الاثنين ٣١ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٥
بقلم أسماء صالح الزهراني

السديم

(1)

كنت قد انهدمتُ ، دفعة واحدة ، لم يحدث الأمر بالتدريج ، أو لعلني هكذا شعرت . صحوت على وخزات الترميم ، لا أعرف كيف لحجر أن يشعر ، لكنها لم تكن وخزات ألم . كنت قد فقدت الإحساس بالألم منذ مدى . تركتهم يعبثون في أطرافي ، بعضهم زين له طموحه أن يحولني إلى قطعة فنية . و لست أدري _ مع طول ما فكرت _ لماذا اختاروني من بين كل تلك الخرائب ؟ ربما لأن سقطتي كانت ملفتة للنظر ؟ ربما لأن الدويّ الذي أحدثه انهدامي دفعة واحدة لا يمكن أن يتجاهله أحد في مدى السمع ؟ أو ربما لأن فيّ سرا لم يقدَّر لي أن أعرفه ؟ ربما و ربما ؟ كان هذا آخر مدى استطاع غروري الوصول له حتى هذه الساعة .
  صباح الخير يا سامح
  .....................
  خذ على الأقل لقمة قبل ما تاخذ الحبة وفي موعدها ... لا تهمل الموعد .... و لا تنسانا ...

تعودت على نصائح فريدة ، هي تردد ما أمروها أن تردده ، في كل مرة أسمع الكلمات نفسها ، بالنغمة نفسها حتى . لست أدري كيف يمكن لهذه الجدران أن تحتمل تكرار هذه الترددات كل ساعتين من كل يوم و ليلة ؟ هذه اللقطة تعيد لي بعض توازني ، أو على الأقل تنقل تفكيري إلى مسرح مختلف ، لا عجب إذن أني انهدمت في أقل من ثلاثين سنة ، و دفعة واحدة . إن لم تكن فأرة ، و لا نمل أبيض ، ولم يكن الزمن ، و لم يكن اختلال و ضعف في مواد البناء فماذا كان إذاً ؟
 من يوم ما خرج من المستشفى و هذا حاله يا دكتور ، حتى اسمه ينكره
  جرِّب و ناديه يا دكتور باسمه . سامح ، يا سامح رد ، الدكتور يكلمك .
حانت مني التفاتة إلى هذا الذي ينادونه سامحا ، فإذا هو كومة يتصاعد منها غبار الحقد ، مترهلة فوق قلب مخنوق . كَمَد هذا الزمن ، اشتعال هذا المدى . ضجيج ضجيج . ثم تنطفيء الأنوار في دقائق . ويخيم الظلام . حتى سامح يغيب معي في كتل ضباب دخاني ، و لا يهمني أن أعرف متى ستنجلي .

مشت بي رجلي ، قادتني إلى مكان بدا لي كما لو كان مسرحا تدور فيه مشاهد حية ، هنا اعتدت على وجوده ، يلعب أمامي في باحة المصح هاته ، المزدحمة بالحشائش ، طفل في الرابعة يعاود زيارة هذا المكان منذ فترة لا أذكرها . اعتدت أن أراه في مكانه هذا ، حين كانت الممرضة تضعني على مقعدي المخصص هنا كل مساء . كنت أنشغل برسم منظر مثالي لتلك الحشائش في خيالي ، أكره الفوضى ولا أدري لم يحاصرني كل شيء أكرهه . يرافقني دائما قلم الرصاص وكراسة من الورق غير المسطر ، في عقلي لوحة أعجز دائما عن إتمامها ، وعلى سن قلمي تتوثب مئات القصص . لم أنقطع عن محاولة ختام واحدة على الأقل ، رغم اليأس المنطبق على هذا الكون . و هذه إحدى الأشياء التي لا تلبث أن تثير زوابع الحيرة التي تنتهي بي بحقنة أدخل بعدها في غيمة الضباب .
  لا تجبرني على الغلط يا أخ حمد
  اسمي سالم
  سالم او احمد ، المهم اتركني في حالي ، أحتاج للهدوء
  ذبحتنا بالهدوء ، العمر يجري و انت تلهث ورا الهدوء
  ههههه يا اخي عطنا خريطة ندور معك على الهدوء ، نتسلى شوي

مساكين ، الملل يُجري على رقابهم سكاكينه من سنين ، في هذا المكان المنسي من الكون كلٌّ منهم بنى عالمه الخاص ، لا يريدهم من بالخارج ولا هم يريدونهم . على كل حال أنا أفكر جديا في زيارتهم حالما أنجز شيئا ، أي شيء ، آه لو يتركون القلم بيدي حتى يغلق دائرة ، دائرة واحدة تطفيء شيئا من حرائق ظمأ للإياب ، للاكتمال ، للتكهن بخاتمة ما . الهواء اليوم ساحر ، وأرغب بشدة في الاندماج في جلسة الاسترخاء الجماعية التي ينظمها المصح عصر كل يوم . لكن ذاك الطفل المنكفيء على العشب يعبث بلا ملل ينفِّرني ، إذ لا ينفك يسرق انتباهي ، بهدوءه الغريب ، وشغلني عن كل ما عداه ، بينما يعاود النظر إلى عيني بتركيز حتى يغيب فيهما . وكل غروب حين يحين وقت دخولنا العنابر كان يختفي قبل أن يلحظه أحد . كنت أبحث عنه بين الحشائش ، تجوس عيني وأنفي خلال المكان ، ويسحبني الممرض المناوب قبل أن أجده . في أي سراديب الخرائب كان يختبيء هذا الكائن العجيب ؟ لست أدري ، أن أكتشف مخبأه ، كانت هذه إحدى مهماتي التي حرصت على أن أنجزها قبل أن أغادر هذا المكان أو يغادرني .

أذكر أني ذات ليلة بينما كنت أرقب انسحاب الثواني من نافذتي بخجل فارغة اليدين ، لمحته يتلصص علي من زاوية فتحة الباب الضيقة . كانت العادة تجري على أن القاطنين هنا أرقام لا خصوصيات لهم ، فليس للابواب مقابض ، ولأن الأيدي المتوترة لا تمل تحسسها ، فنحن لا نفكر بمواربتها حتى . لم أزعج نفسي بالإسراع خلفه ، لأن الممر الصغير لا يضم سوى ثمان غرف محكمة الإغلاق ، فأين سيذهب ؟ ولبرهة بدأت أتعرف على ملامحه ، ربما كان ابن أحد العاملين هنا ، لا بد من أنه الممرض المناوب ، لأنه هو من تواجد طوال هذا اليوم . لكن لو صح هذا ، فلماذا إذن يواظب على مشاركتي كل أمسياتي ؟ ولم يكن غريبا بعد ذلك أن أفقد حماسي لإغلاق دائرة ذاك السؤال تلك الليلة ، إذ لو حدث ذلك فكيف سيكون لوجودي معنى ؟

وفي هذه الباحة مرت أيام كان مدير المصح يكثر من الحديث عن الظرف المالي الذي تمر به المصحة ، وكيف سيتم اختصار قائمة القاطنين هنا إلى أكبر قدر ممكن ، أو حتى اختصار زمن عبور بعض العابرين هنا . كان دائما ينهي عبارته الأخيرة وهو ينظر إلي بطرف عينيه . لم أفهم تلك النظرة ، ولم أحاول فهمها ، غير أن أنواعا لم أعتدها من الهواجس بدأت تزورني تلك الأيام ، وازداد احتراق قلم الرصاص على صدور أوراقي . ومع أني كنت أحكي ما يحدث معي بقلق للأخصائي ، كان يربت على كتفي بنظرة هادئة ويتركني ، كما لو كان منشغلا بترتيبات إدارية مكثفة للمصح . وتفرغت أنا أكثر للكتابة ، كانت الكتابة أهم وسيلة لعلاجي كما يقول الطبيب المسؤول عني ، لكنها لم تشكل لي إلا منفذا لإشغالي عن صراعاتي ، عن ساحات بطولاتي الوهمية ، كما هي بالضبط وظيفة الهوايات الخاصة لكل جيراني هنا .

مرت بعدها أيام رتيبة ، ثم فوجئنا ببطاقات دعوة لاجتماع تنظمه الإدارة لمناقشة ما تم اتخاذه من ترتيبات ، لاحتواء الأزمة المالية التي يمر بها المصح . وكعادتي لم أتحمس لحضور هذا الاجتماع ، كما لم أتحمس لأي شيء في حياتي ، لكن إصرار المدير على مخاطبتي شخصيا لإقناعي بالحضور جعلني أتمسك بموقف الرفض . وقبل الاجتماع بليلتين تقرر عقد اجتماع مصغر بين مدير المستشفى وطبيبي و أنا ، وحين عرفت موضوع الزيارة ؛ استلزم الامر اثنين من الأخصائيين لإقناعي بالبقاء في الغرفة . فار الدم في عروقي ، ولم أهدأ حتى بعد ابتلاع القرصين السحريين من يد الطبيب . صحيح أن أعصابي فترت ، لكن عقلي ظل مثل مرجل يغلي . لم أستطع التركيز على ما يدار بحماس من حديث بين الأربعة ، ولم أجهد نفسي في قراءة شفاههم . أقنعت نفسي أو هي أقنعتني بأن أترك الوقت يمر ليخرجوا وأستغرق أنا في سبات نقاهة طويل . كان الأربعة يتبادلون كراساتي ، وهي مزيج من القصص والقصائد والرسومات البسيطة . أشحت بوجهي في كل مرة يبسطون إحدى وريقاتي أمام عيني ، إلا حين رأيت مشهدا لفت انتباهي ، شد خلاياي كلها . تسمرت جوارحي كلها أمام تلك الورقة ، ملامح صورة شبه واضحة لذلك الطفل ، تتربع بوقاحة عليها .

ها أنا ألقي نظرة مبهمة على الباحة المزدحمة بالحشائش الطفيلية ، وفي الخارج يقف شابان ملتحيان وامراة وقور يتسلمون حقائبي الصغيرة من العاملة ، كنت لا أزال مشدوها وأنقل نظرات مرتعبة بين حقائبي و اوراقي .

  كنا نتمنى نحتفل بتوديعه بعد ما قاربت حالته لتحسن كبير
  كان عنيد
  عادته ما اشتراها
في المقعد الخلفي للسيارة لم أحاول مغالبة الخدر المتسرب في أطرافي ، واندسست في السديم من جديد .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى