السيرة الشطارية للكاتب والفنان المغربي العربي باطما
لقد رحل عنا العربي باطما الفنان المغربي الكبير سنة 1997م، بعد حياة فنية وأدبية زاخرة بالعطاء على شتى الأصعدة. مارس الغناء والفن، ومنح الكثير من أوقاته الثمينة للمسرح البلدي بالدار البيضاء تمسرحا وتمثيلا وهواية واحترافا. كما اهتم بالموسيقى والفن الزجلي وكان مؤسسا فعليا لفرقة "ناس الغيوان" التي شنفت أسماع جميع الطبقات الاجتماعية خاصة الشعبية منها. واهتم كذلك بالزجل فكان له ديوان "حوض النعناع" (دار الآفاق الجديدة، الدار البيضاء، 1991)، وملحمة زجلية بعنوان "لهمام حسام" صدر منها جزءان. كما كتب قصصا نشر بعضها في جريدة العلم مثل:قصته "الاختناق". ولا ننسى شهرته الكبيرة عندما كتب سيناريوهات لأفلام مغربية ومثل فيها، كما كتب نصوصا مسرحية لبعض الفرق كمسرح الحي (العقل والسبورة).
1- سيرة الرحـــيل:
لقد خلف لنا العربي باطما قبل رحيله سيرة ذاتية، وهي عبارة عن اعترافات وتصريحات وبوح واستنطاق لماهو مسكوت بطريقة سردية لايمكن أن ننفي عنها انتماءها الكبير إلى الرواية في عرض الأحداث وتحبيكها وإيجاد الحلول لها عبر عمليات التشويق والوصف وتصوير الشخصيات والأفضية وخلخلة الأزمنة وتنويع الأساليب وسجلاتها اللغوية. وهكذا أقول : إن سيرة الفقيد هي رواية فنية كيفما كانت التبريرات التي يقدمها المنكرون لذلك، ومهما تسلحوا بالقواعد الأجناسية الأكاديمية. فالسيرة هنا رواية بكل مقاييس هذا الفن ومواصفات هذا الإبداع. وتندرج هذه السيرة ضمن الأدب الشطاري البيكارسكي على غرار سيرة محمد شكري بأجزائها المتكاملة (الخبز الحافي، و الشطار،...)، ورواية بنسالم حميش (محن الفتى زين شامة...)، ورواية مجنون الورد لمحمد زفزاف، ولعبة النسيان والضوء الهارب لمحمد برادة... وثمة تشابه كبير بين محمد شكري والعربي باطما على مستوى الإبداع الشطاري، إلا أن شكري كان وقحا في جرأته وصراحته الواقعية بينما كان العربي باطما متأدبا في واقعيته مقتصدا في البوح والاعتراف الشعوري واللاشعوري.
وتتكون سيرة العربي باطما أو روايته الأوطوبيوغرافية من جزأين:
1- الجزء الأول بعنوان "الرحيل" (منشورات الرابطة، الدار البيضاء 1995)؛
2- الجزء الثاني بعنوان" الألم" (دار توبقال، الدار البيضاء، ط 1998).
ويلاحظ أن الجزء الأول أكبر من حيث الصفحات (173 صفحة) بالمقارنة مع الجزء الثاني الذي يحوي (91 صفحة)، أي تقريبا نصف الجزء الأول.
هذا، ويركز نص "الرحيل" باعتباره سيرة ذاتية على نشأة الكاتب وولادته وذكر أسرته وطفولته وشيطانياته وإبراز فتوته ومراهقته ودخوله إلى عالم المدرسة وانتقاله فيه من قسم إلى آخر حتى وصوله إلى آخر مستوى من الإعدادي، حيث فشل في الحصول على شهادته بسبب انقطاعه المتكرر عن التعلم وعدم انضباطه دراسيا ودخوله إلى السجن بسبب مشاركته في الإضرابات والمظاهرات الوطنية التي كان يقوم بها التلاميذ وطلبة الجامعة.
وبعد ذلك، يخرج الكاتب الفتى إلى عالم الصعلكة والتشرد والنشل والسرقة والعراك بسبب الفقر الذي نغص على الأسرة معيشتها. وقد كان الأب "رحال" يدمن على الخمر والتدخين والمخدرات ويسكن كوخا في المدينة، وهو عامل بالسكة الحديدية. وكان أولاد الرحال ينتقلون من البادية إلى المدينة حسب الأجواء والظروف التي يكون عليها الأب. وكلما كان هناك خناق بين الأب وزوجته عادت الأسرة إلى البادية؛ وهذا ماجعل دراسة الكاتب وإخوته متعثرة. وكان جد العربي باطما رحال بن العربي من الأثرياء إبان الاحتلال الفرنسي للمنطقة، ولكن سرعان ما تغيرت الظروف لتتضاءل ثروته وتنقص لينتقل في الأخير إلى مثواه المحتوم.
وقد عاش الكاتب حياة رومانسية" دون جوانية" إبان طفولته مع مربيته وقريبته وبنت المدير"زوهرة"، وكان نرجسيا لأنه كان يهتم بمظهره ،ويتأنق في هندامه، ويمسح شعره بالروائح الطيبة.
ومع صعوبة العيش وانسياق الأب وراء مغريات الحياة من خمر وحشيش وأشياء أخرى انساق العربي الابن وراء سلوكيات أبيه محاكاة وتقليدا. فكان الابن يكثر من معاقرة الخمر وتدخين الكيف واستعمال السبسي والمطوي. مما أبعده كل هذا عن عالم المدرسة وأجوائها التثقيفية. وعندما كان تلميذا في الثالثة سبعة من الإعدادي انضم إلى جماعة من الصعاليك والشطار فحولوا القسم إلى حلبة الشجار والعراك والملاكمة والتغيب المستمر والانقطاع عن التمدرس، ناهيك عن السجن الذي كان سببا لطرده بعد أن فشل في الحصول على شهادة الـــ"Brevet".
وبعد ذلك انصرف العربي باطما إلى دنيا الاحتيال وامتهان أرذل الأشغال، وانتقل من حرفة إلى أخرى دون أن يجد لنفسه فيها استقرارا ومكوثا. ولكن سيجد راحته في عالم المسرح والفن، إ ذ كان له صوت صالح للغناء والتمثيل. ومن ثم، اختير ممثلا مسرحيا محترفا في المسرح البلدي بعد أن كان هاويا ليس إلا.
ودخل العربي باطما حياة أخرى هي حياة العطاء والتمثيل الركحي، وانتقل بين مدن المغرب عارضا الفرجة الدرامية مع أعضاء فرقة المسرح البلدي، وإن كانت الأجرة التي يشتغل بها قليلة جدا لاتشفي الغليل ولا تشبع البطن ؛لأن مدير المسرح هو الذي كان يستولي على كل الامتيازات ويترك الممثلين بدون شيء تقريبا.
كما عرض العربي باطما مسرحيات مع أعضاء الفرقة في فرنسا واستفاد الكثير من وجوده في أوربا. وبعد ذلك عاد إلى وطنه شابا "هيبيزيا" عابثا متأثرا بفلسفة سارتر الوجودية التي تنبني على حرية الفعل والزمان والمكان. ويعد الكاتب من الشبان الأوائل الذين أدخلوا الشعر (بفتح العين والشين) الطويل في أواخر الستينيات.
وتتسم حياة العربي في سيرته "الرحيل" بالعبث والضياع والانغماس في زهو الحياة ونعيم الصحة على الرغم من قلة الزاد والمال. وقد قضى حياته كلها في الخمر والجنس والتدخين والإدمان على المخدرات الخطيرة المعاصرة كالهيروين والحقن السامة، ناهيك عن الحشيش والكيف مما كان سببا في إصابته بالسرطان وسببا في تعجيل رحيله إلى الرحمة الربانية إن شاء الله.
وبعد عودة الكاتب من فرنسا أنشأ مع صديقه بوجمعة فرقة" ناس الغيوان" التي كانت تجربة غنائية جماعية أصيلة في مضامينها وأشكالها، تعبر عن الفقر والبؤس ووضعية الإنسان العربي وتشنف أسماع جميع الطبقات بأحلى الأغاني المعبرة عن الحزن واليأس والتشاؤم والبكاء. وكانت الفرقة تعتمد في أداء أزجالها على أدوات موسيقية مغربية أصيلة كالبندير والطبل والسنتير. وحققت هذه الفرقة شهرة كبيرة داخل الوطن وخارجه، وقدمت فرجات موسيقية في كثير من الدول العربية كالجزائر وتونس. وكانت السبب في ظهور كثير من الفرق الغنائية التي تسير على منوالها في الأداء والموسيقى في هذه البلدان. وفي المغرب ظهرت فرق عديدة، ومن أهمها فرقة جيل جيلالة والمشاهب ومسناوة...
بيد أن هناك ما سيشتت هذه الفرقة وسيعكر صفوها وسيبعد أعضاءها عن بعضهم البعض وهو الشهرة والغرور والحقد والحسد. فهناك من سار وراء بريق المادة، وهناك من استمر في العطاء ودافع عن فنه وحافظ على راية ناس الغيوان...
2- سيــــرة الألم:
وهكذا تنتهي السيرة الأولى "الرحيل" لتبدأ السيرة الثانية "الألم" بتصوير صراع العربي باطما ضد مرض السرطان، بعد أن نبهه إليه أحد الأطباء أثناء مشاركة الكاتب في إحدى الأفلام التي تم تصوير إحدى لقطاتها بمستشفى الدار البيضاء. ومن ثم بدأ الصراع مع الداء وأجرى الكاتب عملية جراحية لإزالة أكياس مائية في عنقه وإبطه. تلك الأكياس التي كانت تفرز تورمات خبيثة بعد سنين قليلة.
وقد كتب العربي باطما سيرة "الألم" في سبعة أيام، أي في ظرف وجيز ليصور خطورة مرض السرطان وينقل للجمهور معاناة الفقراء في مستشفيات الدولة والعيادات الخاصة، حيث يعامل المرضى معاملة لاإنسانية، وذلك باستنزاف أموالهم بطريقة أنانية هيبوقراطية Hypocrite لا أبقراطية (نسبة إلى أبقراط الذي وضع أسس الطب الإنساني). وقد تعرض الكاتب مثل الكثير من المرضى لابتزازات لاتعد ولا تحصى من قبل الأطباء والممرضين والمشعوذين والمشعوذات. وهو في هذه السيرة يرصد صراعه السيزيفي بكل عنف ودرامية مع مرض السرطان مستغفرا الله تائبا متضرعا إليه لينجيه من هذا الداء الخبيث عسى أن يلقاه في مثواه الأخير مؤمنا مرحوما.
إن سيرة" الألم " هي سيرة مأساوية وتراجيدية قوامها المعاناة والصراع الإنساني ضد مرض الموت (السرطان) عن طريق الكتابة والفن والصبر والنسيان والإقبال على الحياة وإدانة الواقع وتعريته والثورة على تناقضاته الطبقية والاجتماعية والسخرية من قيمه و أعرافه، والاستهزاء من الأطباء (الحمائم الملائكية) الذين شوهوا طب أبقراط بطمعهم وجشعهم الجنوني وراء المادة.
3- البنية القصصية والحكائية::
يتحكم في سيرة العربي باطما منطق حدثي يمكن تحديده على الشكل التالي:
1- نعيم الشهرة ومدنساتها الجسدية (بداية السيرة)؛
2- مرض السرطان أو الألم العضال (عقدة السيرة)؛
3- الموت والرحيل (نهاية السيرة).
فإذا كان المغني المغربي الشهير محمد الحياني قد تنبأ بموته في أغنيته الرائعة والحزينة "راحلة"، فإن العربي باطما تنبأ بموته على عادة الفنانين والمبدعين والشعراء في سيرته الروائية المتكاملة( الرحيل والألم)، لتكون الخاتمة هي الرحيل الفعلي والألم التراجيدي لمسيرة الفن والعطاء الأدبي.
وقد تضمنت السيرة مجموعة من الشخصيات تحكمت فيها مجموعة من المحفزات التيماتيكية كالاستعمار والاستغلال والفقر والتغيير والرغبة في العدالة الاجتماعية وتحقيق كرامة الإنسان وآدميته والألم والخوف من الرحيل. ويمكن تصنيف الشخصيات في هذه النمذجة التالية:
• شخصيات استعمارية عدائية (المعمرون الفرنسيون...)؛
• شخصيات دينية عدائية (اليهود...)؛
• شخصيات وطنية (أب العربي باطما....)؛
• شخصيات تربوية (المعلم، المدير....)؛
• شخصيات شطارية (أصدقاء الكاتب والنشالون والمشردون والصعالكة....)؛
• شخصيات عائلية (الأم- الأخ- الأب...)؛
• شخصيات فنية وأدبية وصحفية؛
• شخصيات تنتمي إلى عالم الصحة (الأطباء، الممرضون، الأساتذة الأطباء...)؛
• شخصيات أجنبية (أصدقاؤه الفرنسيون وصديقاته الأجنبيات...).
وفضائيا، ينتقل العربي باطما داخل أفضية داخلية وخارجية، وأفضية منغلقة ومنفتحة، وأفضية حميمية وعدائية. وينتقل خارجيا مع فرقة المسرح البلدي من المغرب إلى فرنسا لعرض الفرجات المسرحية، وتنتهي العروض بفشل الإقبال وقلة الزاد وتشتت أعضاء الرفقة واغتناء المدير الصارم القاسي على حساب الآخرين؛ مما جعل العربي باطما يستعجل العودة إلى المغرب لاستئناف مسيرة الفن والعطاء عبر تدشين فرقة ناس الغيوان. لتبدأ تجربة الآلام والاستعداد للرحيل عبر أفضية عدائية (المستشفيات والعيادات الخاصة بالرباط والدار البيضاء).
4- البنية السردية والخطابية:
تستند الرواية في بنائها إلى خلخلة النسيج الزمني الكرونولوجي وترجيح كفة الاسترجاع (فلاش باك) إلى غاية 1948؛ لإعادة مراحل الولادة والطفولة والتعلم والمراهقة والصعلكة الشطارية والشهرة الفنية حتى سنة 1993م، مرحلة الصراع مع الألم والرحيل سنة 1997م.
ولقد اعتمد الكاتب في الانتقال من زمن إلى آخر على التلخيص والإيجاز والحذف الزمني، وفي بعض الأحيان يختار الوقفة والمشاهد الدرامية. أما زمن الكتابة فهو زمن التسعينيات (1997م) بالنسبة لكتابة الألم، وسنة 1995م بالنسبة لكتابة الرحيل. أما زمن القصة، فيمتد من 1948 إلى غاية 1997م، أي فترة رحيل الفنان المبدع.
وعلى مستوى المنظور، نلاحظ الرؤية المصاحبة هي المهيمنة على المتن الحكائي للسيرة الذاتية لوجود ضمير المتكلم وتطابق الأصوات واسترجاع المحكي الماضوي عبر التبئير الداخلي.
وإذا انتقلنا إلى الصيغة، فنلاحظ الأسلوب غير المباشر والمناجاة الداخلية (الدعاء) والحوار، وإن كان السرد أكثر حضورا من الخطاب المعروض. ولقد وظف الكاتب كذلك الزجل والأدعية وأسلوب المشاهد المسرحية واللقطات السينمائية وطريقة التقطيع والمونتاج على غرار الرواية الجديدة، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على مدى تأثر العربي باطما بالفن الدرامي والتشكيل والسينما.
أما لغته فهي واضحة وفصيحة وبسيطة تمزج بين اللغة الراقية والدارجة العامية إلى جانب توظيف اللغة الأجنبية (الفرنسية). ويميل أسلوبه إلى التقرير والتعيين المرجعي الموضوعي أكثر مما يميل إلى الإيحاء والإنشائية التخييلية. لأن الكاتب يكتب سيرة واقعية صريحة ومؤلمة قوامها الموضوعية والصدق والاعتراف بمواطن الخطإ والنجاح. إن الكاتب جريء وصريح في البوح بأخطائه وذكر سلبياته ومواطن ضعفه وخوفه، وفي نفس الوقت يذكر مظاهر نجاحه وشهرته وعطاءاته الإبداعية في مجال الفنون.
خاتمـــة:
إن "الرحيل" و"الألم" سيرة روائية شطارية مركبة ومتكاملة تصور حياة الفنان والمبدع المغربي العربي باطما في صراعه مع ذاته وواقعه وألم السرطان. وهذه السيرة تقرير عن الواقع المغربي في مخلفاته السلبية، وتفاوتاته الطبقية المدقعة، وإدانة للمجتمع السائد ودعوة إلى بناء واقع ممكن إيجابي تسود فيه العدالة والحرية واحترام حقوق الإنسان والحفاظ على كرامته. وتعد هذه السيرة كذلك تسجيلا أمينا لحياة بعض مبدعينا وفنانينا الذين عاشوا ومازالوا يعيشون على هامش المجتمع بين أنياب الفقر والطرد والصعلكة والحياة البوهيمية الشطارية ليفرضوا أنفسهم في الواقع بكل قوة على الرغم من أنفة السادة وكبريائهم المتغطرس.
وعليه، لو بقي العربي باطما حيا لكان من كبار القصاصين والروائيين المغاربة، والدليل على ذلك هذه السيرة الثنائية التي جهرت بالحقيقة الصادقة والمعاناة الأليمة والتي جسدت الصراع الإنساني ضد الألم والورم الخبيث الذي أصبح اليوم يهدد الإنسان في كل أصقاع العالم. وما أشد حاجة البشرية إلى علاج ناجع للقضاء على السرطان نهائيا بعد أن حصد الملايين من الأرواح بدون رأفة ولا رحمة، والقضاء كذلك بكل صرامة ومسؤولية على كل المخدرات بشتى أنواعها التي تسبب هذا الداء الخطير.!