الأحد ١٨ تموز (يوليو) ٢٠٢١
بقلم أحمد غانم عبد الجليل

الرقص في خفايا الظلام

على أنغام موسيقى صدحت فجأة في أرجاء الغرفة، بدأ قدها الرشيق يتوهج في تمايله أمامه بفتنةٍ مثيرة، تهامس الأرض برؤوس أصابعها، فتنبجس من حولها أنهارٌ تتلاطم أمواجها على وقع خطاها المترنحة واهتزاز صدرها المكتنز، يدنو منه حينًا حتى يوشك أن يحتويه ويغيبه بين ثناياه، ويصد عنه في غنجٍ رقيق حينا، وكأنه يهم بالتلاشي، ذراعاها تلوحان في الهواء، ترسمان صورًا تتراكض مرتجفة ما بين السقف والجدران، تسابق ارتعاش بطنها وردفيها المتماسكين على سطح المرآة المتصدعة، والمثقلة بالتراب.

يتفصد العرق عن جبينه، ويحتدم داخله الموت والحياة في نشوةٍ مجنونة تكاد تغيبه عن الوعي، ينتفض في مكانه، ويصطلي بلهيب تأوهها وهي تواصل رقصها الغجري المحلق في فضاء المكان، تعبث بثيابه المهترئة، المركونة في الخزانة على الدوام، ترنو من كتبه التي كان يقرأها في زمنٍ آخر، تمزج بين عناوينها، تعربد بصفحاتها الصفراء، تسحق أسطرها، تفكك جملها، وتذيب أحرف الكلمات.

تدوس بباطني قدميها صوره المتناثرة مع حبيبةٍ قديمة، أو ربما كانت زوجة، تدفأ بأحضانها لياليَ طوال, ورفاق لم يعد يتذكر منهم أحدًا، تبدد ما تبقى له من ذكريات مخضبة بالدماء وعفونة الموت في جحورٍ مخفية تحت الأرض، راحت تنسل من فجوة عقله سريعًا إلى غياهب العدم، كما يتسرب الماء من داخل قربة مثقوبة وسط الصحراء.

يئن سريره من دلال امرأةٍ أمضت العمر كله في انتظار هذه الليلة لتتمرد على قهر احتجازها داخل قارورة الحرمان الرهيبة، مدت له يديها، تدعوه للاستلقاء إلى جوارها ومعانقة شفتيها الشرهتين، أنفاسهما المضطرمة تفزع سكون الليل، ووهج عيناها المتقد كنصل سكين حاد يسبر غور الظلمة، متمايلًا في صعوده نحو عنان السماء.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى