الخميس ٩ حزيران (يونيو) ٢٠١١
بقلم طلعت سقيرق

زهرة حب لنهار جديد...

البحر يمتد بزرقة لانهاية لها..... الشمس تسعى نحو الغروب... ... الناس يتجولون هنا وهناك جماعات وفرادى... . نفض ما علق على جسمه من ماء بحركات متتابعة... نسمات لطيفة لامست خلايا جسده، فشعر بقشعريرة... . رمقه أحد الأطفال بنظرة صافية متأملة، فابتسم له... . الشاطئ المسكون بالحركة والسحر والجمال، يمتد... الوجوه هادئة كأنها ذاهبة في عالم من حلم .‏

توقف قليلاً... مسح شعره بيد مرتعشة.. تابع خطواته... الرمل الناعم يلتصق بقدميه ثم ينزلق تاركاً بقية لا تريد أن تغادر.. شعر في لحظة ما أنه يسقط عن كتفيه تعب سنين طويلة.. عندها تمنى أن يعيش ماتبقى له من عمر إلى جانب هذا الأزرق الساحر... كان يعرف أن البحر رائع بكل ما فيه... .‏

اقترب من الكرسي.. نفض عنه بعض الرمال بحركة آلية ساهمة.... جلس بهدوء... غرز قدميه في الرمل الرطب... . أغمض عينيه... جاءه صوت الموج مثل موسيقى تثير الأحلام وتحرك مراكب الحنين والشوق... بين تناوب المد والجزر، بحركات بطيئة هادئة، كانت قصيدة الوجود الساحر تحفر ظلالها في كل كرية من كرياته... أذناه تسكنان النغم، تأخذانه، تذهبان معه... أحس أنهما معلقتان على طرف موجة تفرد جناحيها وتطير كعصفور في الفضاء الرحب الواسع.. انبعثت في داخله صرخة مأخوذ " يا ألله كم أنت رائع أيها الكون "... ثم قال بصوت دافئ:‏
 ليتها أتت معي... الوجود أجمل من أن نشوهه بأشيائنا الصغيرة... !!‏

كان صوت الموج يسكنه تماماً.. العالم من حوله استرخى.. قفز وجهها الجميل إلى مخيلته، وأخذ يرسم صور الأيام الماضية... انبعث صوت الداخل: " الحياة تستحق أن نعيشها... كل شي فيها جميل " نام على ذراع موجة وأخذ يحلم بأشياء جميلة .‏

من غرفة إلى غرفة أخذت تنتقل... خطواتها هامسة... تداعبُ الأشياء وتحدثها في بعض الأحيان... ما أن تجلس، حتى تتذكر شيئاً ما كانت قد نسيت أن تفعله.. تذهب إلى غرفة أخرى... تضع الوسادة على السرير... . ترتب الأغطية.. تذهب إلى المطبخ، تأخذ في تلميع الصحون بخرقة بيضاء جافة... ودون أن تهدأ تذهب إلى الشرفة، تسقي النباتات واحدة، واحدة... تدور وتدور.. يداهم الألم ظهرها، فتقف جامدة وترفع يديها إلى الأعلى وتنزلهما عدة مرات... .‏

هناك في الغرفة التي أحبتها دائماً، تجلس على الكرسي، تمد قدميها على البلاط النظيف... تقع عيناها على جهاز الهاتف.. تتمنى أن ينبعث الرنين.. تتخيل حديثه العذب.. تندفع في أذنيها موسيقى الحروف وهي تخرج من فمه.. تقول بهمس:‏

 ليته بقي هنا... لماذا ذهب ؟؟؟‏

كانت تتمنى أن يتصل من هناك.. أن يقول أي شيء... اقترب وجهه من مساحة نبضها... شعرت بأن آلاف الأوتار تعزف لحنها المحبب.. في فسحة الحلم تحولت إلى عصفور أخذ يحلق في الفضاء الرحب.. ارتسمت على شفتيها ابتسامة لا حدود لها. وحلّقت في فرح...‏

في الإناء الزجاجي الصغير، كانت السمكة تدور باحثة عن مخرج... كان الطفل مأخوذاً بحركاتها وألوانها الغريبة إلى حد ما... قال:‏

 اصطدتها من البحر ياعم.. الحقيقة أبي اصطادها لي...‏

نظر في عيني الطفل البريئتين وقال:‏

 لكنها صغيرة يا بني... ماذا ستفعل بها ؟‏

أجاب الطفل:‏

 سآخذها إلى البيت عندما نعود.. ربما سيصطاد أبي واحدة أخرى...‏

 لا تحرمها من البحر يابني.. أعدها ..‏

قبل أن يكمل ابتعد الولد فرحاً بسمكته.. ارتسمت الضحكة على شفتيه، ثم رفرفت في الفضاء القريب.. عندما كان صغيراً، ربما بعمر هذا الولد، كان يصطاد الأسماك بشبكة معدنية صغيرة.. يحدق في حركاتها قليلاً... ثم يعيدها إلى البحر.. يتذكر كيف كان والده يضحك ويهز رأسه باستغراب ربما !! أمه كانت تقول:" هذا الولد مليء بالحنان... لا يحب أن يعذب أي مخلوق".‏
ذهبت عيناه في البعيد.. قفزت الصورة إلى ذهنه صافية لامعة.. كانت زوجته هدى إلى جانبه... معاً أخذا يستمتعان بجمال البحر وسحره.. ذات مرة، أمسكا شبكة معدنية صغيرة، أنزلاها بهدوء، رفعاها، خمس سمكات أخذت ترف.. أعادها بحركة آلية إلى البحر.. ضحكت هدى... قالت:‏

 لماذا اصطدتها مادمت ستعيدها إلى البحر؟؟‏

قال: - سبحان الله ما أجملها.. لكن من الصعب أن نحرمها من بحرها...‏

أخذ يحكي لها عن طفولته.. عن عشقه للبحر.. عن حبه للحرية... قال:‏

أتدرين ياهدى لاشيء مثل البحر يعبّر عن الحرية.. البحر هو الحرية.." عندما عادا في القطار.. أخذت تحدثه عن طفولتها.. قالت:‏

أتدري لم أعرف البحر من قبل.. عندما ذهبت معك أول مرة كنت في غاية الخوف.. أتذكر؟؟‏
أرسل ضحكة صافية.. رنت ضحكته مثل شلال.. التفت بعض الركاب، نظروا إليه، وانتقلت إليهم صورة الابتسامة...‏

عاد الطفل فرحاً بعد أن اصطاد أبوه سمكة أخرى... السمكتان تدوران في الإناء الضيق.. نظر إليهما وشعر بالحزن.. ابتعد الطفل.. بقيت دوائر الحزن معلقة في عينيه.. أخذ ينقل خطواته على الشاطئ الفسيح.. اقترب من الماء المالح.. ألقى جسده وأخذ يسبح.. استلقى على ظهره... . أغمض عينيه.. ترك جسده لحركة المد والجزر... كان البحر أمَّاً لا تعرف إلا الحنان... أخذت المسافات تتراقص بهدوء وجمال..‏

زوجته هدى إنسانة رائعة.. تذكرها بعمق... قال:‏

 لماذا أصرت أن تبقى وحيدة في البيت ؟؟‏

ما أن يغضب الإنسان حتى تتطور الأمور.. هز رأسه بأسف... شعر أنه يسرق أشياء كثيرة من حياتها بابتعاده عنها.. فتح عينيه.. وقف على قدميه.. وأخذ يمشي بهدوء نحو الشاطئ...‏

الجارة أم ربيع قالت:‏

 الله يعيده لك بالسلامة ..‏

أخذت تحكي عن حب الجيران له..... هزت هدى رأسها موافقة... كانت تعرف مدى حب الناس لزوجها عبد العزيز..." ولماذا لا يحبه الجميع "؟؟ رجل بكل معنى الكلمة... مسكون بالحب... يساعد الجميع.. ابتسامته لا تعرف الانطفاء.. تركتها أم ربيع لشرودها وذهبت... في العام الأول من زواجهما، وبعد مرور عدة أشهر كانت الصدمة، قالت الطبيبة يومها:‏

 التحليلات تثبت أنك غير قادرة على الحمل ياسيدة هدى....‏

لاتدري كيف استطاعت أن تبتلع الصدمة... عندما وصلت إلى البيت، وقفت أمامه حائرة ضائعة، تائهة.. بارتعاش قالت:‏

 اسمع يا عبد العزيز... بإمكانك أن تتزوج من أخرى... لن أحرمك من الأولاد.. أعرف كم تحب الأطفال...‏

بعدها أخذت تحكي عن أشياء كثيرة... من خلال دموعها تفجر حزن العالم كله...‏
وضع يده بحنان على كتفها وقال:‏

 اسمعي يا هدى... كل شيء بيد الله.. أنت عندي أهم من الأولاد.. لا تقلقي...‏

رجته أن يتزوج... كانت تتمزق.. ترجوه وتنزف ألماً وانكساراً... أرادت أن يكون سعيداً في حياته.. لكنه بإصرار أبى، كان حبه لها أكبر من كل شيء..... ضمها إلى صدره......‏

مسح دموعها بقلبه وضلوعه.. ومضت السنوات.. السنوات الطويلة.. دون أن يشعرها في يوم من الأيام بأنه حزين.. أحياناً كثيرة كانت تشعر أنها ظلمته.. لكن ماذا كان عليها أن تفعل؟؟ هو لا يريد سواها... وهي في داخلها سعيدة بقراره هذا.. مرة قالت له:‏

 لماذا لانتبنى ولدا‍ً يا عبد العزيز ؟؟‏

قال:‏

 لا يا هدى ..تعودت على الحياة هكذا.. اطمئني...‏

وقتها، ورغم سعادتها، شعرت بغصة في القلب... لكنها آثرت الصمت... .‏

في بعض الأحيان كان يثور.. لابد من حدوث بعض المنغصات... كلمات.. عتاب... يتطور الأمر ويكبر.. ثم تعود المياه إلى مجاريها صافية هادئة.. لكنها المرة الأولى التي يتطور فيها الأمر إلى هذا الحد.. فجأة، وبعد ثورة من ثوراته، قرر أن يذهب إلى البحر... قال" بإمكانك أن تأتي" لكنه كان يريد أن يذهب وحيداً.. قرأت كل شيء في عينيه الثائرتين.. ما تعودت أن تبقى هكذا وحيدة.. كانت تشعر أنه الهواء الذي تتنفسه.. فكيف مضى هكذا... وتركها..... ملأت الدموع عينيها، وأخذت تبكي بحرقة .‏

شعر أنها تناديه.. سمع صوتها رغم طول المسافات.. لا أحد يستطيع أن يصدق أنه سمع صوتها.. لكن كثيرين من الأهل والأقارب آمنوا أنهما يستطيعان التخاطر عن بعد.. سنوات طويلة من الحب والتفاهم والقرب، جعلتهما متوافقين إلى حد غريب.. انبعث صوتها حاداً وكأنها تطلب النجدة.. بقلق وضع ملابسه في الحقيبة .‏

أخذت ترتب البيت.. عرفت أنه سيعود.. نظفت للمرة العاشرة الكرسي الذي تعود الجلوس عليه... مسحت الكتب.. صفّتها بالطريقة التي تعجبه... جهزت الطعام الذي يحب... وقفت أمام المرآة وأخذت تمشط شعرها، وتحاول أن تخفي الشعرات البيضاء.. ارتدت أجمل ملابسها.. وضعت في المزهرية عدة وردات.. جلست على الكرسي الذي تحبه.. كانت تشتعل بأروع انتظار...‏

صعد أول درجة.. تركتْ الكرسي.. الثانية.. خطتْ خطوتين... الثالثة.. الرابعة.. الخامسة.. السادسة.. كان باب البيت أمامها.. أخرج المفتاح من جيب بنطاله... وضعت يدها على مقبض الباب... وضع المفتاح.. أداره... أدارته.. انفتح الباب.. وارتسمت على الوجهين ابتسامتان بحجم العالم... عندها كانت الزهور التي في المزهرية، وتلك التي في الشرفة، ترسل عطرها وتحاول بكل ما لديها من فرح، أن تضحك لنهار جديد... .....‏


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى