غير مقتول بمرض أوحادث طبيعيّ، فيعمد إلی تعزية نفسه بذکر مصائب الدهر وفلسفة الحياة والموت». [38]فيتحدّث عن الولادة والموت، ويراهما من طبيعة الحياة. فکلّ ولادة يعقّبها موت لا مفرّ منه لأحد. فهويبرّز بهذا حوادث الدّنيا ومشاقها ليجعلها قابلة للتّحمل. فلذلک لا تفرحه طريفة ولا تؤلمه مصيبة:فَلا جَزِعٌ إنْ فَرَّقَ الدَّهرُ بَينَناوَ کلُّ يَوماً بِهِ الدَّهْرُ جازِعُفَلا أَنا يَأْتيني طَريفُ بُفَرْحَةٍوَلا أَنا لَمَّا أحْدَثَ الدَّهرُ جازِعُ[39]
إلی جانب رثاء الشاعر غيره «قد عرف الشّعراء الجاهليوّن ضرباً من رثاءِ الشاعر لنفسه عند ما يحسّ بدنوّ الموت، کرثاء الممزق العبدي لنفسه وتصويره لطقوس الموت الّتي ستجري علی رفاته من ترجيل لشعره ودرج جثمانه في أَکنافه، ثمَّ لحده حيث يقول:
هَلْ لِلْفَتی مِنْ بَناتِ الدَّهْرِمِن واقِأَم هَلْ لَه مِن حِمامِ الموتِ مِنْ راقِقد رجّلوني ومارُجِّلتُ مِن شَعَثٍوَ ألبِسوني ثياباً غير أخلاقِوَ أَرْسَلُوا فتيةً مِنْ خَيْرِِ همْ حَسَباًلِيَسْندوا في ضَريح التّربِ أطباقي[40]
والشّاعر الجاهلي صادق العاطفة في رثائه. فحزنه الشّديد واضح من خلال أبياته خاصّةً إذا کان الرّثاء في أحد الأقرباء. کما نجده عندالمهلهل حيث يرثي أخاه کليباً:
أَبتْ عَينايَ بَعْدَکَ أَنْ تَکُفّاکَأَنَّ غَضَا القَتَادِ لَها شِفَارُکَأَنّي إذ نَعی النَّاعي کُلَيْباًتَطَايَر بَيْنَ جَنْبَيَّ الشَّرارُفَدُرْتُ وَ قَدْعَشِيَ بَصَري عليهکما دارَت بِشارِبِها العُقَارُسَأَلتُ الحَيَّ أَينَ دَفَنْتُمُوهُفَقالُوا لي «بسَفحِ الحيِّ دارُ»فَسِرتُ إليه من بلدي حَثيثاًوَطارَ النَّومُ، وَامْتَنَعَ القَرارُ[41]
فإذا قرأت قصائده في رثاء أَخيه تجد أَنَّه يصوّر حزنه في تفجعّ شديد کما في القطعة السّابقة علينا،فتأبی عيناه من ألاّ تبکي، فتذرف الدّموع کأَنَّ شفارها غضا القتاد.وعند ما يسمع موت أخيه تطاير بين جنبيه الشّرار. فمن شدّة الحزن والبکاء لاينام، فيضطرب. ويکاد يفقد بصره.
ولا شکٍّ في أنّ العاطفة تضعف لوکان المرثي من غيرأهل الشّاعر. فلا نجد حينئِذٍ التفجع في رثائه کما نجده عندرثاء أقربائه. يقول في ذلک بطرس البستاني:« إذا ابتعدت المراثي عن الأهل والأقرباء وخرجت إلی السادات والملوک الغرباء،کان شأنهاشأن المدح التّکسّبي، علی غیر آصرة صحيحة تربط الشاعر بالميّت إلاّ ذکر أياديه البيض عليه کرثاء النّابغة للنّعمان الغساني حيث يقول:
يَقُول رِجالٌ يُفکرونَ خَليقَتيلعلّ زياداً ، لا أبالک ، غافلُغفلتي أنّي إذا ما ذکرتُهتحرّک داءٌ في فؤادي داخلُوإنّ تلادي إن ذکرتُ وَشِکََّتيوَ مُهري وَ ما ضَمَّتْ لديََّ الأَنامِلُحِباؤکَ وَ العِيسُ العِتاقُ کأنّهاهجان المهی تُحدي عليها الرّحائلُ[42]
فلولا اقّترابه من النّعمان الغسّاني لشککنا في جعل شأن رثائه شأن الملاح التّکسّبين – کما يقول البستاني- لقوله :« رجال ينکرون خليقتي. ..» الّذي يشيرإلی رغبته في رثاء النّعمان ولقوله :«إذا ماذکرته تحرّک داءٌ في فؤادي داخلُ» الّذي يدلّ علی حزنه وأئمه. ولکن لا کحزن المتفجّع لفقيده.
والرّثاء کغيره من الفنون الشّعرية الجاهلية مرآة صادقة للحياه الجاهليّة. فالشاعر الجاهلي يصف مرثيّه بالتّحلّي بالأخلاقيّات مثل الشجاعة والجود والحلم والزّهد وغيرها، وقد استشهدنا فيما سبق لهذه الصّفات بالشّواهد الشّعريّة.
وکذلک نجد في الّرثاء من عاداتهم امتناعَهم من شرب الخمر ومعاشرتهم الغانيات وابتعاد هم عن الملذّات عند موت أحدأقربائهم.
ونجدأيضاً في رثائهم أبياتاً تدلّ علی معرفتهم ببعض المعارف کالعيافة والعرافة والنّجوم، کما أتی به لبيد بن ربيعة في رثاء أربد:
لَعَمْرُکَ ماتَدري الضَّواربُ بِالحصی
وَلا زاجِرتُ الطَّيرِ ما اللَّهُ صانعُسَلُوهُنَّ إِن کذَّ بتُمُوني مَتی الفَتـیيَذُوقُ المَنايا أَم مَتی الغَيثُ واقِع[43]کما يقول:أخْشی علی أَرْبَدَ الحتوفَ وَلاأَرْهَبُ ذَوْءَ السِّماکِ ولأَسدِ[44]
فهذه الأبيات تدلّ علی أنّه کان منهم من يعتقد بالعيافة والعرافة ومن لايعتقد هما ويری أنّ الله هوالّذي تجري الأموربيده.
Department of arabic language and literacher,
karaj branch, islamic Azad university, karaj, iran
مشاركة منتدى
29 تشرين الثاني (نوفمبر) 2012, 10:24, بقلم علاء الدين
شكراااااااااااااااااااااااااا كثيرا
15 كانون الأول (ديسمبر) 2012, 07:53, بقلم محسن محمد هاشم الأهدل
كلام جميل جدا في الرثاء
15 آذار (مارس) 2014, 11:47, بقلم khalil slow avdal
أجود أشكال الشعر
25 آذار (مارس) 2014, 20:38, بقلم khalil slow avdal
أجود أنواع الشعر بالجاهلية هو الرثاء وأني معجب جدا به لذا أقرأه وأتابعه
30 أيار (مايو) 2014, 17:49
الله يحفظكم ان بدي اعرف عن كل غرض مين احسن شاعر فيه ان احب هذا الميدان وما بدي انهار فيه كباقي الميادين ارجوكم ساعدوني
3 تشرين الثاني (نوفمبر) 2014, 16:25, بقلم عاشقة الاقصى
جزاكم الله الف خير
19 شباط (فبراير) 2018, 23:50, بقلم معاذ إسحاق دومبيا
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
22 نيسان (أبريل) 2023, 13:22, بقلم محمد
اريد اشياء يمكن التعديل فيها
يالييت لى تفيدونا