الأربعاء ١٢ شباط (فبراير) ٢٠٢٥
بقلم حسن عبادي

السيف يأكل هذا وذاك «1»

"جُنّدت لمهمّة مزجت بين مهمّتي العسكريّة ومؤهلاتي الأكاديميّة. شاركت في المعركة كضابط، وراقبتها بمنظار الأنتروبولوج [2]. والعكس أيضاً صحيح– شاركت بالمعركة كأنتروبولوج وراقبتها بمنظار ضابط". هذا ما كتبه أساف حَزَني [3] واصفاً أحداثاً انتقامية صارخة قام بها جنود الاحتلال في غزة في كتابه "السيف يأكل هذا وذاك". [4] إن نظرته الثاقبة، لكونه أنتروبولوج، جعلته يبصر صغائر الأمور ويراقبها عن كثب، مما أضاف للكتاب بعداً توثيقيّاً وإضافة نوعيّة لا ينتبه إليها الإنسان العادي.

جاء في البدء لمحة عن الكتاب وبُنيته وعنوَنها "لا أثق بأحد منكم من الجيش"، مقولة سمعها من مدير مكتب الترخيص، ذهب ليرخّص سيّارته، وهو في الزيّ العسكري، وخلال انتظاره في الدور لمح المدير زيّه ودرجاته العالية فتقدّم منه مبتسماً "رغم أنّي لا أثق بأحد منكم من الجيش" وبدّاه عن الدور. وتناول لمحة عن الكتاب: مقدّمة بيّن فيها الفترة الزمنية التي تحدّث عنها وتخلّلتها مراقبة ما يحدث ويوميّاته الميدانيّة، وكذلك ملخّص فصول الكتاب السبعة، من وجهته، وأنهاه بخاتمة (برولوغ)؛ مقترح لنظرة متفحّصة من ناحية نظريّة حول ما جاء ذكره في الكتاب، وتطرّق لأسلوبه في كتابته للكتاب.
كانت المقدّمة صادمة؛ عنوَنها "أبناء الشعب اليهودي على قيد الحياة، مستمرّون في القتل" والتوقّعات من سيرورة وصيرورة إدارة الحرب وتسييرها.

يشكل الكتاب إضاءة مجهريّة للإنسان العادي على فوضى ما يسمّى ساحة القتال؛ يعمل الجيش عادةً ليحّقق قيمة عليا مفادها النصر، وماذا مع روح الانتقام؟ هل بالإمكان الفصل بينهما؟ وتسود تلك الروح الشرّيرة، روح الانتقام، لتخيّم فوق مجريات الأمور، مما يحوّل الفوضى لأمر عادي، لدرجة أنّ قائد كتيبة يتجوّل بين جنوده ويرافقه جنديّان يحرسانه طيلة الوقت فيستغربون فيما إذا كان يفقد ثقته بهم في حالة مصادمة العدو.

روح الانتقام تحلّق عبر صفحات الكتاب، تماماً كما شاهدنا بداية الحرب كلّ من رئيس الحكومة ووزير الدفاع ورجال دين وفنّانين وغالبيّة قطاعات الشعب نادت جهاراً بالانتقام، وهذا دليل على بداية الانهيار ودحض رواية "الجيش الأكثر أخلاقيةً في العالم"، وباتت روح الانتقام شرعيّة بصورة صارخة عند الجنود والضباط والقادة، وهذا ما رأيناه أيضاً عبر وسائل التواصل الاجتماعي ووصل المحافل الدولية وأروقة المحكمة الجنائية الدولية.

جاء في باب الانتقام؛ "أنا؟ أنا أنتقم منهم". في ساعات المساء الأولى في مسجد تمّ تدميره في وسط غزة عقب قصف إسرائيلي. المصطبة مليئة ببقايا قصارة نزلت من السقف. تحطّمت الشبابيك إثر إصابات القذائف، والكراسي تحطمت وصارت نشارة خشب. رجال غزيّون يجلسون على الأرض مصفوفين وأياديهم مكبّلة للخلف، ينتظرون دورهم للتحقيق معهم. يقف أمامهم جندي شاهراً بندقيّته ويمزّق صفحات القرآن. توجّهت إليه وسألته ماذا يفعل، أجابني بنظرة حزينة، هي الأصعب التي يمكنني تصويرها: "أنا؟ أنا أنتقم منهم".

كان الانتقام سيّد الموقف؛ تمّ إطلاق سراح معتقلين وأسرى غزيّين وإجبارهم على المشي في أرجاء غزّة وأياديهم مكبّلة خلف ظهورهم، ممّا أدى بقوّات الجيش إعلان حالة تأهّب واستنفار قوّات الطوارئ، لشكّهم وخوفهم بأنّ هؤلاء أسرى ومخطوفون فارّون. سبّب استنفار القوّات الخاصة بلبلة، وتبيّن لاحقاً أنهم "مجرّد" غزيّين أبقوا عليهم مكتوفي الأيدي حين تسريحهم.

تناول الكاتب انعدام الثقة بين المواطنين والجيش، وبين الجنود وقادته، وبين الجيش وقادة الدولة، العكس تماماً ممّا كان يصوّره الصحافيون المختصّون بالشأن العسكري، والكل يصبو إلى نصر بطوليّ أسطوري لإعادة بناء تلك الثقة المهزوزة والمهزومة. تلك الأكاذيب بدأت تُضعضِع تلك الحاضنة الشعبيّة للجيش ومقاتليه وقادته فيكتب ساخراً "علِقنا بيوم تبرّعات خريان"؛ في الأسبوع الثالث للحرب، وقفت في زاوية القهوة أنتظر أن ينتهي جنديّان من تحضير القهوة واختيار المعجّنات. في تلك الأيام تمتّعنا بتزويدنا بالكثير من الأكل. أكل فخم، أفضل بكثير ما متعوّد عليه أحدنا. دلّعونا بالملابس الداخليّة والملابس الدافئة ومعدّات قتاليّة. كلّ شيء. بعد تفحيص وتمحيص قرّر الجنديان أن يكتفوا بالقهوة "علَقنا بيوم تبرّعات خرائي"، قال أحدهم لزميله. لاحقاً، قلّت نسبة الأكل، وكذلك الحاجات الأخرى. تحوّل المواطنون من التبرّع اليومي لتدليعنا أيام السبت. بل توقّفت التبرعات نهائياً، تقريباً، بعد الهدنة التي تم خلالها إعادة قسم من المخطوفين".

أثار شكوك كبيرة حول تصوير القادة العسكريين لمجريات الأمور ويتساءل فيما إذا الضغط العسكري أدّى للصفقة الأولى أو "العدو يحاول التخلّص من النساء والأطفال لأنّه يصعب عليه الاستمرار بالحفاظ عليهم". كما وصوّر تحوّل الجيش إلى ميليشيات وعصابات وتوقّف الجنود عن العمل بتعليمات القادة، وكلّ منهم يتصرّف كما يراه مناسباً، حتى لو كان مخالفاً للتعليمات العسكريّة، وكثير من كبار الضبّاط قاموا بمخالفة التعليمات العسكريّة، ولم ينفّذوا الأوامر ولم يعملوا بها.
ومثال صارخ على ذلك "هدم البيوت وتدميرها"؛ تبيّن أنّ إسرائيل الرسميّة لم تتبنَّ وجهة النظر بأنه يتوجّب هدم غزة عن بكرة أبيها، لكن على أرض الواقع ظهر وكأنّ هدم المدينة وتدمير ضواحيها هو أحد الأهداف غير المكتوبة. كما تبيّن أنّه لم يكن هدماً وتدميراً نتيجة القصف لتسهيل اجتياح قوات المشاة وحسب أو تدمير في خضمّ المعارك، بل تمّ ذلك بعد السيطرة الميدانيّة على مناطق مختلفة من شمال القطاع.

وتبيّن كذلك أنّ عقليّة "إطلاق النار من أجل إطلاق النار فقط" سيطرت على عقليّة هدم المنازل وتدميرها، دون مبّرر عسكري وميداني، وحين استفسر من ضابط ميداني عن الحالة، بغتته إجابته: "الانتقام شرعيّ في هذه الحرب. لا؟"
تناول أهميّة الهاتف والصورة في الحرب؛ وكأنّي به يعنونها "أنا أصور إذاً أنا موجود". وصل ضابطان في سيارة الهامر؛ أوقفاها وهبطا منها، وتصوّرا سيلفي وظهورهم للبحر. تصوّرا بعدّة وضعيّات. حال انتهائهم من التصوير توجّه أحدهم إلى زميله قائلاً: "هل صوّرت؟ يلّا، انتهت الحرب، خلّصنا ما علينا، بإمكاننا نروّح". ضحكا على حالتهما، ولم تنته الحرب، جاءا سياحة حربيّة وغادرا الحدود. لاحظت أنّ ضبّاطاً كُثُراً لم يتوقّفوا عن تصوير أنفسهم وتوثيق كلّ ما مرّوا به. حاولنا تنبيههم أنّهم يخاطرون بأرواحهم، فالعدو يتابعهم ويراقبهم ويمَوضعهم وبإمكانه إصابتهم بدقّة. ولكن دون جدوى".

وكتب أيضاً تحت عنوان "قصّة الحرب عبر الهاتف"؛ كانت تعليمات واضحة للجنود تمنعهم من اصطحاب هواتفهم النقّالة مذ التوغّل البرّي لقطاع غزة؛ ولكن سرعان ما تبيّن أن أفراد الوحدات القياديّة سرعان ما عادوا بعد بضع ساعات ليعرضوا بكلّ فخر واعتزاز صورهم من ساحة الحرب على شاطئ البحر. وقف ضابط الوحدة بجانبي متمعّناً بالصور على الشاطئ وقهقه قائلاً: ألم يعلموهم بمنع اصطحاب الهواتف النقّالة".

وخلال تجوالي التقيت بصديق قديم، وفجأة أطلعني على ألبوم الصور في هاتفه. قال منفعلاً: "بإمكاني أن أروي حكاية الحرب عبر هاتفي"، وكشف أمام عيني صور وثّقت كلّ مجريات المعارك منذ البدايات.

في الحقيقة لم ينجح أياً كان بالانفصال عن هاتفه، الكلّ صوّر كل شيء، القادة الكبار والجنود الصغار، وعدم الانضباط سيّد الموقف. السؤال الذي تداول على ألسنة الجميع: "شو صوّرت اليوم"؟ وكشفت صور الهواتف أسراراً عسكريّة عبر مواقع التواصل الاجتماعي.

تناول ظاهرة الفاشيّة التي تغلغلت في المجتمع الإسرائيلي بكلّ روافده؛ فكتب "أريد أن أقتل عرباً". تطوّع الكثيرون بداية المعركة لأخذ دور فيها. التقيت أحدهم في الأسبوع الأول للتوغّل البريّ لقطاع غزة. وصلت الحدود تعباً، كلّي عرق وغبار، وودّعت الجنود الذين أقلّوني. "هجم" عليّ مواطن سمين، كبير العمر نسبياً، ودعاني للأكل، بل ألحّ عليّ للانضمام لهم. هو وعائلته (ابنة، ابن وبالغ آخر)، فتحوا سُفرَة بكلّ ما لذّ وطاب: مكابيس، خبز، سلطات والكثير الكثير من اللحوم. حقاً؟ كان لذيذاً.

توجّه إليّ ذاك الشخص الذي دعاني لتناول الطعام: "أيّها الضابط، خذني معك إلى الداخل". ابتسمت تعباً. ماذا يمكنني أن أجيب؟ وأضاف: "أريد أن أقتل عرباً، أكثر ما يُمكن". لم أجبه ولم أعقّب أبداً.

تناول الكاتب مدى كراهيّة وحِقد الجندي الإسرائيلي وساديّته ممّا يجعله يفرح ويتمتّع بعذاب الآخر وينتشي حين يشاهد الموت والدمار في الجانب الفلسطيني فكتب تحت عنوان "مدهش ما شاهدته، واو": في أحد الأيام جاءني ضابط في وِحدتي، أن مسئوله، وكان فرحاً جداً، وقال بانفعال "مدهش ما شاهدته، واو". استفسرت عن سبب فرحته فأجابني أنّه شاهد برفقة ضباط آخرين مشهد مصوّر لعمليّة ناجحة جداً ضد العدو. كان جذلاً، وأخيراً رأيت الابتسامة على محياه، فقد كان كئيباً وحزيناً جلّ الوقت. التقيته صبيحة اليوم التالي، وكان مكتئباً جداً. سألته "ماذا حدث؟". فأجابني "ما حدّثتك به بالأمس، المشهد المصوّر الذي شاهدناه، كان ضد قوّاتنا".

تناول الكاتب موقف رجال الدين وشرعنتهم لتلك الفاشية المستشرية وإعطائها مرجعيّة دينيّة توراتيّة فكتب تحت عنوان "أتبع أعدائي فأدركهم، ولا أعود حتى أفنيهم" [5]: لافتة تصوّر الوتيرة والتوقيت المطلوبين في الحرب. نبدأ بقوّة، ملاحقة، وكأنّه لم تكن ضربة افتتاحيّة قاتلة شلّتنا وجعلتنا بلا حراك في الملاجئ، في السيارات الدفاعيّة المدرّعة وفي المعسكرات. ومذّاك أخذنا زمام الأمور، نحن الملاحِقين بكلّ الأنفس، حتى نتمكّن من العدو. تأتي النهاية فقط عندما نُبيدهم ونُفنيهم. وحتّئذٍ لن نعود.

تناول الكاتب أخلاقيات المجنّد الإسرائيلي الذي فقد كل القيَم الانسانيّة والمشاعر تجاه الأديان الأخرى واستباحة رموزها فكتب حول "جنود يلعبون الشدّة على سجّادة الصلاة": تجمّع الجنود في غرفة مدرسيّة يلعبون الشدّة، في لحظة لا يوجد أيّة عمل يقومون به. قرّروا أن يلعبوا الشدّة على سجّادة مُعدّة للصلاة، "مسجد صغير"، أو تصوّر مسجد. مِفرش صلاة. يستعملونه فقط دون تمزيقه، كما فعل الجندي الناقم الذي مزّق المُصحف. لعبت المجموعة الشدّة، مجازاً، على ما يمثّل المكان الإسلامي المقدّس. بروحها الهزليّة العسكريّة محت ما يمثّل عالم العدو الروحي.

لجأ الكاتب إلى أسلوب السخرية السوداوية القاتلة؛ "سكين كوشير". احتفلوا بعيد ميلاد ضابط مع كعكة فاخرة. فتّشوا عن سكّين لتقطيعها، وصل أحد مقاتلي الوحدة القياديّة حاملا سكّين كوماندوز هائلة المنظر. طلب أحدهم استعمالها مشيراً إلى أن الكعكة "حلبيّة". أجابه المقاتل بكل جديّة أنّه بإمكانه استعمالها وقصّ الكعكة لأنها، لأسفه الشديد، ليست "لحميّة" بعد.

وكذلك الأمر حين كتب حول "عدّ الجثث"؛ في مرحلة ما من المعركة، وبشكل تدريجي، وجدنا أنفسنا نعدّ الجثث. بدأ تنافس مخفيّ بين الوِحدات؛ أيّتها قتلت أكثر من أفراد العدو. أهمّ مكاسب الحرب كان عدد الجثث الفلسطينية، وكان يُقاس يومياً. حاولنا أن نفحص الأمر في غرفة القيادة حول الأعداد التي صرّحت بها كلّ كتيبة "هل رأيتم بأم عينكم أم حسب جيش الطيران؟" كان معيار عدّ الجثث دليلاً على تقدّم القتال، عمليّة هدم البنى التحتيّة للعدو وتدميرها تأخذ وقتاً بينما تعداد قتلاه يمكن قياسه يومياً والإعلان عنه.

وكذلك الأمر بالنسبة للتقدّم السياسي وتحقيق أهداف الحرب المعلنة بدأ يتلاشى ولكن القضاء على مقاتلي العدو بالإمكان قياسه يومياً وبذلك يمكن الإشارة إلى مكاسب عينيّة ميدانية، فنجري الموازنة بين عدد قتلانا وقتلاهم، وفي غالبيّة الأيام كان عدد قتلاهم أكثر مما يؤدي إلى تجاهل الفشل في تحقيق الأهداف المعلنة.

ووصلت الأمور إلى ذروتها حين كتب تحت عنوان "فتِّش عنها في ال Spam"؛ تبيّن أنّ المعركة بدأت مع كميّات هائلة من الأسلحة والذخيرة على أنواعها، رغم الإمكانيات المحدودة.

في إحدى الأيام غضب أحد الضباط الكبار وصرخ في غرفة القيادة العليا: "أين الطائرات عن بُعد؟"، وهي تشكّل بطبيعة الحال قيمة مضافة لا تُقدّر بثمن؛ يمكن استعمالها للمراقبة من أعلى، وأحياناً لإطلاق القذائف والصواريخ. هذه التقنيّة تغني عن القتال الميداني وجهاً لوجه، وتشكّل ميزة تفوّقاً تكنولوجياً، وتبيّن أنّها نفذت. عقّب ضابط مرافق في غرفة القيادة: "فتِّش في الـ Spam".

يحطّم الكاتب الفكرة السائدة بأنّ غالبيّة الجنود تطوعوا للمشاركة في حرب الإبادة على غزّة من مشاعر وطنيّة بحته، فالكثيرون منهم وجدوا بها "مشروعا اقتصادياً"؛ حين شعر جنود الاحتياط أن الحرب ستستمر طويلاً، أصبحت مصدر رزق من حيث إمكانيات التشغيل. وجنود كُثر طلبوا تمديد فترة الخدمة في الاحتياط، غالبيّتهم من دوافع اقتصادية وآخرون بسبب رغبتهم بقتال العدو، وهناك الكثير ممّن نشروا إعلانات يبحثوا فيها عن وحدة عسكريّة لتجندّهم كاحتياط ليرتزقوا بسبب الركود الاقتصادي الذي ساد البلاد، وآخرون صرّحوا بأنّ ابنه، ابن السادسة عشرة، سأله: لماذا أنت بالبيت؟ هل انتصرتم؟ ماذا يجيبه؟

حاول الإسرائيلي إنكار وجود الآخر ولكن هذه الحرب قلبت الموازين وجعلته ينظر مجدّداً في المرآة ليعترف بوجوده بنديّة مطلقة فيقول "من يحرقك، يعترف بك": التقيت بضابط ميداني، إحدى المهام التي ألقيت على وِحدته تدمير البنى التحتيّة للعدو، لم تكن الوسيلة تفجيرات عينيّة، بل بالحرق، ليس بالإمكان السيطرة عليها فتحرق الأخضر واليابس. لم تكن الحرائق لتحقق أهدافاً معيّنة ومحدّدة وحسب، بل كانت أحياناً لإبادة ومحو ممتلكات العدو. كان بعضها مجرّد انتقام وبعضها هدم إمكانية ترميم المنطقة لاحقاً، رغم أنها لم تكن من أهداف الحرب المعلنة. إشعال النار والحرائق تعطي المقاتل الشعور والإحساس بالسيطرة ميدانياً على زمام الأمور. لا غير.

وجاءت أكثر حديّة ووضوحاً تحت عنوان "عدوّنا عربي"؛ قبل السابع من أكتوبر نظرنا إلى العدو من فوق، من خلال جمع المعلومات بواسطة الطائرات المسيّرة وغيرها من الوسائل التقنيّة، أو أن نخفيه عبر جدار فاصل. لم ننظر إليه مباشرة، بل تكنولوجياً، أو ما يطلق عليه يرد-يُطلق. إذا اضطررنا أن نشاهده، عملناها بواسطة المراقِبات، واهتممنا ألّا نسمع صوتهن. أجبرتنا حماس أن ننظر إليها كما هو ومغنطتنا إلى أعماقها، على الأرض وفي جوف الأرض وأعماقها. ذُبنا وانصهرنا الواحد في الآخر.

أجبرتنا حماس على النظر إليها وعدم تجاهلها ونكرانها. أجبرنا على التبصّر بها وأدخلتنا متاهة وبتنا لا نعرف من هو هو. هل المواطن الذي يمر في الشارع هو مخطوف أو مخرّب؟ هل الجثّة "طيّبة" أو "سيّئة"؟ جعلتنا لا نعرف شيئاً. كيف نجيب على السؤال من نحن؟ أجبرتنا حماس على أن نواجه السؤال ما هو إنسانيّ، أو الهروب منها.

تناول الكاتب تأجيج الحقد والكراهية عند الجنود، كما هو الأمر في الشارع الصهيوني والحيّز العام، فبتنا نشاهد على السيارات وفي الشوارع وعلو بنايات المؤسسات، وحتى على شعارات المؤسسات العامة والمصالح الخاصّة شعار "معاً سننتصر" فكتب تحت عنوان "شعب الخلود سينتصر": عُلّقت لافتة تحمل شعار "شعب الخلود سينتصر" في كلّ مكان يمكن تعليق شيء عليه. كُتبت عليها كلّ حروب إسرائيل منذ القدم، بدءًا بسيّدنا ابراهيم. من الجدير بالذكر أنّه لم تُذكر فيه الحروب والمعارك مع الفلسطينيين. المقصود بذلك "الدرع الواقي"، "الرصاص المصبوب/ الفرقان"، "العصف المأكول/ البنيان المرصوص/ الجرف الصامد" جاء ذكرهم مرّة واحدة فقط في سياق حرب 1982: "هزيمة العدو السوري والفلسطيني". لماذا تم تجاهلهم؟ هل يتعلق الأمر بأنهم غير موجودين إطلاقاً، لا نراهم ولا نعترف بوجودهم؟

وأخيراً؛ كانت قراءتي للكتاب موجعة؛ شدّتني جرأته وسخريته السوداويّة الجارحة، وعناوينه الفرعيّة الفتّاكة، وحبّذا لو يُترجم الكتاب للعربيّة، لعلّ وعسى يقرأه صُنّاع قرارنا ويعتبرون لتكون بداية الطريق للخلاص من الاحتلال المقيت.
أعادني الكتاب مرّة أخرى لجان بول سارتر وكتابه "عارُنا في الجزائر" وكأني به يصرخ صرخته: هل هذه هي الطريق؟ لا يوجد من يحمي شرفهم، لا أحد يرفض أن يتحمل جزءاً من سراب طائرات الموت؟ ليس هناك واحد فقط!
الهوامش:

[1] ورد "السيف يأكل هذا وذاك" في التوراة، في سفر النبي صموئيل الثاني، الفصل 11 الآية 25؛ فقال داود للملاك: هكذا تقول ليوآب: لا يسوء في عينيك هذا الأمر، لأن السيف يأكل هذا وذاك. شّدِّد قتالك على المدينة وأخربها".
[2] الأنثروبولوجيا (Anthropology) علم الإنسان: علم مختص بدراسة الإنسان، طبيعيًّا واجتماعيًّا وحضاريًّا.
[3] ضابط احتياط إسرائيلي كبير شارك في معركة طوفان الأقصى.
[4] صدر حديثاً بالعبرية عن دار "عِبريت"، في 238 صفحة.
[5] سفر المزامير (38:18)


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى