الأحد ٨ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٩
بقلم رشيد سكري

الرواية بين المصالحة وتدمير الذات

ظل الخطاب الروائي العربي، طيلة القرن الماضي، مشدودا إلى حبل المقاومة بالكتابة، كتعبير عن الرفض، لواقع قاس و صعب، يتراوح ما بين الألم و الأمل. ففي ذلك، كانت السِّمة المهيمنة، على الإبداع السردي العربي، هي فضح ما يقع خلف الستار القاتم والمعـْـتم، من انتهاكات جسيمة تتغيَّأ، من خلالها، تدمير الجسد و الكرامة الإنسانية. وفي هذا المقام، باتت الرواية العربية تبحث عن جذور، تؤمِّن بها تصالحَها مع الذات والواقع العربيين، لاستئصال ماض موبوء، باق ومقيم في وعي الإنسان العربي تتوارثه أجيال و أجيال. فما كان للحكي، بمختلف تلويناته، إلا أن يسافر عبر نصوص تشاكل بين الحداثة والتحديث، فكشفت عن جسد عار ينزُّ دما و يتحلـَّب ألما. فبفعل القوة والاستبداد والخنوع والطاعة العمياء، استطاع الجلادُ أن يدمر كل ما هو جميل و فاتن، بل كانت له القدرة و المهارة على أن يغرس غريزة الموت) الثاناتوس (،بدل أن يسقي شجرة الحياة) الإيروس (حسب تعبير الدكتور جابر عصفور، ليظل الإبداع مرتبطا عضويا بهذه الانعطافة الخطيرة من تاريخ الأدب العربي. فبالرغم من بعض النصوص، التي كانت تحلم بفجر جديد، استطاعت أن تحرك، إلى حد ما، مياها آسنة و راكدة، ولامست عصبا عاريا من الجسد العربي، كشفت من موقعها، عن واقع قموع و مستبد الذي عاشه ويعيشه المواطن البسيط والأعزل. متمكنة، بذلك، من تغييبه في غياهب سجون واعتقال، ليبقى هذا الجرحُ غائرا على امتداد الوجود.

إن فعل الكتابة، هو مقاومة بفعل المعرفة، حيث إنها ـ أي الكتابة ـ تتهدد إسقاط التعصب وهدم الانتصار الأعمى لأخلاقيات بائدة، تؤمن بقوة زائفة، تنقشع مع مرور الزمن. فضلا عن ذلك، تظل الكتابة و المعرفة فعلين تدميريين للهيمنة المطلقة، يجنحان دائما إلى تعرية واقع وبائي و ضحل، بل يعملان على رفع الستار عن المسكوت عنه داخل المجتمع. غير أن الكتابة شعور و إحساس و دغدغة مشاعر وأحاسيس و جذوة خيال، تلاعب الزمن والمكان وتنتصر عليهما. في حين تظل المعرفة حبيسة الوعي، قابعة وراء الفهم والإدراك و المناقشة، مجردة من كل ما هو محسوس و ملموس.

فمن أجل استبانة العلاقة الموجودة بين الكتابة و المعرفة، يظل الإبداع الحلبة، التي تنكشف عندها هذه الرؤية الفنية المصطبغة بالواقع. ولئن كانت الرواية العربية، حسب جابر عصفور، ورشا أدبيا للمقاومة عن طريق الكتابة، فإن الخطاب الروائي يزاوج، في هذا المستوى، بين المعرفة الأيديولوجية للوقائع الروائية، و يصلها وصلا بالكتابة. حيث إن هذه الأخيرة تصبح، بلاغة توصل الصور الفنية، بل تتماهى و الوظيفة، التي تقوم بها الآلة الفوتوغرافية. وغير بعيد عن هذا التماهي الموجود بين المعرفة و الكتابة، يظل الكاتبُ المبدعُ، السَّمْت الوحيد الذي يؤلف بينهما، ويكشف للعالم عن حقيقة غائمة، أمست ملتبسة في الأذهان لفترات من الزمن.
بتعبير آخر، فعندما تتزاحم في الذهن المعرفة و الكتابة، يخرج الكاتبُ المبدعُ برؤية فنية، كمَجْلى من مجالي بلاغة الإمتاع الأدبي، التي تتراوح بين ما هو كنائي و استعاري مجازي، يجرِّح الواقع، ويُعري عن عصبه العاري، بل يستطيع أن يُشرِّحَه ـ أي الواقع ـ بأدواته الفنية، بهدف إعطاء للوجود معنى يبتغيه. لذا يبقى الإبداعُ، دائما، وسيلة تؤمن العبور إلى ما يموج به الواقع من صراعات وأيديولوجيات متطاحنة. إن الانتصار، الذي حققه الحكي على كل أشكال العنف الرمزي في المجتمع، واستمراره ـ أي الحكي ـ في الزمان و المكان، دليل على المكانة المتميزة التي يحتلها الخطاب الأدبي في الوجدان الإنساني عبر التاريخ. فما كان انتصار فدريكو غارسيا لوركا، الشاعر الإسباني، على الموت، وهو يواجه رصاص فرانكو، الذي دك برشلونة دكا، إلا تعبيرا واضحا على المدى غير المتناهي الذي يبلغه الخطاب الأدبي الشعري، فضلا عن رجع الصدى والرجة المعرفية، التي تبقى راسخة في الأذهان عبر التاريخ.

فمن بين الروايات، التي استطاعت أن تقلِـّبَ القارئ وجعا، ويحس معها أن شيئا ما بداخله، يفعل فعله، مثل القـُداد، يعتصره حسْرة و ألما، و كانت لها ـ أي الرواية ـ الجسارة والجرْأة على أن تلامس العصبَ العاري في جسد الكتابة، ومعها أصبح القارئ سجينا و أسير عذابات و إهانات تتعرض لها الكرامة الإنسانية، نجد رواية " الآن... هنا أو شرق المتوسط مرة أخرى "لعبد الرحمان منيف. بَيـْد أن الكتابة الواصفة للتجربة الإنسانية خلف القضبان، تقتضي المعرفة بالظروف السياسية والاجتماعية التي تمر بها البلاد العربية، من أجل اكتمال صرح الكتابة واندماجها المطلق بالمعرفة التاريخية. تحكي رواية "الآن... هنا" عن رحلة علاجية إلى براغ لسجين سياسي في دولة العموريَّة، بعدما أكدت الخبرة الطبية على أنه ـ أي السجين ـ سيلاقي حتفه، بسبب التعذيب الذي تعرض له في غياهب سجونها و معتقلاتها. وفي هذه الرحلة سيلاقي سجينا آخر هو طالع العريفي، فنسجا علاقة وطيدة، بفعل ماضيهما المشترك، حيث تقاسما تقريبا الذكريات نفسها عن المطبَّات ومعاناة الاعتقال في سجون موران و العمورية. وعن الرواية يقول سعد الله ونّوس " حين فرغت من رواية عبد الرحمان منيف الجديدة، أحسست حلقي جافا، وغمرني شعور ذاهل بالعار... كيف نعيش حياتنا اليومية، ونساكن هذا الرعب الذي يتربص بنا هنا... والآن؟ "

لا نستطيع الحديث، إذن، عن أدب السجون من دون ذكر التجربة الروائية لعبد الرحمان منيف، فضلا عن ارتباطها الشديد بالمعرفة الحقيقية للأفضية و الأمكنة الذي تتحرك فيه شخصياته.

فالسجن مكان للتعذيب، والمستشفى مكان للموت يقول عبد الرحمان منيف "اضطجعت استعدادا للموت. أثناء الاستعداد تذكرت أشياء كثيرة، ولا أبالغ إذا قلت إنني تذكرت كل شيء، منذ أن كنت صغيرا، وحتى اللحظة التي غادرت فيها المستشفى..."، فمهما اتسعت أحياز التجربة الرواية، عند منيف، إلا ونحس أنه على معرفة بخصوصية المكان الذي تتشكل منه الرؤية الفنية، لتأتي الكتابة كمنجز و كتحد للأسلوب الكلاسيكي المهيمن على السرد العربي. إن الخصوصية التي تتمتع بها المعرفة عند عبد الرحمن منيف، هي تحريضية بالأساس، تتلمس طريقها نحو الكشف والمكاشفة بين الجلاد والضحية. فما الكتابة، في هذا كله، إلا وجهٌ من وجوه النضال، والتساؤل و تحريك للجامد والغوص في مستنقع.

فمن بين الروايات الأخرى، التي ساهمت في هذا المنجز الحكائي، رواية الكاتب المغربي جواد مديدش، المعنونة ب "درب مولاي الشريف ـ الغرفة السوداء"، والتي ترجمها عبد الرحيم حُزَل إلى اللغة العربية. ولما كانت المعرفة تهم الوجود في أسمى معانيه، خصوصا للذين لم يعايشوا سنوات الرعب، حسب أبرهام السرفاتي، فإن جواد مديدش قربنا من معاناته التي دامت أربع عشـْرة سنة، والتي سَلـَخها من أصل اثنتي وعشرين سنة كسجن نافذ في غرفة سوداء معتمة. يقول عنها مديدش "إنها غرفة تحكي بحيطانها وسقفها المصبوغة بالأسود، مدخنة هائلة، تقوم لصق السقف منها، كوة هي الوحيدة المطلة على الخارج. ينفذ منها الأكسجين و ضوء النهار بتقتير شديد... كنا في هذه الغرفة اثني عشر نفرا".

إن الكتابة، عند جواد مديدش، لا تنساق وراء الجاهزية في الكلام و القول، بل تجعل القارئ متورطا و صانعا للحدث في الآن نفسه، فضلا عن تحميله المسؤولية المصيرية في الوجود والكينونة. من هذا المنطلق، تحكي رواية "درب مولاي الشريف" عن انكسار أحلام شبيبة حزب الطليعة بالمغرب، وهي تواجه، نهاية سبعينيات القرن الماضي، ظلم و استبداد الجلادين. لكن السؤال الذي علق بذهني، وأنا أقرأ الرواية، من أين أتى جواد مديدش بتلك اللمسة الإنسانية لمحكياته، وهو يعيش الرعب و الغضب الوحشي لجلاديه في الزنازن و أقبية الموت؟

وأمام الانفراج السياسي نهاية الثمانينيات، وصعود قوى اشتراكية جديدة تؤمن بالحرية والديمقراطية، استطاع المغرب، منتصف العشرية الأولى من الألفية الجديدة، وبناء على قرار المجلس الاستشاري للحقوق الإنسان بالمغرب، أن يخلق هيئة الإنصاف والمصالحة. سيكون الأمر طبيعيا، في ظل هذا الانفراج، أن تخرج " الغرفة السوداء " من وسطها الروائي إلى الوسط السينمائي، حيث اعتمد المخرج السينمائي المغربي " حسن بنجلون" على تقنيات حديثة في التصوير و الإخراج، بغية المرور السهل من الرواية إلى الفلم التصويري.

نرى، في ضوء ما قدمناه، أن الرواية استحوذت على نصيب كبير من الإبداع في الساحة الثقافية. واحتلت، بذلك، مساحة مهمة ضمن الوسائل و التقنيات التي يتفاعل بها الإنسان مع واقعه و محيطه. ونتيجة لذلك، حسب الدكتور جابر عصفور، أصبح الإنسان يعيش زمن الرواية. فالمزية لا تكمن في أي الزمنين يستحوذ على مخيلة المبدعين، أ زمن الرواية أم زمن الشعر؟ وإنما المزية تتجلى في مدى وسع الإبداع من مقاومة كل أشكال الانتهاكات و التعسّفات، التي يتعرض لها الإنسان في تاريخه النضالي ضد قوى الطغيان.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى