السبت ٤ آب (أغسطس) ٢٠١٢
بقلم رقية منصوري مقدم

السخریة والتهکم في شعر امل دنقل

إعداد:رقیة منصوري مقدم، ماجستیر في اللغة العربیة وآدابها، بجامعة «تربیت معلم تهران»

الموجز

یعد السخریة والتهکم من أسالیب الرفض في شعر امل دنقل، والهدف منهما هو الانتقاد للاخطاء والعیوب؛ فردیة کانت أو اجتماعیة أو السیاسیة، وهذا لیس لمجرد الضحک بل یأتي لإلقاء الضوءعلیهما وتنبیه المتلقي واستنهاض الوعی فیه بالنسبة لها.

الکلمات الرئیسیة:امل دنقل، الشعر المعاصر، السخرِیة والتهکم.

مقدمة

الحمدلله الذي أعطانا نعمة التعقل والتفکروأکرمنا بین جمیع المخلوقات.
یبیّن الانسان مقاصده عن طریق کلامه شعراً أو نثراً. کان «امل دنقل» شاعراً کبیراً الذی یدافع عن وطنه(مصر)بصورة صریحة أوغیر صریحة، أی عن طریق السخریة و التهکم. في هذه المقالة نتکلم عن أمل دنقل وهدفه عن استعمال هذا الاسلوب(اسلوب السخریة و التهکم)في أشعاره.

السّخرية و التّهکّم لغة و اصطلاحاً

السّخرية لغة قد ورد عنها في «لسان العرب»: «سَخَرَ منه وبه سَخْراً وسَخَراً ومسْخَرآً وسُخْراً بالضمِّ وسُخْرَةً وسِخْرياً وسُخْريةً: هَزيءَ به....» [1]
وفي «القاموس المحيط» نجد «سَخَرَ منه و به کًفًرِحَ، سَخْراً و سَخَرَاً وسُخرَةً ومَسْخَراً وسُخراً: هَزِيءَ کاستسخر والاسمُ السُّخرية والسُّخْري و....» [2]

اما السخرية اصطلاحاً و کاُسلوب ادبيّ في کتابة الشعر و النثر فهي «نوع من التأليف الادبي او الخطاب الثقافي الذي يقوم علي أساس الانتقاد للرّذائل و الحماقات و النّقائص الإنسانية، الفردية منها والجمعيّة، کما لو کانت عملية الرًصد أو المراقبة لها، تجري هنا من خلال وسائل و أساليب خاصّة في التّهکم عليها، او التّقليل من قدرها، أو جعلها مُثيرةً للضّحک، او غير ذلک من الأسباب الّتي يکون الهدف من ورائها التّخلص من بعض الخصال و الخصائص السّلبيّة.» [3]

والتَّهکم لغة فقد ورد في المعاجم «وقد تهکّم علی الأمر وتهکَّم بنا: زَرَی علينا و عَبثَ بنا... و التَّهکم: الإستهزاء. من حديث أسامة: فَخَرِجْتُ في إثر رجلٍ منهم جعل يتهکَّمُ بي أی يستهزِئ ويستخفّ.» [4]

والتَّهکم اصطلاحاً وکاُسلوبٍ أدبيّ «شکل من أشکال الکلام (أو الخطاب) يکون المعنی المقصود منه عکس المعنی المعبَّر عنه بالکلمات المستخدمة، وغالباً ما يأخذ هذا المعنی اشکال الهجاء او الاستهزاء الّذي تستخدم فيه تعبيراتٌ هادئهٌ ملتبسة کي تتضمَّن إدانةً أو تحقيراً أو تقليلاً ضمنيّاً مستتراً من شأن شخصٍ أو موضوع أو کليهما معاً.» [5]

قِدَمُ السّخرية في الأدب

«للسُّخريّة أو الميل إلی إثارة الضّحک بواسطة الصور المضحکة جذور عميقة في الطبيعة البشريّة، وهي من أقدم المواهب الفطريّة الّتي مارسها الإنسان في مجتمعه البدائي غير المهذّب. وولوع الإنسان بالضّحک والهزء والفکاهة وفطنتها السّريعة إلی کيفية إثارتها قد شملت البدائيين، وقد ظهرت بوضوح في علاقات بعضهم ببعض من قديم الزمن وحتی قبل أن يصقل الإنسان ادب أو فن، کان رئيس القبيلة البدائيّة يجلس في کوخ محاطاً بالمحاربين من قبيلته، وکانوا يسلون أنفسهم و يتلهَّمون بتناول أعدائهم و خصومهم بالهزء بهم: فکانوايضحکون من ضعفهم ويتبادلون النکات بما يجنون فيهم من نقص أو تشويه، سواءً کان هذا النقص عضويّاً، أو في عقلهم وحيلتهم، ويطلقون عليهم القاباً مضحکة، وهم يقصدون من وراء ذلک أن يهزؤوا بهم بالألفاظ أو بأن يلفقوا عنهم الحکايات التي هي في عداد الاشياء التي تثير انبساط أساريرهم وضحکهم.
ثمَّ انتقل الإنسان القديم إلی مرحلة تالية في هذا الفن؛ بأن بحث عن وسيلة يکسب بها هزءَه صورةَ أکثر بقاءً وخلوداً، فأخذ يرسمها علی الصحف المکشوفة، أو علی أی سطح ليّن رسماً ساذجاً. ثمًَ عرف هذا الفنّ عند کثيرٍ من الأمم القديمة وکان الکتاب السّاخرون دائماً روّاد الحرکات الإصلاحية في التاريخ.» [6]

حياة امل دنقل و ادبه

وُلد «محمد امل فهيم ابوالقاسم محارب دنقل سنة 1940 م في قرية من صعيد مصر اسمها القلعة» [7] و«کان ينتمي الی جيلٍ شعريّ لاحق لجيل صلاح وحجازي» [8] و«کان شاعراً وطنياً مناضلاً قبل کلِّ شيءٍ.» [9]
«ترک العملَ لانشغاله بالشعر والحياة، واستمرّ شعره هادفاً ثائراً علی الواقع، أحياناً ساخراً منه باسلوبٍ يحيل هذه السّخرية إلي إبداعٍ شعريّ غاية في الشفافية تطلق في ذهن القارئ العديد من المعاني الشّعرية.» [10]
«عُرِفَ بالتزامه القومي و قصيدته السياسية الرافضة و لکن اهمية شعر دنقل تکمن في خروجها علي الميثولوجيا اليونانية و الحزبية السائدة في الخمسينات، وفي إستيحاء رموز التراث العربي تأکيداً لهويته القوميه وسعياً إلی تنوير القصيدة وتحديثها.» [11]
«يتمثل علاقة مميّزة علی خريطة الشعر المعاصر، وتتسم اعماله بأنّها تتمحور حول موقفٍ محددٍ هو: الدفاع عن قضايا الوطن (مصر) و الأمَّة (العروبة).» [12]

صدرت له «ستُّ مجموعات الشعرية هي:
البکاء بين يدي زرقاء اليمامة. بيروت 1969 تعليق علي ماحدث. بيروت 1971
مقتل القمر. بيروت 1974 العهد الآتي. بيروت 1975
اقوال جديدة عن حرب البسوس- القاهرة 1983 اوراق الغرفة 8- القاهرة 1983.» [13]
مات الشاعر المصري امل دنقل بعد صراعٍ رهيبٍ مع السرطان استمرّ خمس سنوات.

السّخرية والتهکم في أشعاره

قیل حول هذاالفن «انفجر امل دنقل في الشعر الحديث بهدوء، لکن بنوعٍ من السخرية لم تتوفر کثيراً في هذا الشعر، کان الفن عنده يسخر في الجرح ويسخر به معاً. و صارت هذه الخصيصة من أرقی ملامح شعره و ربَّما وصلت في أحيان کثيرة إلی ذروة المأساة الإنسانية التي‌ تنطوي علی قدر کبير من درامية الحياة البشرية.» [14]
إذن نستطیع أن نقول«فالسخرية أداة لاعلان موقفٍ رافضٍ وانتقادي بالنسبة للوضع الراهن أو الاوضاع الراهنة في أیّ مجال، أو أحياناً مهاجمة هذه الاوضاع والکشف عن أسباب تردِّيها کالاخطاء او التصرفات الخاطئة، والتحذير منها ومن الاخطار التي تسبّبت عنها، وذلک عن طريق الترکيز علی هذه الاخطاء أو التصرفات... في إطار الضحک عند المتلقي بداية الأمر، لکنه يستنهض الوعی عنده ويستفزّمشاعرَه او عقله بالنسبة لها.» [15]
يستطيع امل دنقل بجماليةٍ شعريةٍ غاية في الشفافية «أن يباغت القارئ بصورةٍ يوميةٍ تصعد إلی المستوی الصورة الشعرية الراقية. يحدث هذا من غير أن تفقد الصورة اليومية الشعبية بساطتها، ودون أن يقع في المبالغة الکلاسيکية المعتمّة، والتي يحيط الضجيج البلاغي بها، فاللمحة الساخرة عنده تفجر في ذهن القارئ ما لايقاس من المعاني والآفاق الشعرية.» [16]

«قيل لي «اخرس» فخرستُ ... و عميت ... و ائتممتُ بالخصيان!
ظللتُ في عبيد (عبس) أحرس القطعانْ
أجتزُّ صوفها..
أردُّ نوقها ..
أنام في حظائر النيسانْ
طعامي: الکسرةُ .. و الماءُ ... و بعض التمرات اليابسة.
و ها أنا في ساعة الطعان
ساعة أن تخاذل الکماة .. و الرماة .. و الفرسانْ
دُعيتُ للميدانْ!
أنا الذي ما ذقتُ لحم الضأن
أنا الذي لا حول لي أو شأن
أنا الذي أقصيتُ عن مجالس الفتيانْ،
أُدعي إلی الموت ... و لم أدع إلی المجانسة!!» [17]

إنَّها قصيدة البکاء بين يدي الزرقاء اليمامة، «هنا السخرية تصير نوعاً من الطقس الحزين ... لقد اختصر الشاعر هنا تاريخاً عميقاً من القمع والجوع، فکل کلمة هنا تشتمل علی مدلولاتها التاريخية الواقعية. فالانسان الذي لم يکن يتمتع بالحرية والديمقراطية، هو المطلوب للدفاع عن الوطن، والذي يعرف عمق الاشارة إلی الواقع الاقتصادي، سيکتشف بشاعة الاشارة إلي کلمة (لحم الضَّأن)، إنَّ أمل هنا يوظف السخرية الشعبية في تفجير الجذور.»[ مجلي،نسیم، امير الشعراء الرفض (امل دنقل)، ص 91]]

و نموذج آخر من السخرية في شعره، هو في قصيدة کلمات سبارتا کوس الأخيرة، حيث يعتذر سبارتاکوس، هذا الثائر المسکين لقيصر السفاح، من أخطائه ويستعطفه ويستسلم له قائلا:
«يا قيصر العظيم: قد أخطأتُ ... إنّي أعترف
دعني- علی مشنقتي- ألثمُ يدکْ
ها أنذا أقبُّلُ الحبل الذي في عنقي يلتفُّ
فهو يداک، و هو مجدک الذي يجبرنا أن نعبدکْ
دعني أکفّر عن خطيئتي
أمنحک بعد- ميتتي- جمجمتي
تصوغ منها کأساً لشرابک القوي
.. فإن فعلت ماأُريدْ
إن يسألوک مرَّةً عن دمي الشهيدْ
و هل تري منحتني «الوجود» کي تسلبني «الوجودْ»
فقل لهم: قد مات.. غير حاقدِ علیَّ
و هذه الکأسُ- التي کانت عظامها جمجمته- وثيقة الغفران لي.
يا قاتلي: إنّي صفحتُ عنک....» [18]

هو في الحقيقة «يخاطب قيصر بسخريةٍ لاذعةٍ، وهذا الاعتذار للطاغي والاستسلام له وتحريضه علی ممارسة قهره وطغيانه، إشارة إلی أخطائه وجعلها نصب الأعين، کي يراها الآخرون ويردّوا عليها. وبما أنّ سبارتاکوس يخاطب في القصيدة الفقراء والبؤساء والخاضعين للظلم والقهر، فهو في الحقيقة يستنهض الوعی فيهم بالنسبة للقهر المفروض في ظلِّ الحکم القيصري، کي يثيروا الرفض والتمرد فيهم أمام هذا القهر، وذلک عن طريق رسم صورةٍ ساخرة وضاحکةٍ عن قيصر وتصرفاته وتعاملاته. [19]

هذا ويهدف أمل دنقل من جرّا هذه القصيدة والسخرية إلي نوع من الخداع «حيث يجعل سبارتاکوس يمنح قيصر جمجمته کي يصوغ منها کأساً لشرابه ويحفظها وثيقة غفران لنفسه، فهو يخدع قيصر کي يفعل هکذا حتی يشاهد الناسُ الجمجمة وينتبهوا إلی أنّ قيصر طاغ و سفاحُ، ويتخذوا موقف المعارضة أمامه ويواجهوه بما يناسبه.» [20]
أمل دنقل من جرّاء الخداع الناجم عن سخريته لقيصر يريد أن يثبت أنّ الظلم مرتعه وخيمٌ، ولا يختفي عن عيون الناس، ويريد أيضاً أن يستنهض الناس حتی يثور ويهاجم الأعداء. وحول هذا الخداع والسخرية جاء في کتاب البينات الدالة في شعر امل دنقل «هو نوع من الأداء الفني الذي يقوم علی السخرية المرة والتهکم، فکلّ ما يطلقه سبارتاکوس من اعتراف واذعان يتحوَّل إلی ضدِّه وبدرجة مضاعفة.» [21]

أما التهکم، کما قلنا «هو لون من الوان السخرية تجاه الذات أو تجاه الآخرين ومبعث التهکم هو الرغبة في نقد العيوب... بهدف الإصلاح وتقويم الاعوجاج.» [22]

ويکون المعنی المقصود منه عکس المعنی المعبَّر عنه بالکلمات المستخدمة.
وهذا الامر يتجلی في کلمات سبارتاکوس لقيصر ووصيته له حيث يقول:
«لکنتي... أوصيک إن تشأ شنق الجميع
أن ترحم الشجر!
لا تقطع الجذوع کي تنصبها مشانقا
لا تقطع الجذوع
فربما يأتي الربيع
«و العام عام جوع»
فلن تشم في الفروع... نکهة الثمر!
و ربما يمر في بلادنا الصيف الخَطِر
فتقطع الصحراء. باحثاً عن الضلالْ
فلا تری سوی الهجير و الرمال و الهجير و الرمال
و الضمأ الناري في الضلوع!» [23]

هذا المقطع الشعري خلافاً علی ما جاء علی لسان سبارتاکوس وخلافاً علی ما يبدو من الأسطر الشعرية، يحتوي علي نوع من «الانتقاد اللاذع لقيصر واستنکار شديد اللهجة لقهره وظلمه وتنديدُ بأعماله، لکن في إطار لايبوح بهذه کلها دفعة واحدة، بل يدرک المعنی المقصود بعد امعان النظر والتدقيق في لهجة الخطاب وهو يستخدم هذا الاسلوب لکي يستوقف قارئه و إنّها حيلة من حيل الإغراب ترمي إلی تغريب... وحين يبدو هذا الموقف غريباً، فإنّه يدعو للتغيير الشامل حين يمعن في دهائه الفني ويعتذر لقيصر عن خطيئته ويهديه إلي جمجمته ليصنع منها کأساً لشرابه... ولکنّه يحذره من الاستمرار في قطع الأشجار، فقد يحتاج في يوم ما إلی الظل.» [24]
فسبارتاکوس بوصيته هذا «لاينوي استعطاف مع قيصر ولا يطلب منه أن يبقي الاشجار حتي يشمَّ منها نکهة الثمر ويأخذ الراحة في ظلها ويلتجي إليها من الهجير والرمال في الصيف الخطر، بل يرمي إلی إظهار مدی شقاوة قيصر إذ لايرحم حتی الشجر ويقطعها لينصب منها مشاق الشنق الجميع.» [25]
ايضاً في خطاب سبارتاکوس لاخوته البؤساء يوجد هذا التهکم اللاذع حيث يقول:
«يا إخوتي الذين يعبرون في الميدان مطرقينْ
منحدرين في نهاية المساءْ
في شارع الإسکندر الاکبر
لا تخجلوا.. و لترفعوا عيونکم إليّ
لأنّکم معلَّقون جانبي... علی مشانق القيصرْ.
فلترفعوا عيونکم إليّ
لربَّما... إذا التقت عيونکم بالموت في عينيّ:
يبتسم الفناءُ داخلي... لأنَّکم رفعتم رأسکم... مرَّة!» [26]
في هذا المقطع الشعري، سبارتاکوس «يري إخوته مأساة حياتهم والاضطهاد الذي قد أحاط بهم وذلک في تهکم لاذع، حيث ينبِّهُهُم علی أنَّهم معلَّقون جانبه علی مشانق القيصر، وحيث يطالبهم يرفع رأسهم إليه لأنه يبتسم الفناء داخله إذا رفعوا رأسهم.» [27]

و في موضع آخر يدعو للانحناء للنجاة من القتل والهلاک ويقول:
«وإن رأيتم طفلي الذي ترکتُه علی ذراعها بلا ذراعْ
فعلّموه الانحناء!
فعلّموه الانحناء!» [28]
وحول هذاه الدعوة، الدعوة إلی الانحناء، جاء في کتاب البينات الداله في شعر امل دنقل: «لا شک في أنّ ترکيز امل دنقل بحدةٍ علي خلق الصراع بين التناقضات لکشفه وزيادة الوعي به قد أصاب الشاعر بمأساويةِ في الرؤية الجمالية للذات والمجتمع، نتج عنها السخرية المرَّة عند الرصد أو التعليق؛ فعندما يخاطب أصدقاءَه الذين يعبرون في نهايه الطريق يأمرهم أن يعلموا طفله الإنحناء ليبقي حياً وينجو من القتل.» [29]

نذهب إلي القصيدة الأخری من قصائد امل دنقل لنبحث عن السخرية والتهکم فيها، وهو قصيدة من مذکرات المبتني «حيث يتحوّل الحاکم إلی صورةٍ أُخری من کافور الإخشيدي الذي سخر منه المبتني قديماً وخصوصاً في دائرة السخرية التي لا يکفًُ فيها عن الاستهزاء بالحاکم الذي لايعرف واجباته، ولايؤدي دوره. وتصل الذروة إلي الحوار بين المبتني وجاريته علی النحو التالي:
.. تسألني جاريتي أن أکتري للبيت حرّاَساً
فقد طغی اللصوص في مصر... بلا رادع
فقلت: هذا سيفي القاطع
ضيعه خلف الباب... متراسا!
(ماحاجتي للسيف مشهورا
مادمت قد جاورت کافورا؟)
يطلب المبتني عن جاريته أن تجعل سيفه خلف الباب متراساً ويثق بسيف کافور في حين کان يسخر منه ومن سيفه الذي يأکله الصدأ في غمده، هذه المفارقة هي مفتاح التهکم هنا، لأنه إذا لم تکن المفارقة أی لم يکن لعن المبتني کافورا وسخريته واستنکاره له ولتصرُّفاته فيما سبق من القصيده، لم نکن نفهم فحوی هذا التهکم ومغزاهُ، بل لم يکن يجري التهکم هذا وکان الامر مدحاً وتمجيداً لکافور.
في هذه القصيدة صوت المبتني هو صوت الشاعر نفسه أو صوت أي مثقفٍ من أبناء مصرَ في العصر الحاضر، خاصةً بما نجده من المشابهة بين امل دنقل والمبتني من جانب وبين بيئتهما القاسيه من جانب آخر؛ وهو يقدم لنا صورةً ساخرةً وضاحکةً عن کافور، رمز السلطة المهزولة والمتخاذلة في مواجهة الاعداء ورمز حاکمِ لانشمُّ من سلطته الا الجهل وقصور الفکر والبصر. [30]
وخيبة امل الشاعر في أمثال کافور وسيف الدولة «يواجهها بالسخرية اللاذعة التي تتجلي في هذه المقابلة بين حمله وحقيقة ما يجري علي الأرض العربية من تهويد و في تضمينه لأبيات المبتني وضع عساکر مصر بدلاً من ثعالبها، لکي يکون أوضح وأکثر صراحة في إدانة المسئولين الحقيقيین عن النکسة
.. عيدٌ بأية حال عدت يا عيد
بما مضی؟ أم لأرضی فيک تهويد؟
«نامت نواطير مصر» عن عساکرها
و حاربت بدلاً منها الأناشيد!
ناديت: يا نيل هل تجري المياه دماً
لکي تفيض، ويصحو الاهل إن نودوا؟
عيد بأية حال عدت يا عيد» [31]
هذا و«التهکم اللاذع هنا علی التصرفات السلطات المصرية وأخطائهم لايتقتصرعلی الصعيد الداخلي والحياة الإجتماعية للشعب المصري بل يتعدی ذلک بکثير ليندِّد الشاعر بتخاذلهم في مواجهة الاعداء ويستنکر المحاولات التي کانت تتمًُ من جانب المسئولين لتبرير الاحتلال الصهيوني والتخلّي عن تبنِّي مسئولیاتهم إزاء النکسة.» [32]

اساليب السخرية والتهکم في شعره وأهدافهما

لا يتخذ أُسلوب السخرية والتهکم في شعر أمل دنقل طابعاً واحداً؛ بل يظهر بصورةٍ مختلفهٍ ويرمي إلي أهداف شتّي، لکنها تشترک في خيط واحد وذلک هو ما نذکره من أهداف السخرية والتهکم «جعل العيوب والاخطاء والنقائص أو الرذائل محط الأنظار وإبانتها عن طريق منحها صورةً ناتئةً وبارزةً بالکلام، وبالتبع له الاحتجاج عليها والتنديد بها رامياً إلی الإصلاح وتحسين الامور.» [33] و هذه کلها تأتي في شعر امل دنقل.
فأسلوب السخرية والتهکم في شعره يأخذ في بعض الأحيان «طابعاً فردياً، أی یدور الکلام الساخر أو التهکم حول فردٍ أو شخصيةٍ ما... ومن نماذج هذه الصورة تهکم الشاعرعلی الکافور، وذکرُهُ عدم تدبيره، وسوءَ تصرفاته في الأمور وقصوره الفکري والعقلي والعملي وإشارته إلی سياساته الخاطئة وأخطائه في الاهتمام بالقضايا الوطنية والشعبية أو في مواجهة الاعداء والأجانب.» [34]
وذلک کله يأتي في هذا المقطع من قصيدة من مذکرات المبتني:
«ساءلني کافور عن حزني
فقلت إنها تعيش الآن في بيزطة
شريدةً.. کالقطة
تصيح «کافوراه.. کافوراه..»
فصاح في غلامه أن يشتري جارية رومية
تُجلد کي تصيح «واروماه.. واروماه..»
.. لکي يکون العين بالعين
والسنُّ بالسنَّ!» [35]
و تهکمه يأخذ أحياناً طابعاً اجتماعياً أو انسانياً عاماً، وهو في قصيدة «کلمات سبارتاکوس الأخيرة» فالشاعر« يرسم فيها صورة ظاهرةٍ انسانيةٍ عامةٍ ينقسم البشر ومصيره بناءً عليها إلی طبقتين؛ الظالم والمظلوم، ويعالج موضوع الظلم وفقد العدل والحرية في حياة البشرعلی مدی التاريخ، خاصةَ أنه يستدعي شخصية ثائرٍ شهيرٍ من أعماق التاريخ أي قبل الميلاد المسيح، وبهذا يقيم صراعاً حاسماً بين الخير والشر، والحق والباطل، ويحذر من سيطرة الشر والباطل، ويهدّد مصدرهما». [36]
کل ما نجده من أساليب السخرية والتهکم في شعر أمل دنقل «ينشأ من مشاعر شاعرالشعبيه والوطنيه، ويهدف إلي استنهاض الوعي في القارئ، او الرأي العام بالنسبة لمجتمعه وبيئته، کما يهدف إلی استفزاز المشاعر وإثارة الرفض وموقف رافض لهذه المساوي والمثالب الجمعيه ومأساة الحياة الاجتماعية.» [37]

النتیجه

تجارب الحیاة علی مرّ العصور أثبتت أنّ الحیاة السیاسیة و الاجتماعیة لکل مجتمع من المجتمعات،مهما کانت عناصره واشکاله؛ لها أثرهام في أخلاق افراده وسلوکهم. إذاً نجد هذا الشاعر منهجه فی النقد الاجتماعي وفي نظرته الساخرة إلی المفاسد الاجتماعیة والخلقیة الساعدة في عصره.
مما تبدی لنا في هذه المقالة ، ندرک أنِ السخریة والتهکم یبتنیان علی الواقع ویبتعدان عن أجواء الخیال؛ إذ یدورالکلام فیهما عن الواقع الّذي سعی الشاعر في تحویله إلی ما هو أحسن. والهدف الرئیس والغایة الأصیلةعنهما، کما قلنا؛ هو الانتقاد للأخطاء والعیوب، فردیة کانت أو اجتماعیة أو السیاسیة ، بهدف تنبیه المتلقي واستنهاض الوعی فیه بالنسبة لها.

المصادر و المراجع

1- الافریقي،ابن منظور،لسان العرب،بیروت،دارالاحیاء و التراث العربي، الطبعة الاولی،1408-1988م.
2- امین طه،نعمان محمد،السخریة في الادب العربي(حتی نهایة القرن الرابع الهجري)،الازهر،دار التوفیقیة،الطبعة الاولی،1968م.
3- حاج غني،مطهرة،امل دنقل(حیاته و ادبه)،«رسالة ماجستیر لنیل شهادة الدراسات العلیاءفي اللغة العربیة و آدابها»،لم تنشر،جامعة طهران،کلیة الآداب و العلوم الانسانیة،الصیف1384ه ش.
4- حسین،خیري(امل دنقل...ومیض تغتاله العتمة)،مجلة الابداع،القاهرة،العدد العاشر،السنة الاولی،اکتوبر 1983م.
5- دنقل،امل،امل دنقل الاعمال الشعریة،بیروت، دارالعودة،مکتبة مدبولي،(لاط)،(لات).
6- عبدالحمید،شاکر،الفکاهة والضحک(رؤیة جدیدة)،الکویت،دارالفنون و الآداب،رقم289من عالم المعرفة،الطبعة الاولی،شوال1423/ینایر2003م.
7- عزتي،صفر،ظاهرة الرفض في شعر امل دنقل،«رسالة ماجستیرلنیل شهادة الدراسات العلیاء في اللغة العربیة و آدابها»،لم تنشر،جامعة العلامة الطباطبائی،کلیة الآداب و اللغات الاجنبیة،1383ه ش.
8-عصفور،جابر،(حق الشعر)،مجلة الابداع،القاهرة،العددالعاشر،السنة الاولی،اکتوبر1983م.
9- فاضل،جهاد،ادباءعرب معاصرون،القاهرة،دارالشروق،الطبعة الاولی،2000م.
10- الفیروزآبادي،مجدالدین محمودبن یعقوب،القاموس المحیط،بیروت-لبنان،دارالجیل،(لاط)،(لات).
11- قزیحة،ریاض،الفکاهة في الادب الاندلسي،بیروت،المکتبة العصریة للطباعة و النشر،الطبعة الاولی،1998م.
12- مجلي،نسیم،امیرالشعراء الرفض(امل دنقل)،القاهرة،الهیئة المصریة العامة للکتاب،(لاط)،1994م.
13- المساوي،عبدالسلام،البنیات الدالة في شعر امل دنقل(دراسة)،دمشق،منشورات اتحادالکتاب العرب،الطبعة الاولی،1994م.
14- وادي،طه،جمالیات القصیدة المعاصرة،القاهرة،دار المعارف،الطبعة الثالثة،1994م.


[1الافريقي ، ابن منظور،لسان العرب، ج6، ص 203

[2الفيروز آبادي، مجد الدين محمد بن يعقوب، القاموس المحيط، ج 2، ص 47

[3عبد الحميد،شاکر، الفکاهة و الضحک (رؤية جديدة)، ص 51

[4الافریقی، ابن منظور،لسان العرب، ج 15، ص 111

[5عبد الحميد،شاکر، الفکاهة و الضحک (رؤية جديدة)، ص 44

[6طه،نعمان محمد امین،السخرية في الأدب العربي حتي نهاية القرن الرابع الهجري، ص 85

[7فاضل،جهاد، ادباء عرب معاصرون، ص 166

[8فاضل،جهاد،ادباء عرب معاصرون، ص157

[9فاضل،جهاد،ادباء عرب معاصرون، ص157

[10خيري، حسين: (امل دنقل ... و ميض تغتاله العتمة)،مجله ابداع، القاهرة، العدد العاشر، السنة الاولي، اکتوبر 1983 م، ص 47

[11مجلي،نسیم، امير الشعراء الرفض (امل دنقل)،ص 47

[12وادي،طه، جماليات القصيدة المعاصرة، ص 96

[13فاضل،جهاد، ادباء عرب معاصرون، ص 157

[14خيري ،حسين، (امل دنقل ... و ميض تغتاله العتمة)،ص 48

[15مجلي،نسیم،امير الشعراء الرفض (امل دنقل)، ص 61

[16حاج غني،مطهره، (رسالة اعدت لنيل شهادة الدراسات العليا في اللغة العربية و آدابها»، امل دنقل (حياته و ادبه)، ص 13

[17دنقل،امل ،امل دنقل الاعمال الشعرية، ص 162

[18دنقل،امل ،امل دنقل الاعمال الشعرية،ص 150

[19مجلي،نسیم، امير الشعراء الرفض (امل دنقل)، ص 124

[20مجلي،نسیم، امير الشعراء الرفض (امل دنقل)، ص 125

[21المساوي،عبداالسلام،البينات الدالة في شعر امل دنقل (دراسة)، ص 169

[22قزيحة، ریاض،الفکاهة و الضحک في الادب الاندلسي،ص 143

[23دنقل،امل،امل دنقل الاعمال الشعرية، ص 151

[24المساوي،عبدالسلام ،البينات الدالة في شعر امل دنقل (دراسة)، ص 171

[25المساوي، عبدالسلام، البينات الدالة في شعر امل دنقل (دراسة)، ص 173

[26دنقل،امل امل ،دنقل الاعمال الشعرية، ص 148

[27مجلي،نسیم، امير الشعراء الرفض (امل دنقل)، ص 83

[28دنقل، امل، امل دنقل الأعمال الشعرية، ص 149

[29المساوي ،عبد السلام، البينات الدالة في شعر امل دنقل، ص 181

[30عصفور،جابر، (حق الشعر)، مجله ابداع، القاهرة، العدد العاشر، السنة الاولي، اکتوبر 1983، 59- 61

[31مجلي،نسیم، امير الشعراء الرفض، ص 127

[32مجلي،نسیم،امير الشعراء الرفض،ص 163

[33عبدالحميد،شاکر، الفکاهة و الضحک (رؤية جديدة)، ص 55

[34عزتي،صفر «رسالة اعدت لنيل شهادة الدراسات العليا في اللغة العربية و آدابها». ظاهرة الرافض في شعر امل دنقل، ص 391

[35دنقل،امل، امل دنقل الاعمال الشعرية، ص 240

[36عزتی،صفر، «رسالة اعدت لنيل شهادة الدراسات العليا في اللغة العربية و آدابها»،ظاهرة الرافض في شعر امل دنقل، ص 405

[37مجلي،نسیم، امير الشعراء الرفض، ص 201


مشاركة منتدى

  • البحث في موضوعه ممتاز فالسخرية في الادب قديمة و كم كان الادب وعاءا للسخرية كما الحال مع الامثال و الحكاية الشعبية
    ليس لدي ملاحظات نقدية و بالتوفيق للباحثة و ننتظر منها مقالات و بحوث جديدة

    • شكراً إليكم أين مكانة الباحثة في هذا البحث، إن الباحثة أخذت البحث من عدة الكتب وماتستطيع أن ترى الكاتبة في صلب البحث وآسف جداً،إذا نمكن أن نسمي مقالة ولكن حقيقة ليست مقالة

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى