الشاعرة لبنى ياسين وبوح الياسمين
أن تدخل عالم الأديبة لبنى ياسين بتعدده، وألوانه، وامتداداته، وغناه، من قصة قصيرة، وقصة قصيرة جدا، إلى رواية، فمقالة ساخرة، وخاطرة، ودراسة أدبية، فأنت ترى إلى جوانب غاية في الجمال والتميز والقدرة على إصابة الهدف أو الوصول إليه بشكل مباشر..
وإذا كان هذا معروف عند قراء الأديبة لبنى ياسين في الوطن العربي كله، كونها قدمت الكثير من كتاباتها تلك إن في الصحف والمجلات والمواقع الالكترونية، وإن في كتبها العديدة المنتشرة على خارطة الوطن العربي.. فإن الجديد الذي لم تنشره بشكل واسع، وكان لي حظ الاطلاع عليه بشكل كامل، هو الشعر، فالشعر عند الشاعرة لبنى ياسين قصائد مشغولة بروعة الإحساس وجمال التصوير وقوة التعبير بشكل كان وما زال يدعوني للتساؤل - وهو سؤال كثيرا ما وجهته لأديبتنا وشاعرتنا لبنى ياسين - لماذا أصرت الشاعرة لبنى ياسين على إبقاء هذه القصائد بعيدة عن النشر في ديوان، ولماذا لم تنشر قصائدها بشكل واسع على الانترنت وهي الأديبة التي عرفت في كل مكان، ومن حق قرائها أن يعرفوا هذا الجانب بكل ما يحمل من تميز وجمال ورقة وعذوبة وعلو، حتى لتكاد قصيدة النثر عند لبنى ياسين تشكل ملمحا هاما يعطي هذا النوع من الشعر دفعا يضيف إليه ويغنيه.. ؟؟.. وبرأيي فإن كل جديد مغاير يضيف ويعطي ويغني..
وإن كنتُ هنا أقدم شاعرتنا الأديبة لبنى ياسين من خلال شعرها تحديدا، متجاوزا حرصها على إبقاء هذا الشعر بعيدا عن النشر بشكل واسع، فإنني أجد العذر لنفسي والعذر من شاعرتنا، بأنّ الأدب الجميل يجب ألا يبقى طيّ الكتمان.. فعذرا يا شاعرتنا إن كتبت، وعذرا إن نشرتُ، فهذا الأديب والشاعر الصحفيّ الباحث عن كل ما هو جميل في أدبنا وشعرنا أصرّ على أن أكتب، ولأنني أطيعه وأصغي إليه، كتبت.. وسأتحمل بصدر رحب عتب الزميلة والصديقة الشاعرة لبنى ياسين، لأن ذنبي إيجابيّ كوني أوصل للقارئ شهد الكلام وهو من حقه.. فمن أين أبدأ ؟؟..
تقول الشاعرة لبنى ياسين في قصيدة " عزاء ":
يدعوني لأقدم العزاءفي موتهامسكين لا يعلمأنني تلك الميتةوأن الجنازة..جنازتي "..
قليلة هي المفردات، قليلة هي الصور، لكن هذا الاتساع في المعنى والاتساع في الاحتمال والانفتاح على عوالم متعددة شيء لا يضاهى.. قد تكون أول فاصلة في قصيدة النثر الاختصار وبناء الدهشة.. وهنا تستطيع لبنى ياسين أن تتقدم بنموذج يحتذى.. أعترف أنّ النهاية فاجأتني وأنني وقفت أمامها مشدودا قابضا على جمرة قد تكون من الياسمين لا النار.. وحتى لا أذهب بعيدا في استحضار وتفصيل هذه البنية المدهشة أورد مقطعا من قصيدة " وطن " تقول فيه:
فلنهشم المراياولنصنعْ من شظاياهاتابوتاً للشمسما فائدة المراياإذا كنا لا نرتدي وجوهَنا أبداً؟؟.. "..
إن الشاعرة لبنى ياسين تملك مرآة القصيدة السحرية لتعطيها قمرا من حنان ودفء واقتراب من جمالية خاصة.. العبارة عند لبنى نابعة من الذات باشتراط المشاركة والتآلف مع المتلقي.. وكثيرة هي الوقفات التي تنطلق من الدائرة الصغيرة لتوزع امتدادها في كل مكان.. لنسمع قصيدة " صوتك " ونرى إلى هذا الانتقال تقول:
صوتك يتسلق هضاب الهوىيرسم صدى خطاه بأقدام من ناريمحو دروب مهدتها يد الضياعيكتب كلمات حنينه على جبين الشمسيلقي شوقه في أذن الوجديعتلي موجة جنون صاخبةترتفع به عاليا حتى يضيق به الأفقيسيل في دميينحت من تفاصيلي صنما للوقتيعلقني على جدار الغد بإطار من قمرصوتكليس سوى صوتكمن منحني تعويذة لفرح قادم.."..
أليست هي الشاعرة التي تخبئ الدهشة لتعطينا كما من الجمال لا يحد.. في تواصل مع كل هذا تستوقفني قصيدة " غيمة " مشدودا إلى وتر الشعر، حيث تقول فيها:
تتسابقُ خيولُ فرحيفوقَ امتدادِ عشبِ كفيكتهربُ بي بعيدا عن مدائنِ الخوفتطيرُ بي على أجنحةِ حلمتمزقُ صمتيوتصهلُ في دميأنا الظلُ المختبئُ منذُ عصورخلفَ قبورٍ ضاعتْ عنها شواهدُهاوأنتَ مصيرُ الشوقِ القادمفي هيئةِ غيمةحبلى بمطرٍ دافئ "..
فالشاعرة لبنى ياسين تستفيد هنا من القصة، تستفيد من السرد، تستفيد من التفاصيل، وتنحو نحو أسطرة جو القصيدة.. كل شيء عندها موظف بشكل رائع ليصل إلى هذا السبك المتماسك القوي.. ولك أن تنظر إلى هذا الوصول الجميل في تركيبه وصياغته وصورته فأنت " مصير الشوق في هيئة غيمة حبلى بمطر دافئ " كأنما الحكاية بطول بحر وموجه.. كأنما الصخور تتلقى رعشة الزبد الحالم وهو يفرد شيئا من ضفائره على سطحها الأملس..
هل ترسم لبنى ياسين صورة الرجل بشكل مغاير ؟؟.. هل تريد أن تخاطب الآخر بصوت الأنثى الشاعرة التي لا ترضى لكلماتها ومفرداتها إلا أن تكون صافية مثل مرآة ؟؟.. لنستمع إلى لبنى ياسين تقول في " سفر ":
سأقطع المسافاتبين عينيك وقلبيعلى متن كلمةلا يوقفها حراس الحدود.."..وتقول في " حلم ":كل الكلمات تنبضُ يا وعديتبدو جوفاء في حضرة أصابعكسيكون عليك أن تعيد تشكيل الوقتأن تشعل ثلج الغوايات في منبت الحرفلكي أستطيع أن أنسج لكسجادة أخرى للحلم.."وفي " أقفال ":كيف لمفتاح واحدأن يفتح قفلين عصيينقلبي وقلبك "..
الخطاب بكل جوانبه يبني صورة مشعة مضيئة ممتدة.. وهو لا يقارب بأي شكل مباشرة مجانية تقضي على قصيدة النثر في كثير من الأحيان.. والأهم أن خطابها للآخر يعطي دفءا لا حد له دون أي إسفاف أو مداورة في العبارة.. وأجمل ما عند لبنى ياسين، في هذا الشعر كله، صورها المبتكرة دائما وإعطاؤنا كما لا يحد من الإدهاش.. وإن نحن نظرنا لكل قصيدة مما سبق نجد أنّ الاختصار سيد الموقف في كثير من الأحيان.. وهو اختصار ذو دلالة ، موظف مشغول بتقنية عالية.. إذ لا داعي لتوسيع العبارة في مكان لا تستحق فيه التوسيع، ولا حاجة لحبس المطر المدرار حيت تكون الأرض بحاجة لهذا المطر.. وباعتقادي أن الشاعرة لبنى ياسين تجيد القبض على برهة الحلم والدهشة والبرق الخاطف بشكل رائع.. تقول في قصيدة " شروق ":
حيث يشرق وجهكتختبئ الأرض من ظلهاوتلملم الغيوم ثيابها المبللةعن ضفة الشوقوتبعثرني أمطارك الدافئةفتنحني النجوم لتلتقط أنفاسيعن أمواج البحر "..
لنلاحظ هذا الانسياب الغريب الجميل في مدّ المفردة نحو مقصدها.. وأيضا هذا الاتجاه الساحر نحو صورة لا يمكن أن تكون عادية مستهلكة.. فلبنى تستفيد من فن التصوير لتلتقط صورا طازجة ساخنة غير ملتقطة بهذا الشكل من قبل.. لذلك تجد أنّ الشعر يعطيها كل فتنته ما دامت تعطيه كل فتنتها.. حالة التبادل هذه تخلق دائما جوا من الألفة بين الشعر وشاعرته، لتصل القصيدة إلى القارئ بهية جميلة فاتنة.. تقول في " حقيبة ":
لماذا على الليل دائماأن يحمل بين متاعهحقيبة للحزن العابرنجدها دائما في جعبة القلبحتى دون أن نبحث عنها.."
قصيدة لبنى ياسين ذات اتجاهات وسمات عدة، وذات بنية خاصة تقنعك بجمالية قصيدة النثر.. وهي إلى جانب كل ذلك شاعرة تعرف كيف تجعل القصيدة قريبة من شبابيك السحر والسطوع الدائم.. ولي أن أختم هنا بعدة قصائد للشاعرة لبنى ياسين راجيا أن يجد القارئ فيها ما وجدته من متعة لا تضاهى:
خطيئةلست أنا من قدم أغنياته أضحية للوجعفأراق دم الفرحولست أنا من أوثق الأحلاموالعصافيرلكننيكلما بحثت عنيوجدتني ضائعةفي متاهات الخوفأتلمس طريقا نحو التلاشيلا تمحوني هفوة ناي مصلوبفي أروقة حلمولا تمسكني نزوة الرمل الموغل في الحزنفأي خطيئة تلك التي لم أتطهر منها؟!في القاعلآلاف العصافير الواهمةالتي تطير كل يومتفتح أجنحتها للشمستنتظرها طلقة صياد ماهرتهوي بها إلى قاع الأرضهي التي كانت تحلق في سماء الفرحلماذا علينا أن نطيروالقاع قدر لأحلامناهزيمة أخرىلعنة هو الفرح عندما يأتي متأخراحاملا على كفيه وهج النهاياتوعلى شفتيهشبح ابتسامة تعلن هزيمتيانشطارتعبرني موجة حلم دافئتشطرني نصفينأحدهما يشبهنيالأول يغني للسرابويشعل الشمس من جديدوالآخريمسك الأرض بكف من حديدحنيني إليكهل يبرر احتضاري موت عينيك؟هل يعلل اختناقي غيابك الأزلي؟كيف للأشياء أن تضحكوأنت بعيدليس بوسع المسافاتأن تطوي حنيني إليكخواءألقيت في حضن عينيك أوجاع قلبيورأيت ظلي يعانق خيالكومشيت في ذات الخطىالتي كنت أظنها مرسومةعلى خرائط قلبكفما وصلت إلا للخواءفراقبأي اسم أناديك أيها الراحلبأي دمعة أبكيكوأي قلب يمكنه أن يحتمل رحيلكأنت الذي حلفت أنك ستكون دائما هناكمن أجليهل رحلت حقاً؟؟وحدةليس مجديا كل الحزن الذي يعتنقنيلكن الفرح ينظر إليّ من بعيدينفض أجنحته الملونةويرفرف حيث السماءويتركني على الأرض وحيدةنبضأكتبك بشريانيعلى سقف فرح لن يأتي أبداولا أحد يقرؤك غيريما بين الكلمة والكلمةلن تنتبه إلى وجع الدمعةالمسجاة سطرا مقتولا بكولا إلى نبض القلب الغافيعلى حضن ذكرىأرقسأكتب عينيك على حدائق الليلكلئلا تضيع مني ابتسامة القمروأزرع أشواقي في حضن الخوفلئلا تمر عليّ لحظة لا أشتاقك فيهاسأنسج ملامحك على جفونيبأصابعي التي ذبلتلئلا تغيب عن أرقي ليلة حزنسرّكسينبت حبك بين كفيّ عشبا أخضرفلا تقلق على ابتسامة الشمسلها أن تمنح ما شاءت للعاشقينولي أن أحتفظ بسركبيني وبين كفيلوحةأي غربة أمارس طقوسهاوحديفيما تتسلى أنت برسمكفنيبردلا تغرب عنيفغروب الشمس يكفينيكثير على مزاج الأرضأن تغربا معاًما الذي يدفئنا.. بعدهاأنا والأرضأجنحةللحزن أجنحة تطارد ليليتهديني أرق المسافاتواحتضار الأزمنةوللفرح جناح مكسوريقعده فلا يصل أبداًإلى حافة الروحملامحأي صباح هذا الذيتشرق فيه ملامحكعوضاً عن الشمس؟أي مساء هذا الذييبدأ بابتسامتك؟حكايةفي قلبي الكثير من الحكاياتلكنه لا يقرأ إلا حكاية واحدةحكايتك أنت "..
لبنى ياسين شاعرة تتقن إعطاء الشعر حقه من العلو ليبدو كما أرادت له بكل بهائه، كما هي في قصصها وكل كتاباتها.. وبالتأكيد فإن الشعر الغنيّ بما يحمل، بكل هذا الألق والدفء والتميز، جدير بأن يقرأ ويصل إلى كل القلوب بتلقائية.. لبنى ياسين تعطي الشعر كل ما في القلب والروح والذات من دفء، فيكون للشعر كل هذا الجمال والروعة..