الرجل الذي هزم أوروبا
ولد نابليون بونابرت (نابليون الأول) في 15 أغسطس 1769 في أجاكسيو بجزيرة كورسيكا الإيطالية، وكان الطفل الرابع لكارلو ليتشيا بونابرت (الأب)، وليتيزيا رامولينو (الأم)، وينتمي والده إلى عائلة إيطالية نبيلة، لذلك أرسل نابليون وهو صبياً (1779) إلى مدرسة أوتون وأمضى بها خمس سنوات، ثم التحق بعدها بمدرسة سان سير العسكرية في مدينة براين بفرنسا، ثم التحق بأكاديمية باريس العسكرية، وكان مستواه متوسطاً في معظم المواد الدراسية، إلاّ أنه كان متفوقاً في الرياضيات.
في سبتمبر 1785، تقلد رتبة ملازم ثانٍ في سلاح المدفعية في الجيش الفرنسي، وعمره ستة عشرة عاماً، وخدم في مدرسة تدريب ضباط المدفعية. وفي 1791، رُقي إلى رتبة ملازم أول، ثم إلى نقيب في عام 1792م. انضم إلى جماعة اليعاقبة، التي طالب كثير من أعضائها بإعلان فرنسا حكومة ملكية دستورية.
استدعى نابليون إليه الأنظار من الدور الممتاز الذي لعبه في طرد الإنجليز من مدينة طولون عام 1793 أثناء الثورة الفرنسية، ومكافأةً له عُين قائداً للجيش الفرنسي في إيطاليا فبراير 1794حيث تم ترقيته إلى رتبة بريجادير (جنرال)، وقد ألقي القبض عليه وسجن فترة قصيرة على أنه من أنصار روبسبيير، وفقد وظيفته ولكنه أعيد بعد ذلك إلى الخدمة. نال إعجاب حكومة الإدارة بدفاعه عن دار المؤتمر الوطني عام 1795 فعين قائداً للحملة الإيطالية التي جعلت انتصاراته الرائعة فيها بطل فرنسا المرموق. وفي 9 مارس 1796، تزوج نابليون من جوزفين دو بوراني، وهي من أصل فرنسي من المارتنيك في جزيرة الهند الغربية، وكانت تكبره بسته أعوام، ولها طفلان من زوجها السابق الفيكونت دي بوهارنيه الذي أعدم بالمقصلة في سنة 1794.
حول نابليون جيشه من جنود جائعين بلا نظام إلى جيش منظم لا يقاوم ولا يقهر، وبحلول عام 1796، أصبحت النمسا العدو الرئيسي لفرنسا، وبعد اندلاع الحرب بينهما كسب نابليون الحرب، حيث ترنحت الإمبراطورية النمساوية تحت ضرباته القوية في معارك لودى وأركولى وريفولي، وفي أقل من عام هزم أربعة جيوش كان كل منها أكبر من جيشه. وحقق نابليون انتصاراً نهائياً بعد أن تقدم إلى جبال الألب مهدداً فيينا في أوائل عام 1797م، وفي 17 أكتوبر من العام نفسه وقّعت فرنسا معاهدة كامبو فورميو، التي بموجبها توسعت أراضي فرنسا، وعاد نابليون إلى باريس فاستقبل استقبال الأبطال.
وضع نابليون مع حكومة الإدارة خطة لضرب الإنجليز في الشرق باحتلال مصر لتهديد طريق بريطانيا إلى الهند. ففي مايو 1798، أبحر نابليون إلى مصر على رأس جيش مؤلف من 38 ألف جندي، وفي أول يوليه 1798هزم نابليون المماليك في معركة الرحمانية ثم زحف إلى القاهرة فسقطت في 21 يوليو (معركة إمبابة وقد أطلق عليها الفرنسيون معركة الأهرام). وكانت نقطة الضعف الأساسية في الحملة الفرنسية، هي ضعف البحرية الفرنسية، قياساً إلى البحرية البريطانية، وفي الأول من أغسطس من العام نفسه، دمّر الأسطول البريطاني ـ بقيادة الأدميرال هوراشيو نلسون ـ الأسطول الفرنسي، في معركة أبي قير البحرية.
وفي فبراير 1799، غزا نابليون عكا المنيعة، ولكنها استعصت عليه، وصمدت أمام حصاره، لاستبسال والي عكا أحمد باشا الجزار، وتفشي الطاعون في جنود نابليون. فتراجع إلى مصر، حيث هزم الأتراك في أبي قير. وبعد ذلك سمع نابليون بهزيمة الجيش الفرنسي في إيطاليا، فعاد إلى فرنسا في 14 أكتوبر عبر الأراضي السورية متخفياً في ملابس فلاحة مصرية، تاركاً وراءه الجيش الفرنسي بقيادة كليبر الذي اغتيل على يد سليمان الحلبي وخلفه مينو الذي استسلم في أغسطس 1801.
وصل نابليون إلى باريس، حيث أحدث باشتراكه مع سييس إنقلاب 18 بريمير 1799 الذي أسقط حكومة الإدارة، وأقام حكومة القنصلية، واختير هو قنصل أول. فوجه اهتمامه إلى إصلاح أحوال فرنسا الداخلية، فأوقف التضخم المالي، ونظم الضرائب، عقد الصلح مع البابا، وبدأ يضع قانوناً جديداً عُرف باسمه فيما بعد (قانون نابليون) أو القانون المدني، الذي لا يزال يُشكل أساس القانون المدني الفرنسي، ثم ذهب لمقابلة أعداء البلاد. فسرعان ما اضطر إلى خوض معارك حربية مع الروس والنمساويين، ففي يونيه عام 1800م، فاجأ نابليون بجيشه النمساويين، وهزمهم في معركة مارنجو، وعقد مع النمسا معاهدة لينيفيل، ثم معاهدة أميان 1802 مع إنجلترا. واختار الشعب الفرنسي نابليون قنصلاً أول مدى حياته 1802، وبذلك عاد السلام إلى أوربا، ولكن الصلح لم يدم طويلاً، إذ أعلنت إنجلترا الحرب على فرنسا 1803. وفي 8 مايو 1804 بكاتدرائية نوتردام انتخب مجلس الشيوخ والشعب في فرنسا نابليون إمبراطورا لفرنسا، وقبض بشكل مطلق على السلطة، لينهى خمسة عشر عاماً من الاضطراب الداخلي.
وقد توج نابليون ملك لإيطاليا عام 1805، ثم تمكنت إنجلترا من تكوين التحالف الدولي الثالث ضده في عام 1805من : النمسا، وروسيا، والسويد، ثم انضمت بروسيا للتحالف 1806، ولكن سرعان ما سقطت هذه الدول صرعى تحت ضرباته الساحقة، فهزم النمساويين في معركة أوسترلند في فريينا 1806، وروسيا في يدلند 1806 وأكره القيصر الروسي على عقد صلح تلست الذي جعل نابليون سيد قارة أوربا بلا منازع، وترك صلحه مع السويد 1808 إنجلترا بلا حليف.
في عام 1809، ذاق نابليون مرارة الهزيمة لأول مرة، على يد النمسا، إلاّ أنه سرعان ما انتقم لنفسه، عندما أحرز انتصاره الكاسح في معركة (واغرام)، في صيف العام نفسه. وفي عام 1810، وصلت إمبراطوريته إلى ذروتها، بضم هولندا وأجزاء كبيرة من شمالي ألمانيا إليها. وفي يونيه 1812، عبر جيش نابليون إلى روسيا، واندفع الجيش إلى موسكو، ليجدها خالية من السكان تقريباً. وبعد فترة وجيزة من دخول الجيش الفرنسي موسكو، دمرت النيران ـ التي أشعلها الجيش الروسي المنسحب ـ أجزاء كبيرة من موسكو، فلم يتمكن نابليون من تزويد جيوشه بالإمدادات، وأخذت جيوشه تكافح ضد العواصف الثلجية، ودرجات الحرارة المتدنية التي بلغت حد التجمد، وهلك في تلك الحملة نحو 500 ألف جندي فرنسي.
بعد عودته من روسيا، واجه نابليون حلفاً عدائياً، من النمسا وإنجلترا وروسيا وبروسيا والسويد. وفي أكتوبر 1813، اشتبك الطرفان في معركة الأمم، في ليبتزج، فهُزم نابليون، وعاد أدراجه إلى فرنسا، فطارده الحلفاء واستولوا على باريس. منح الحلفاء نابليون السيادة على جزيرة ألبا، الواقعة في طرف الساحل الشمالي الغربي لإيطاليا. ومكث في الجزيرة مائة يوم، قرر بعدها الرجوع إلى فرنسا، معتمداً على ولاء ضباط الجيش له، وكان ذلك في مارس 1815.
وسرعان ما استعاد سيطرته والتفت فرنسا مرة أخرى حول رايته، وهرب لويس الثامن عشر، فقام نابليون بحملة عسكرية، هزم الجيوش المتحالفة ضده في بلجيكا، وأتبعها بإنزال الهزيمة بالبروسيين والبريطانيين، وحاصر الجيش البريطاني في 18 يونيه 1815، وشن نابليون هجوماً على دوق ولنجتون في وترلو (في الجزء الشمالي من وسط بلجيكا). التي أصبحت من أكثر معارك التاريخ شهرة (معركة وترلو). وفي الوقت الذي بدت فيه القوات البريطانية على وشك الانهيار، وصلت القوات البروسية بقيادة جيبارد بلوخر، لتشد من أزر القوات البريطانية. وتَلَقَّى الجيش الفرنسي هزيمة ساحقة.
وبذلك انتهى حكم المائة يوم، ونزل نابليون عن العرش وسلم نفسه في أغسطس من عام 1815إلى سفينة بريطانية، حيث نُفي إلى جزيرة سانت هيلانة الموحشة (جنوب المحيط الأطلسي) وقضى سنوات النفي المريرة يملي مذكراته بعد أن كوّن إمبراطورية ضمت معظم غربي أوروبا ووسطها. توفي نابليون في 5 مايو 1821، نتيجة إصابته بسرطان في المعدة، ودُفن في جزيرة سانت هيلانة، إلاّ أن جثمانه أُعيد إلى باريس ليرقد بجوار نهر السين تحت قبة الأنفاليد (كنيسة القبة).
وقد تعددت الأقوال حول سبب وفاة نابليون، فالبعض قال إنه مات بسرطان المعدة، بينما رأى آخرون أنه مات مسموما بالزرنيخ لعدة دلائل تم اكتشافها فيما بعد ومنها أن جسده ظل سليما إلى درجة كبيرة بعد عشرين عاما من وفاته، وهي إحدى خصائص الزرنيخ، كما أن وصف "لويس مارشند" لبونابرت في الأشهر الأخيرة من حياته، مطابق لأعراض حالات التسمم بتلك المادة، ومع ذلك فقد أثبتت بعض الدراسات الحديثة أنه مات بسرطان المعدة تماما كأبيه.
إن الاطلاع على نهاية نابليون البائسة ، بعد حياته ومعاركه وانتصاراته وحكمه وإمبراطوريته وقصوره وثرواته وأحلامه وغروره ودهائه ومغامراته، ليكشف زيف هذه الدنيا وأنها مجرد زينة لا تلبث أن تزول وتنزوي. إن خداع بهرجة الدنيا وزخارفها أخطر ما يمكن لأي إنسان أن يسقط فيه، حتى أن نابليون وصف في بعض مذكراته التي أملاها على مساعديه حالته النفسية فقال "... كيف سقطت؟! أنا الذي كان نشاطي لا حد له أنا الذي لم أخلد للراحة! أيصبح هذا حالي؟ كسولا بليدا خَدِرا! لقد أصبحت أبذل جهدا لأرفع الجفن عن عيني، لقد كنت في بعض الأحيان معتاداً أن أُملي في مختلف الموضوعات على أربعة أو خمسة من السكرتيرين يكتبون بالسرعة نفسها التي بها أتحدث، لكنني كنتُ وقتها نابليون...أما الآن فأنا لا شيء... إنني حي لكنني ميت".
المراجع:
– جاد محمد طه، محاضرات في تاريخ أوربا الحديث.- القاهرة: كلية الآداب – جامعة عين شمس، 1997.(غير منشورة) ص 272، ص 267
– عبد الوهاب الكيالي، موسوعة السياسة.- الطبعة الرابعة.- بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1999، ج 6، ص 538.
– مجدي سيد عبد العزيز، موسوعة المشاهير.- الطبعة الأولى.- القاهرة: دار الأمين للنشر - منير البعلبكي، موسوعة المورد.- الطبعة الثانية.- بيروت: دار العلم للملايين، 1994، ج7، ص100.
– الموسوعة العربية العالمية.- الطبعة الثانية.- الرياض: مؤسسة أعمال الموسوعة للنشر
– الموسوعة العربية الميسرة، إشراف محمد شفيق غربال.- القاهرة،1959، ص1812- 1813.