ستيفن ديرالوس بصيغة مغربية
يعد محمد زفزاف واحدا من أساطين الأدب المغربي، وأنا في ميـْعة الصبا، قرأت مجموعته القصصية"العربة"، التي كانت أيقونة، بكل المقاييس، تصور تصويرا فوتوغرافيا الواقع المغربي. في الحقيقة، كان اندهاشي كبيرا عندما أحسست أن للأدب طاقة خلاقة يكتشف بها هذا العالم هذه الحياة، بل إن الانبهار كان على أشده و سيد الموقف، عندما أصبح الأدب قادرا على أن يفعل الكثير، كما قال الكاتب البيروفي ماريو فارغاس يوسا.
صهيل محمد زفزاف جاء من أدغال نهر سبو، حيث عانق الفقر، واحتضنه كما يحتضن جائع رغيف خبز حاف. انتظم إبداع زفزاف في السرد والشعر. في المرحلة الثانوية كانت أولى قصائده تتفتح على رحيق الصبا، حيث تنبأ له أستاذه الدكتور ابراهيم السولامي بفجر واعد في الأدب. كانت الانطلاقة الحقيقية من وراء المجاميع القصصية، التي أصبحت سراج هذا الثعلب الذي يظهر ويختفي. فضلا عن ذلك، فانطلاقا من مجموعته القصصية"حوار في ليل متأخر"إلى الأعمال الكاملة القصصية والروائية،التي تحسب لوزارة الثقافة المغربية، جاءت الشهرة إلى محمد زفزاف تغني ليل الصابرين. فبقدر ما تزداد أسهمه في بورصة قيم ورواسخ الإبداع، بقدر ما يزداد ترسخا وتعلقا بأصلاب مهمشين ومنبوذين وتعساء في المجتمع. لم يكتف، محمد زفزاف، بإخراج أصواتهم المبحوحة إلى العلن، وإنما صورهم كما فعل، بأبطالهم، الكتاب العالميين من أمثال إرنست إمنغواي و أنطوان تشيخوف وغي موبسان.
محمد زفزاف ورث عن هؤلاء العظماء حرفة الأدب، فلا مكان لرمية نرد على طاولة الندماء، ولا باب مشرع على عبث و استهتار وصدف، وإنما الأمرُ معقود على ناصيته بلاغة القص وأريجه. في مد الحكي وجزره، والاحتفاء بلذائذ الأمور، عاش محمد زفزاف الفقر الحقيقي، وبنى مجده لوحده، كما قال الشاعر إدريس الملياني. في سيرة العظماء تغضن الإملاق على وجوههم، حتى صار محفزا للإبداع الحقيقي. فكما أنطوان تشيخوف كما محمد زفزاف، كانا على موعد مع الفقر، الذي يرسم طريقا نحو مجد آت من وراء مزنة ندية. فبعد إفلاس والد تشيخوف، كانت العائلة تتهادى على صخرة صماء من فاقة وحاجة. فما كان لأنطوان إلا أن يصطاد طيورا ويبيعها؛ بهدف تغطية مصاريف الدراسة. واستطاع بعد جهد كبير، أن يلمع بريق اسمه كأديب مميز فوق سماء جامعات موسكو، بإبداعاته الصادمة للواقع الروسي، مما أهله أن يفوز بجائزة بوشكين. تتجلى لنا الصلة العضوية، التي تجمع تشيخوف بزفزاف، في نقدهما اللاذع للواقع الإنساني من جهة، حيث إنهما يعتبران الإنسان جوهر هذا الكون. فلا بريق في الأفق ما لم يتخلص الإنسان من الأصفاد والمكبلات، ومن ثم يعانق المدى في وهاد وبهاء الحرية.ومن جهة ثانية، فرغم الحاجة والفاقة، فهما يتمتعان بصفات إنسانية عابرة للوجود. وقد ترجما هذا الشعور والإحساس بالآخرين وبألمهم وعوزهم، إلى الأدب من خلال أعمال الرائدة. فأنطوان تشيخوف كان سباقا إلى هذا الضرب من الإبداع، ففي كتابه"جزيرة سخالين"وكذا قصته التي عنونها ب"القاتل"جمع تشيخوف وثائق عن معاناة السجناء والسكان المحليين في حياتهم اليومية، علاوة عن الاضطهاد الذي يعنفون به من قبل إدارة السجون المنتشرة في كل مكان، بالمقابل نجد محمد زفزاف قد سار على الدرب نفسه.
فمن خلال مجموعة من قصصه، وفي مقدمتها"الديدان التي تنحني"، والتي سحرت عميد القصة المغربية أحمد بوزفور، نعثر على لغة بسيطة منحنية نحو شعاب وتجاويف دقيقة في الجوهر السلوكي عند الإنسان، وذلك عبر ما أبداه السارد من تعاطف إنساني مع عمال في مجاهل جبال وغابات ترجيست؛ سفح جبل تدغين. يقول بوزفور :"حين تعرفت لأول مرة على قصته الذائعة الصيت :"الديدان التي تنحني". وقد كان لهذه القصة بعض الأثر في اتجاهي لكتابة القصة القصيرة... اكتشفت أن من الممكن أن تدخل الحياة المغربية إلى الكتابة، وبمستوى عال من الحرفية الفنية، وأن من الممكن أن أصبح أنا الآخر كاتبا إذا صممت، وثابرت".
لم تكن اللغة، التي يركب صهوتها محمد زفزاف، بسيطة كما يعتقد العديد من النقاد، فالتجربة التي خاضها زفزاف تفرض إيقاعا لغويا متفردا في المبنى والمعنى. فالنظرية الباختينية، التي تفجر الواقع من الداخل، بأساليب تغضن وجه الواقع المعاش، تفرض مزيجا متكاملا من صور فوتوغرافية مندغمة بلغة تتراوح بين الفصيح و ما يشبه العامي. يقول في"العربة":
ـ الضاوية. أريد برتقالة. أنا جائع.
ـ ها الخير ! زيدوا ها الخير!
أريد برتقالة.
ـ يا ابن الكلبة. ألا تحشم؟ منذ الصباح وأنت تأكل. الليلة سوف تتقيأ مصارينك..."
في كتاب"الأدب العربي وتحديات الحداثة، دراسة وشهادات"تطريز لحوارات أجراها الكاتب والأديب السوري عبد الله أبو هيف مع العديد من كتاب الوطن العربي من مختلف الروافد المعرفية، ومن بينهم الأديب المغربي محمد زفزاف، حيث إن هذا الأخير أكد على أن الكتابة القصصية لا يجب أن تهتم أكثر بالأسلوب، فالاهتمام باللغة، حسب زفزاف، يكون مقبولا في الشعر بناء على تنظيرات الشعراء العالميين أمثال ستيفان مالارميه، بول فاليري، عزرا باوند، وبدر شاكر السياب. ويبقى الأسلوب القصصي الأنجع، في تناول الظواهر المجتمعية، ينبني على الوضوح وترتيب الجمل والكلمات، ويأتي الحذف والمحو كتقنيتين حديثتين في وصف الصور، التي يعتمدها زفزاف في نصوصه الإبداعية. ومن حيث إنه يربط رباطا متينا بين مصير الأدب ومصير المجتمع، فإن العمل السياسي يجيء كمعطف يدثر التجربة الزفزافية. وفيها نجد الجيل الذي أقبرت أحلامه الوردية مع صعود جلادين إلى هرم السلطة السياسية، وباتت المرحلة الأفقيرية، نسبة إلى الجنرال أفقير، عنوان جيل سعل الدم في القصة والشعر، حسب محمد زفزاف.
وحتى يبقى حبل الوصل والود دائمين، ويتم فيهما ربط الماضي بالحاضر، جاء تكريم محمد زفزاف على شرف اتحاد كتاب المغرب، وفيه أحب الناقد المغربي نجيب العوفي أن يلقبه بستيفن ديرالوس لكنه بصيغة مغربية. حيث جاء زفزاف إلى الأدب من عوالم دونية سفلى، يستبعد الأضواء ويتبرم منها ؛ لأنه على علم بمزالق الشهرة، بما هي تقتل ولا تحيي صاحبها. فبالرغم مما سطره، وحبره محمد زفزاف طيلة ثلاثة عقود، من قصص وروايات ومسرحيات وأشعار، في مختلف المنابر الإعلامية المغربية والعربية، يظل اسمه خافتا بين طلاب المعرفة والثقافة، حيث يكاد تخلو مقررات الدراسية المبرمجة للطلاب من نصوصه. فالكتابة بالنسبة له نابعة من وعي وضمير مهني حي، ينتج المعرفة و يربي الحس الجمالي؛ بغية التفاعل الإيجابي و الانصهار المطلق في بوتقة التغيير نحو الأفضل.