رحيل عندليب فلسطين الشاعر يوسف الخطيب
رحل يوم الخميس 16/6/2011 في دمشق عن ثمانين عاما عندليب فلسطين الشاعر الكبير يوسف الخطيب، صاحب العطاء الثرّ، والمجدد الأكثر إصرارا على إعطاء الشعر قوة لا تفتر ولا تذوي.. قال لي ذات لقاء معه، وما أكثر اللقاءات الرائعة مع شاعرنا الكبير يوسف الخطيب، الصديق والمعلم والشادي «أنا مواطن عربي فلسطيني، رأيت نور الحياة أول مرة في دورا الخليل يوم السادس من آذار عام 1931، وأستطيع أن أتذكر الآن جيداً أن طفولتي المبكرة كانت مفعمة بالحيوية و الإثارة، وأنني ذقت حلو الحياة ومرها في جرعة واحدة.. كان أول ما وعيته من شؤون الدنيا هو استيقاظي اليومي مع آذان الفجر على صوت والدتي وهي تصلي وتقرأ القرآن بصوتها العذب الحنون، وكذلك على أصوات الجنود الانكليز وهم يقتحمون بيتنا بأعقاب بنادقهم وبساطيرهم بحثاً عن والدي لتعاونه مع الثوار، لكن والدي كان قد التجأ إلى سورية للإقامة مؤقتاً بين أبناء عمومته في كسوة دمشق..ثم في سن السابعة تقريباً بدأت أعتقد بقوة بأنني لابد أن أكون شاعراً في مقبل الأيام، حيث ساعدتني على مثل ذلك الاعتقاد عدة عوامل ذاتية، ومؤثرات خارجية، على حد سواء.. فمن العوامل الذاتية استعدادي الفطري لإنشاد القصائد والأغاني المدرسية الابتدائية بشغف عظيم، ثم محاولة تقليدها والنسج على منوالها بكلمات وأصوات شبه موزونة ولكنها بدون أي معنى على الإطلاق..»
.. فميلاد الشاعر الكبير كان كما ذكر في السادس من آذار عام 1931 في دورا الخليل.. أنهى دراسته الثانوية في الخليل، ثم تابع تحصيله الدراسي في جامعة دمشق- كلية الحقوق- وتخرج فيها عام 1955. عمل في مناصب مختلفة في إذاعات: دمشق، فلسطين، الرياض، صوت العرب، القاهرة، الكويت، بغداد، إذاعة هولندا العربية. وشغل منصب المدير العام لهيئة الإذاعة والتلفزيون في سورية عام 1965، وانتخب نائباً للأمين العام لاتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين. أسس عام 1965 دار فلسطين للثقافة والإعلام والفنون. عضو المجلس الوطني الفلسطيني. عضو جمعية الشعر. من مؤلفاته: -العيون الظلماء للنور- شعر- دمشق 1955. -عائدون- شعر- بيروت 1958. -واحة الجحيم- شعر- بيروت 1964. -عناصر هدامة- قصص- بيروت 1964. -ديوان الوطن المحتل- دراسة ومختارات- دمشق 1965. -مجنون فلسطين- شعر- دمشق 1983.- رأيت الله في غزة – 1988...- بالشام أهلي والهوى بغداد –دمشق /1988..وقد صدرت أعماله كاملة في ثلاثة مجلدات قبل رحيله بوقت قصير..
يعد ديوان «مجنون فلسطين» لشاعرنا الكبير يوسف الخطيب وهو ديوان سمعي مسجل على أشرطة كاسيت تجربة غير مسبوقة في ميدان الشعر العربي، وحين سألت شاعرنا الحبيب الغالي عن ذلك قال:" كان هاجسي الكبير طيلة مسيرتي الشعرية المتواضعة، هو أن أحاول التجديد إلى أبعد الحدود، ولكن، على قاعدة التأصيل إلى أعمق الجذور.. ومن هنا فإن تجربتي التأسيسية في ديوان ((مجنون فلسطين ))السمعي، بقدر ما تمثل، من أحد وجهيها، انفصالاً شبه كامل عن جميع الطرائق التقليدية في نشر الشعر وإيصاله إلى جمهرة المتلقين، بقدر ما تمثل، من وجهها الآخر، اتصالاً كاملاً أيضاً بتلك الخاصة التراثية الفريدة للشعر العربي، من جهة حضور الشاعر المباشر بين يدي جمهوره، كما كان عليه الحال في المربد وعكاظ، أو على الأقل من جهة حضوره الذاتي هذا بين أفراد قبيلته، أو ترحاله عبر الآفاق البعيدة بسبيل أن ينشد ما قد أبدعته قريحته أمام الأفراد والجماعات على حد سواء.. وهكذا ظل حال الشعر العربي لمئات الأعوام اللاحقة أقرب إلى طبيعة النفس العربية ((مسموعاً )) أكثر منه ((مقروءاً)) حتى لكأن شاعرنا القديم قد أراد أن يشير إلى هذه الخاصة ذاتها بقوله:ـ ((والأذن تعشق قبل العين أحياناً )).. ولذلك أيضاً انتشر الشعر العربي ((بالرواية )) أكثر مما انتشر ((بالتدوين )) حتى في أوج ازدهار الحضارة العربية في أوائل العصر العباسي، وشيوع القراءة والكتابة في جمهرة واسعة من الناس، وظهور ألوف المصنفات النثرية في اللغة، والفقه، والفلسفة، والعلوم، فرغم كل ذلك كان لرواة الشعر ـ ولنقل الحمادين الثلاثة مثلاً ـ حضورهم القوي والمؤثر.. ولست أدري تماماً ما الذي كان عليه الحال في أشعار الأمم الأخرى، إلا أنني لم أصادف مطلقاً أنه كان لكل شاعر أجنبي ((راويته )) المختص بإيصال قصائده للآخرين، كما هو واقع الحال في شعرنا العربي، وحتى يومنا الراهن إلى حد كبير.."..
رحم الله شاعرنا الكبير يوسف الخطيب.. رحم الله شاعرا أعطى الشعر الكثير من الأناقة والجمال والرفعة والعلو.. كان شاعرا حقيقيا يصعب أن تجد مثيلا له في ابتعاده واقترابه.. في تواضعه وشموخه.. في معرفته الأصيلة العميقة للشعر.. في صداقته النادرة التي لا يمكن أن تنسى الأصدقاء مهما كانت الظروف.. رحم الله شاعرا كان ويبقى شاعر فلسطين وعندليبها بامتياز..
حوار مع شاعر فلسطين يوسف الخطيب:
أحاول التجديد إلى أبعد الحدود
على قاعدة التأصيل إلى أعمق الجذور
أول قافية في الشعر الفلسطيني تشربتها الذاكرة على مقاعد الدراسة كانت لشاعر فلسطين يوسف الخطيب.. ومن تلك النقطة البداية، كان في القلب عندليب الخطيب يحمل قشة من بيدر البلد.. وكانت مسافة القصيدة المضيئة تطرح بذرتها في مساحة الروح..
يوسف الخطيب، معبأ بالشعر كسنبلة قمح، ومليء بالأمل كصفحة نهار مشرق.. لذلك تحار من أين تبدأ معه، وفي أي بيدر من بيادره تقف.. فالعطاء كبير، ورحلة الشعر طويلة، بدأت من فاصلة ((العيون الظماء للنور )) وبقيت محمّلة بالروعة والإبداع المتميز حتى ((مجنون فلسطين)) وما جاء بعده من دواوين.. والوعد دائم بألق الصباحات المشرقة..هذا هو شاعر فلسطين، في حوار مطوّل، يضع كلّ النقاط على الحروف، ليطلعنا على جوانب التجربة الشعرية، وليضيء ـ كما هو دائماً ـ طريق الغد، بأمل لا ينضب..
* الشاعر يوسف الخطيب.. أرجو أن تقدم بطاقتك الشخصية.. ثم ما الذي جعلك شاعراً؟؟
– .. مواطن عربي فلسطيني، رأيت نور الحياة أول مرة في دورا الخليل يوم السادس من آذار عام 1931، وأستطيع أن أتذكر الآن جيداً أن طفولتي المبكرة كانت مفعمة بالحيوية و الاثارة، وأنني ذقت حلو الحياة ومرها في جرعة واحدة.. كان أول ما وعيته من شؤون الدنيا هو استيقاظي اليومي مع آذان الفجر على صوت والدتي وهي تصلي وتقرأ القرآن بصوتها العذب الحنون، وكذلك على أصوات الجنود الانكليز وهم يقتحمون بيتنا بأعقاب بنادقهم وبساطيرهم بحثاً عن والدي لتعاونه مع الثوار، لكن والدي كان قد التجأ إلى سورية للإقامة مؤقتاً بين أبناء عمومته في كسوة دمشق..
ثم في سن السابعة تقريباً بدأت أعتقد بقوة بأنني لابد أن أكون شاعراً في مقبل الأيام، حيث ساعدتني على مثل ذلك الاعتقاد عدة عوامل ذاتية، ومؤثرات خارجية، على حد سواء.. فمن العوامل الذاتية استعدادي الفطري لانشاد القصائد والأغاني المدرسية الابتدائية بشغف عظيم، ثم محاولة تقليدها والنسج على منوالها بكلمات وأصوات شبه موزونة ولكنها بدون أي معنى على الاطلاق..
وبالمقابل، من المؤثرات الخارجية، البيئية، أولاً، المؤثر الجمالي الطبيعي حيث كانت دورا ومدرستها النموذجية الابتدائية معلقتين على قمة رابية على الكتف الجنوبي الغربي من سلسلة جبال الخليل، وكان الساحل الفلسطيني الجنوبي بأسره ينداح تحت أبصارنا. ولا تنتهي خضرته الصارخة المتألقة إلا باتصالها بزرقة أمواج المتوسط على خط الأفق البعيد، فإذا التفت يميناً فتلك مشارف يافا، وإذا التفت يساراً فتلك مشارف غزة، وما بينهما ذلك الكتاب المفتوح بين يديك من السحر والروعة والجمال الأخاذ، بامتداد ما يقرب من أربعين كيلو متراً حتى البحر، وبانفراج دفتيه إلى ما يزيد عن خمسين كيلو متراً من الشمال إلى الجنوب.. وثانياً، المؤثر الاجتماعي العام حيث كان يكثر عندنا الشعراء الشعبيون، وبعضهم من أقاربي المباشرين، وكانت قصائدهم الشعبية الذائعة الصيت في ذلك الزمان أقرب ما سمعته في أيما قطر عربي إطلاقاً إلى الشعر العربي الفصيح بحكم توسط دورا ـ وتوسط لهجتها بالتالي ـ ما بين تعبير البادية الأصيل في بئر السبع والنقب من جهة الجنوب، وما بين تعبير المدينة في كل من الخليل وبيت لحم والقدس.. وكذلك، ثالثاً، كان هنالك المؤثر المنزلي الخاص حيث أخذت أتعلم كيف أفك الحرف، ليس من خلال المربي الجليل خليل السكاكيني في كتبه المدرسية الابتدائية.. ((راس.. روس.. دار.. دور )) فحسب، وإنما في الوقت نفسه من خلال كل ما كان يقع تحت يدي من كتب البيت، اعتباراً من (( مجاني الأدب ))، إلى (( جواهر الأدب ))، و((المعلقات السبع))، و ((النظرات ))، و (( العبرات ))، وما إلى ذلك.. وشيئاً فشيئاً تجاوزت مرحلة ((فك الحرف )) إلى نوعٍ ما من المحاولة الجادة والمستميتة لمعرفة ما تريد أن تقوله تلك الحروف.. فبكلمة أخيرة أظن أن مسقط رأسي ـ دورا الخليل ـ هي التي أسست لدي الملكة الشعرية.. وقبل سن العاشرة بكل تأكيد..
ثم.. لاشيء بعد ذلك.. سوى أنني تلقيت علومي الثانوية في الخليل.. فالجامعية في دمشق.. فترحلت من ثم كسندباد فلسطيني هائم على وجهه ما بين أقطار الوطن العربي، في محاولة نشدان الخلاص الفلسطيني هنا أو هناك بين قبائل العروبة المتناحرة، ولكن دونما أي طائل حتى الآن، حيث ما أزال أواظب العمل على رأس مؤسستي الاعلامية والثقافية ـ الخاصة والمستقلة ـ ((دار فلسطين )).. وذلك كل ما في الأمر..
* في قرية دورا الخليلية كان الميلاد.. ومن جامعة دمشق كانت إجازة الحقوق عام 1955.. هل كان الاتجاه إلى الحقوق ذا علاقة بالشعور بالظلم، بعد أن أصبح الوطن سليباً؟؟
– نعم، كان اتجاهي لدراسة الحقوق ـ وتبدئتها على دراسة الآداب ـ بذلك الدافع الطوباوي المثالي الذي اعتقدت معه، في مقتبل العمر، بأن هناك فرصة جادة وحقيقية لأن تقف ((قوة الحق)) بكفاءة واقتدار في مجال التصدي الفعال (( لحق القوة )) الذي نهضت على أساسه دولة الأعداء.. ويقيناً أنه لم يكن خافياً عن البال أن شيوخ الحقوقيين العرب العظام في ذلك الزمان، وعلى رأسهم فارس الخوري، لم يكن ينقصهم أي شيء من حرارة الدفاع، وقوة الاقناع، خلال مراحل نظر القضية الفلسطينية في محافل المنظمة الدولية، حتى إن فارس الخوري بنفسه هو الذي نصحنا أكثر من مرة، ومن موقعه الحقوقي والديبلوماسي على شاطئ نهر ((هدسون))، بأن علينا نحن كمقاتلين فوق أرض العمليات العسكرية، أن نضع بفوهات البنادق ـ لا برؤوس الأقلام ـمسودات جميع القرارات العربية الفلسطينية التي لابد للمجتمع الدولي من أن يعتمدها آخر الأمر.. وبرغم ذلك فإن دراسة الحقوق، كرياضة عقلية مذهلة، قد بدت لي على جانب كبير من الأهمية في مجال العمل الوطني، لا كبديل عن الكفاح المسلح، وإنما كرديف سياسي له.. وفي ظل جميع الأحوال لم يكن ليخطر ببالي مطلقاً أن جميع منجزات الفكر الحقوقي عبر تاريخ نوعنا البشري يمكن لها أن تحمي شبراً واحداً من أرض الوطن من أطماع الغزاة.. بل على العكس، اعتقدت سابقاً، وسأظل أعتقد لاحقاً، بأن ذراع القوة هو أبلغ المحامين إطلاقاً عن حرية الوطن والإنسان.. وبأن سرية صغيرة من الفدائيين هي أفضل ألف مرة، في هذه الحالة، من جيش بأسره من المحامين.. ولكن، شريطة ألا نقع في خطئنا العربي التقليدي القاتل الذي أدى بنا في كثير من الأحيان إلى إلغاء دور ((الكلمة )) الغاءً مخزياً، فانكشف بذلك جناحا الميمنة والميسرة ((للبندقية )) بالتعبير العسكري.. فبدت جميع معاركنا للعالم كأنها استعمال للقوة من أجل القوة.. فخسرناها تماماً على ذلك الأساس!!..
* سبعة عشر عاماً كان عمر الشاعر سنة حدثت المأساة في العام 1948.. وقد قيل: ((يوسف الخطيب من الشعراء الذين صنعتهم المأساة الدامية )).. أريد أن أسأل كيف كان امتصاص الصدمة وتحويلها إلى هذا الشعر الشامخ عندك، والذي وقف منذ البدايات ليقول بالأمل؟؟ .
– أستطيع أن أتذكر الآن ـ حتى في تلك السن المبكرة تماماً ـ أنني كنت على نوع ما من الوعي والادراك لمنطق (التحدي.. والاستجابة)وأنه بقدر ما تتمتع الأمة باستجابات صحية وصحيحة إزاء ما قد تتعرض له من تحديات خارجية مختلفة، بقدر ما تكتسب من جراء ذلك صلابة ومناعة تؤهلانها لدرجة عالية من النجاح في أي امتحان تاريخي، مصيري، قد تتعرض له.. والأمة بالنتيجة ليست مجرد مجموعة بشرية هائلة ومعزولة في الزمان، بل هي محصلة تاريخية فذة لمئات السنين، وآلاف الذكريات الحضارية على تعاقب الأجيال.. وعلى هذا فليست كارثة فلسطين الراهنة في أواسط القرن العشرين، بأمر منفصل عن كارثتها الرهيبة الأخرى، على أيدي الصليبيين، في خاتمة القرن الحادي عشر.. إذ كما كانت عليه حالة السقوط الحتمي في ذلك الزمن الغابر، كذلك كانت عوامل السقوط الحتمي متوفرة في زماننا الحاضر.. ولكن، لا ننسى أن نقول أيضاً بأنه مثلما انبثق ذلك ((المجيء الأيوبي )) الرائع لحسم موجة الطاعون الصليبية في أواخر القرن الثالث عشر، فلابد أيضاً من ذات يوم آت لا ريب فيه، حيث ينبثق ذلك المجيء العربي المنشود الذي سيحسم موجة الطاعون الصهيونية المعاصرة.. وإذن.. (( فلا حياة مع اليأس، ولا يأس مع الحياة )) بتعبير سعد زغلول.. ولابد لنا من أن نستجن خميرة الأمل، في رحم الألم والعذاب والتمزق والضياع الذي أخذنا نعيشه بعد كارثة العرب الأولى عام 1948، لأننا إذا اخترنا أن نتنازل عن مثل هذا الأمل العظيم في تحرير كامل التراب الفلسطيني من البحر إلى النهر، ومن الناقورة حتى العقبة، فأحرى بنا قبل ذلك أن نتنازل عن نعمة الحياة التي وهبنا الله !!..
فذلك إذن هو الرصيد النفسي والثقافي الذي دفعني أن أنقل أول خطوة لي في دنيا الشعر على طريق ((الأمل )) لا على طريق ((اليأس )).. لأنك كي تكون حادياً حقيقياً لشتات الركب الفلسطيني الصغير، أو حتى العربي الكبير، فهو يتطلب منك أن تستشرف له آفاق النور والحرية والخلاص، لا أن تفاقم أوجاعه العامة بمجرد النقيق فوق رأسه بجملة أوجاعك الذاتية الخاصة.. وإلا فإنه لن يعترف بك.. ولن يستمع إليك.
* عام 1955 صدر ديوانك الأول (( العيون الظماء للنور )) ـ الديوان مليء بالأمل الذي تتحدث عنه ـ كيف تنظر وبعد هذه السنوات إلى هذا الديوان؟؟
– أنظر الآن إلى هذا الديوان بمزيد من الرضى والكفاية والاقتناع.. فلقد كان باكورة أعمالي الشعرية.. ويشهد الله أنني كلما عدت إليه، غبطت نفسي عليه.. وأظن بتواضع أنه كان أكبر من سني الجامعية آنذاك بسنوات وسنوات.
* في (( العيون الظماء للنور )):
أنا مشعل أنا مارج جبارلا الريح تخمدني ولا الاعصارسأمد في الآفاق ألسنة اللظىحمراً لها في الخافقين أوارولأحرقنّ الليل حتى تنجليأسدافه فتوقدي يا نـــــار
هي الثورة المبكرة ، حركة الشعب المثورة، قبل حدوث هذه الحركة.. هل كان يوسف الخطيب الشاعر الذي يرسم طريق شعب فلسطين.. وهل كان الشاعر الذي يرفض الاستكانة إلى الحنين السلبي الذي لا يفعل؟؟
– ثمة ـ غير هذا الشاهد الذي تفضلت به من ديوان (( العيون الظماء للنور )) ـ شواهد أخرى كثيرة تؤكد هذا التوجه ذاته.. التوجه إلى استنفار كل خلية من خلايا الجسد الفلسطيني المثخن بالجراح إثر كارثة عام 1948، إلى أن تكون على أهبة الحضور والاستعداد لاستئناف الثورة، تلو الثورة، تلو الثورة، إلى أن يتم لشعبنا العربي الفلسطيني أخيراً تمام الخلاص والتحرير..
هنالك، مثلاً، قصيدة (( همسة إلى لاجئ )) عام 1953.. وهي التي لم يبق مخيم فلسطيني في سوريا، أو الأردن، أو لبنان، إلا أوصلتها إليه نشراً، أو ألقيتها في جموعه الحاشدة مباشرة.. ومن خاتمة أبياتها:أيها اللاجئ انتفض / أنا أنت.. / أنا للذبح أولاً / ثم أنت / نحن كبشان للفدا / فانتفض../ نحن للموت، للردى / انتفض.. / وإذا أنت لم تثر / فاندثر.. / خذ لكفيك خنجراً / وانتحر/.
وكذلك من قصيدة (( الجحيم المفقود )) عام 1953 أيضاً:ضاع فردوسه، فأين جهنم / في لظاها الجبار يفنى، ويعدم / ليته كان ذرة..وتحطم / ليته ثار في ا لوجود لهيباً / من لظى الثأر مارجاً مشبوباً.
وكذلك أيضاً من قصيدة ((_ موعد الثأر )) عام 1955:
سنلتقي يوماً على موعــدللثأر، في يافا، وفي الكرملسيجمع التاريخ أشتاتناواحدة الراية والجحفــــلويعلم الشذاذ من أمتــيأي دار حرة موئلـــــي
وليس أخيراً، مثل هذا الشاهد من قصيدة ((العيد يأتي غداً )) من الديوان الباكورة نفسه:
فيم أعيادنا، وفيم الأهازيـــجوحشد الآلاف حول المنابـــرْما لنا والفخار، والقدس تدعونافهل حركت حمية ثائــرْمن دوي الرصاص يغتصب المجداغتصاباً، لا من دوي الحناجرْ
فهذه الشواهد الخاطفة وأمثالها ـ لشعراء آخرين عديدين، فلسطينيين وغير فلسطينيين ـ هي في اعتقادي التي استجنت بذرة الثورة في بطون المخيمات منذ مطالع الخمسينات، وهي بالتالي التي استولدت ((رصاصة )) الثورة الأولى ليلة 1/1/1965.. إذ ما دامت الكلمة الحرة حية حاضرة في الوجدان، فمطلب الحرية بدوره هو أسمى غايات الإنسان..
وأما عن شعر ((الحنين السلبي )) في الشق الأخير من سؤالك، فلاشك أن عاطفة ((الحنين)) في ذاتها هي قوة خلاقة، وذات طاقة تفجيرية هائلة في حقل الإبداع الفني والأدبي.. وأما أن يكون الحنين سلبياً، بمعنى أن يقتصر على كونه مجرد تأوهات وتوجعات عاطفية خانعة، فذلك في حقيقة الأمر لن يكون في مقدوره أن يعكس فناً أو أدباً حقيقياً، أو أن يثمر بالنتيجة أية إضافة إبداعية جديدة.. وعوضاً عن ذلك، في اعتقادي، فإن هارمونية التوازن النفسي الكامنة بعمق وأصالة حتى في طوية إنساننا العادي، لابد من أن يقابلها الأديب الحقيقي بما يشبعها ويعطيها كفايتها من هارمونية التناسب الفني بين عاطفة الحنين من جهة،وبين معادلها النفسي من الاثارة والاستفزاز والتحريض على فعل الحرية والخلاص..
* كنا على مقاعد الدراسة، وكان يوسف الخطيب معنا في شعره، أحببناه في ((العندليب المهاجر)) وكبرت معنا: لو قشة مما يرف ببيدر البلد خبأتها بين الجناح وخفقة الكبد..هذا الشعر ومثيله أعطانا الكثير.. أرجو أن تقف بالذاكرة عند هذه القصيدة.. ثم.. لماذا ابتعد أكثر الشعر الفلسطيني عن هذه الحرارة والعاطفة الرائعتين؟؟
– أظن أن قصيدة (( العندليب المهاجر )) ـ عام 1955 ـ تمثل بداية نقلة مفصلية رئيسية في نتاجي الشعري لعقد الخمسينات.. فبعد مرحلة القصيدة الهائجة الثائرة المجلجلة التي تزامنت في بداية الخمسينات مع طراوة الجرح الفلسطيني الساخن الذي كان ما يزال قريب العهد.. وبعد مضي سبع سنوات، في ذلك الحين، على هذا الجرح وهو ما يزال مفتوحاً ودافقاً وفاهقاً دون أن تلوح في أفق الواقع العربي أية بادرة جادة لاسعافه وتضميده.. فلقد بدأت أحس شيئاً فشيئاً أنني أدخل في مرحلة القصيدة المتأملة الهادئة، ولكنه ذلك الهدوء الظاهر على السطح فقط، بينما هو يغتلي في باطنه وأغواره العميقة بكل نوازع الرفض والتمرد والعصيان على واقعنا الراكد، وإنما هذه المرة بقدر غير قليل من الجمالية الغنائية الرومانسية، كما لو كانت طوراً مفاجئاً، هادئاً، وحالماً، ومتعمقاً في حقيقة الألم، في إطار البناء الجدلي العام لسيمفونية صاخبة..
ومع أن ((العندليب المهاجر )) هي قصيدتي الأولى التي تمثل هذه النقلة البارزة من طبقة ((الجواب)) إلى طبقة ((القرار )) كما يقول الموسيقيون، فإنها للحقيقة ليست القصيدة الوحيدة من هذا النوع، بل لقد أردفتها بقصائد عديدة أخرى من مثل ((بحيرة الزيتون ))، و ((أغان من فلسطين ))، و (( نغم لم يتم ))، وهي جميعها لم تكن مجرد انسياحات عاطفية منفعلة، بقدر ما توخيت لها أن تكون شعلاً عاطفية فاعلة ومحرقة في قتام واقعنا العربي الثقيل، الأمر الذي عبرت أنت عنه في منطوق سؤالك بثنائي: الحرارة والعاطفة..
وأما لماذا ابتعد أكثر الشعراء الفلسطينيين ـ أو دعنا نقل بعضهم على الأقل ـ عن مثل هذه الحرارة والعاطفة، فلعل من أخطر العوامل التي أدت إلى ذلك هو شهوة بعضهم إلى كتابة أدب ((مؤدلج ))، أي في إطار أيديولوجية سياسية مسبقة الصنع خارجياً، وسهلة الاستيراد والاستهلاك على حد سواء.. فهي من جهة أولى توفر لهم مكسبين هائلين دون كبير عناء.. المكسب الأول أنها تقدم للشاعر ما يشبه العدة الكاملة من منهج أدبي جاهز، وأشكال حداثية معلبة، ومضامين شعرية محددة، وقيم جمالية رائجة، من احتياطي ما يمكن أن ندعوه بحق ((مصرف التسليف الايديولوجي )) الذي ينتمي إليه.. ثم يتبع ذلك بالضرورة المكسب الهام الثاني وهو ضمان انتشار أعماله الشعرية، ورواجها المنقطع النظير ، وربما احتمال ترجمتها إلى عدة لغات عالمية أيضاً بقدر اتساع دائرة النفوذ التابعة لتلك الايديولوجية.. وأما من الجهة المقابلة فإن الثمن الباهظ والحتمي لكل هذه المكاسب الآنية العابرة هو الوقوع في جميع عيوب المحدودية، والتحنط، والتعصب، والاستعاضة أخيراً عن فضيلة الالتزام الذاتي من أعماق النفس، برذيلة الالزام والاملاء من مؤثرات العالم الخارجي.. ولا شك أن محاولة إشباع هذه المسألة المتعلقة بعيب ((الأدلجة ))، ليس بالأمر المستطاع، ولا المطلوب أيضاً، في سياق مثل هذه المقابلة الصحفية المحدودة على أية حال..
* لنقف عند حدود التجربة كاملة.. ما زال يوسف الخطيب منحازاً إلى جماهيرية الشعر.. يطوّر القصيدة، مع المحافظة على وصولها.. ماذا تقول حول ذلك؟؟
– مسألة الايصال الشعري للجماهير شغلت أناساً لا حصر لهم من المشتغلين في حقل النقد والابداع طيلة ما يقرب من مئتي سنة حتى الآن، ورغم كل هذا الجهد الكمي الهائل في محاولة فلاحة هذه المسألة فكرياً ـ وربما بحكم سهولتها المتناهية ـ فإن حاصل مردودها النوعي لم يكن مقنعاً ولا شافياً، وما يزال غير نهائي، لأن مفهوم (( جماهيرية الفن )) في ذاته أشبه بحقيبة فارغة يتسنى لكل أديب أو ناقد أن يعبئها بأمتعته الفكرية الخاصة، أو أن يعيد تعبئتها مرات ومرات بنسبة اختلاف الزمان والمكان، وبنسبة اختلافه هو كإنسان.
هنالك مثلاً من يصفقون بحرارة بالغة لقصائد مايكوفسكي لأنها كانت تنزل من جماهير الثورة بمنزلة الخطاب المباشر الملتهب المثير.. ولكن هنالك أيضاً،من قاعدة الجمهور البشري نفسه، من يتسمر في مقعده أمام شخصية هاملت الفلسفية على مسرح شكسبير، وطبيعي جداً أن المشاهد (( أ )) لشخصية هاملت لن يستقبلها بنفس درجة المشاهد (( ب )) أو المشاهد ((جـ))، ولكن الثلاثة معاً سيتصلون بها على أية حال بهذا القدر أو ذاك من الوعي والإحساس.. فعملية ((الايصال )) من قبل الشاعر أمر مجتزأ ومنقوص، مالم ندرسها على ضوء مقدرة الآخرين المتلقين على ((الاتصال))..
وهكذا، ففي اعتقادي الشخصي أن أفضل صيغة لجماهيرية الشعر، والفن عموماً، هي تلك التي يستتبع ((ايصالها )) أكبر قدر مستطاع من (( اتصال )) الآخرين بها، بنسب متفاوتة بطبيعة الحال.. وهذه الصيغة في الحقيقة هي التي حاولت جاهداً أن أعتمدها في جميع قصائدي وأعمالي الأدبية الأخرى، بحيث لا أستعلي بها مطلقاً على أيما فرد عادي من الناس، وبحيث أطمح بالمقابل أن تحظى بقبول حسن عند الصفوة المختارة من كبار المثقفين.. ولست أدري إلى أية درجة قد أفلحت فعلاً في تحقيق مثل هذه المعادلة الصعبة، إلا أنني أعترف بأنها كانت هاجسي الأساسي في كل ما كتبت..
* ((مجنون فلسطين)) ديوانك السمعي (( انطلاقة تأسيسية كاملة لا تستند إلى أية تجارب سابقة )) ما هو السبب في توجهك إلى هذا الجديد المغاير ؟؟}
– كان هاجسي الكبير طيلة مسيرتي الشعرية المتواضعة، هو أن أحاول التجديد إلى أبعد الحدود، ولكن، على قاعدة التأصيل إلى أعمق الجذور.. ومن هنا فإن تجربتي التأسيسية في ديوان ((مجنون فلسطين ))السمعي، بقدر ما تمثل، من أحد وجهيها، انفصالاً شبه كامل عن جميع الطرائق التقليدية في نشر الشعر وإيصاله إلى جمهرة المتلقين، بقدر ما تمثل، من وجهها الآخر، اتصالاً كاملاً أيضاً بتلك الخاصة التراثية الفريدة للشعر العربي، من جهة حضور الشاعر المباشر بين يدي جمهوره، كما كان عليه الحال في المربد وعكاظ، أو على الأقل من جهة حضوره الذاتي هذا بين أفراد قبيلته، أو ترحاله عبر الآفاق البعيدة بسبيل أن ينشد ما قد أبدعته قريحته أمام الأفراد والجماعات على حد سواء.. وهكذا ظل حال الشعر العربي لمئات الأعوام اللاحقة اقرب إلى طبيعة النفس العربية ((مسموعاً )) أكثر منه ((مقروءاً)) حتى لكأن شاعرنا القديم قد أراد أن يشير إلى هذه الخاصة ذاتها بقوله:ـ (( والأذن تعشق قبل العين أحياناً)).. ولذلك أيضاً انتشر الشعر العربي ((بالرواية)) أكثر مما انتشر ((بالتدوين)) حتى في أوج ازدهار الحضارة العربية في أوائل العصر العباسي، وشيوع القراءة والكتابة في جمهرة واسعة من الناس، وظهور ألوف المصنفات النثرية في اللغة، والفقه، والفلسفة، والعلوم، فرغم كل ذلك كان لرواة الشعر ـ ولنقل الحمادين الثلاثة مثلاً ـ حضورهم القوي والمؤثر.. ولست أدري تماماً ما الذي كان عليه الحال في أشعار الأمم الأخرى، إلا أنني لم أصادف مطلقاً أنه كان لكل شاعر أجنبي ((راويته)) المختص بإيصال قصائده للآخرين، كما هو واقع الحال في شعرنا العربي، وحتى يومنا الراهن إلى حد كبير..
فلهذا السبب أصدرت ديواني ((مجنون فلسطين)) بالطباعة الالكترونية المسموعة، عوضاً عن طباعته العادية المقروءة، مستفيداً في ذلك من منجزات العصر السمعية ـ الكاسيت والمسجلة ـ التي ربما غدت في بعض الاحيان أكثر شعبية وانتشاراً حتى من الكتاب نفسه.. ومع أن هذه الطريقة لا تمثل حضوراً كاملاً للشاعر، بلحمه ودمه، بين يدي جمهوره، إلا أنها في جميع الأحوال أكثر حضوراً من الكتاب العادي الذي ستبقى له قيمته الكبيرة بكل تأكيد..ولعلي سأتمكن ذات يوم قريب من تعزيز هذه التجربة واستكمالها، عن طريق النشر المزدوج لبعض الأعمال الجديدة بالطباعتين العادية والالكترونية في نفس الوقت..
* في ((مجنون فلسطين)) قصيدة من العام 1965 وأخرى من العام 1982.. هل أردت رصد كل جوانب التجربة الشعرية عندك.. أو أن هناك سبباً آخر؟؟
– كلا لم يكن في الوسع إطلاقاً أن أرصد جميع جوانب تجربتي الشعرية في نطاق هذا الديوان.. وأما التفاوت الزمني الملحوظ في تواريخ القصائد التي أشرت إليها، فمرده إلى عوامل واعتبارات أخرى، بعضها فني محض، وبعضها الآخر يتعلق بمجرد التبويب والترتيب، ولكن جميع هذه القصائد التي احتواها ((مجنون فلسطين)) هي مما لم يسبق أن نشرته في أي ديوان عادي من قبل، ولعل هذا هو قاسمها المشترك الرئيسي.. زد على ذلك أنني قد تعمدت أن أضع القصيدة الأصولية التي يدعونها ((التقليدية)) بموجب الخطأ النقدي الشائع، إلى جانب القصيدة المستحدثة التي يدعونها ((الحرة)) بالمقابل.. وأما لماذا فعلت ذلك عن سابق عمد واصرار، فلاعتقادي الجازم بأن الشاعر العربي، الحقيقي، هو من يجرؤ أن يقف أمام جمهوره متمكناً من جميع أساليب الأداء الشعري، ومسيطراً على جميع أسراره الجمالية، ما كان منها ((أصولياً )) عريقاً ينعش الذاكرة الإنسانية باستعادة فطرتها وطفولتها السحيقة، أو ما كان ((مستحدثاً )) مبتكراً تماماً من شأنه أن يغني النفس وأن يمد بصر الإنسان بعيداً في آفاق المستقبل التي يجهد الشاعر الجاد في استشرافها، وتلوينها، والحداء إليها..
أما أن يدَّعي شاعر بأنه لا يريد أن يستحدث أيما جديد في دنيا الشعر لأنه ملتزم أمين ((بأصول)) السلف الصالح.. أو أن يدعي شاعر آخر، بالمقابل، بأنه يرفض الأصول الفنية الشعرية جملة وتفصيلاً، لأنه قد أخذ على عاتقه أن يلتزم جانب ((الإبداع )) المطلق، دون ما أي ((اتباع)) على الإطلاق، فكل من هذين النمطين من الشعراء إنما يمثل في حقيقة الأمر نصف المهزلة المأساة التي يجتازها حالياً شعرنا العربي المعاصر، إلى حد ما يشبه حالة الافلاس الشعري بوجه عام.. أعتقد بقوة أن الموسيقي العظيم حقاً هو الذي يسيطر دفعة واحدة على جميع مفاتيح النغم، اعتباراً من شبابة الراعي التي يرجع عهدها إلى زمن لا تعيه ذاكرة الإنسان، حتى الاورغ الاليكتروني من أحدث ما أنجزته تكنلوجيا الإنسان.. والشاعر بالمقابل، بوصفه موسيقار اللغة، والصور، والأفكار، خليق به أن يحلق إلى الأعالي بجناحين مهيبين في دنيا الشعر، وأن يجمع في آن معاً بين ((ذاكرة الأمس )) و((باصرة الغد )) وإلا، فكل سعيه باطل الأباطيل، وقبض الريح..
* الانتقاء الموسيقي في ((مجنون فلسطين)) من بتهوفن، إلى تشايكوفسكي، سسبيليوس، ريمسكي كورساكوف إلى برامز.. هل كانت القصيدة تفرض النوعية الموسيقية.. وسؤال لاحق أيضاً: لماذا أصبحت الموسيقى ترافقك حتى في أمسياتك الشعرية..
– لحسن الحظ أن أولى خطواتي الشعرية الجادة في مطلع الخمسينات، قد ترافقت مع تذوق تدريجي لروائع الموسيقى العالمية الخالدة، وشيئاً فشيئاً أخذت أتوغل بعمق في أرجاء هذا العالم الفسيح من الخلق والإبداع الموسيقي، لدرجة أنني اعتبرت الليالي الطويلة التي سلختها مع عمالقة هذا الفن ـ من باخ حتى شوستاكوفتش ـ نوعاً من المطالعة العميقة الجادة، والتحصيل الثقافي الفني الذي أظن أنه لا غنى للشاعر عنه، بقدر حاجته الماسة أيضاً إلى التعامل، أو التواصل، مع جميع الأجناس الفنية الأخرى، من رسم، ونحت، وتشكيل متعدد الصور، لأن جميع هذه القرائح المختلفة تتفجر في الأساس من رأس نبع واحد مشترك..
لذلك كان سهلاً علي ـ بل وسهلاً جداً ـ أن أختار لكل واحد من قصائدي السمعية هذه ما يناسبها من مرافق موسيقي، من كنوز المكتبة الموسيقية العالمية.. وطبيعي جداً أنه.. لا القصيدة كتبت على مقام السيمفونية.. ولا السيمفونية أصلاً بذات صلة مباشرة بما سيكتبه الشعراء لاحقاً عليها.. وبرغم كل ذلك فإنني كلما استمعت ثانية إلى ملحمتي الشعرية (( كذابة كل طيور البحر )) مقروءة بمرافقة السيمفونية الخامسة لبيتهوفن انتابني ذلك الشعور المبهم بنوع ما من وحدة النفس البشرية، وبأن ثمة روحاً واحدة تسكن العملين معاً، ربما إلى درجة المطابقة في بعض المقاطع، كأن كلاً من السيمفونية والقصيدة تتصل بالأخرى بسبب قوي..
وأما لماذا أصبحت الموسيقى ترافقني حتى في أمسياتي الشعرية: فحقيقة الأمر أنها كانت تجربتي الوحيدة حتى الآن، في أمسية لاتحاد الكتاب العرب، ولقد سعدت جداً بنجاحها الكبير الذي لم أكن أتوقعه إلى هذا الحد.. وإذا كان في الوسع مستقبلاً، أن يقرأ الشاعر أعماله بمرافقة ما يناسبها من الروائع الموسيقية، فلماذا لا يفعل ذلك؟! أوليس جميلاً جداً أن يكون هنالك في كل يوم ما هو جديد؟!.. بالنسبة لي شخصياً سأحاول تعزيز هذه التجربة الوحيدة، وترسيخها، المرة تلو الأخرى، وسأسعى جاهداً لتطوير استخدام التقنيات الالكترونية اللازمة لهذه التجربة، لعل أن تصبح تقليداً كامل التأسيس في حياتنا الشعرية المعاصرة..
*بعد الوقت الذي مر على صدور (( مجنون فلسطين )) ماذا يمكن أن تقول هذه التجربة، وهل يمكن أن تتحول الدواوين الشعرية المقروءة إلى مسموعة؟؟
– سيقول لك أي كاتب أو شاعر أو ناشر إطلاقاً، بأن كتابه الأخير لم يكن رابحاً بما فيه الكفاية.. وحتى أدولف هتلر نفسه، وقبل أن يتسلم السلطة في الرايخ الثالث، ادعى أمام مصلحة الضرائب بأن كتابه ((كفاحي )) لم يجلب إليه ربحاً يستحق الضريبة.. ولكن.. وبرغم هذه الحقيقة المقررة عالمياً، فلابد من كلمة ثقة بيننا، وصدق مع النفس قبل أي اعتبار، وهي أن كاتبنا أو شاعرنا، أو حتى ناشرنا العربي ، ربما يعيش أردأ وضع إطلاقاً بالنسبة لنظرائه في الأمم الأخرى، من أقصى أنظمة اليمين، إلى أقصى أنظمة اليسار، حيث يمكن للأديب هناك أن يتحرر بشكل ناجع من ضغوط جميع احتياجاته المادية، ليستطيع أن يتفرغ، بذهن صاف، وبنفس مطمئنة، إلى عطائه المبدع الخلاق.. فمثلاً.. لماذا يطبع الروائي الأميركي، أو السوفييتي، أو الاوروبي الناجح، قرابة نصف مليون نسخة (تتم ترجمتها عملياً إلى دخل وفير ) بينما لا يتأتى لألمع الروائيين العرب، إلا نادراً، أن يطبع أكثر من خمسة آلاف نسخة.. مع أن تعداد سكان الوطن العربي لا يقل كثيراً عن تعداد أي واحد من المجتمعات الثلاثة الآنفة الذكر!!.. ومثلاً أيضاً.. لماذا يطوف الكتاب الأجنبي الناجح أرجاء الكرة الأرضية، ويترجم إلى أكثر من لغة عالمية، بينما الكتاب المغربي أو المشرقي العربي، لايطأ أحدهما أرض الآخر المحظورة عليه تقريباً، أو حتىالكتاب الجزائري، على نطاق ضيق، لا يخترق الحدود المراكشية مثلاً الا بما يشبه عملية التهريب!!..واقعنا العربي التعيس هذا يجيب على جميع الأسئلة المتعلقة بانتشار أي كتاب، وما يتصل بتجربة أي جديد من فشل أو نجاح.. ومن ضمن ذلك تجربة ((مجنون فلسطين )) التي أستطيع أن ألخصها لك على النحو التالي:. نجاح ممتاز فعلاً من جانب المردود الأدبي والمعنوي.. وخسارة فاجعة حقاً من جانب المردود المادي..
وبما أنه ليس بالمردود المعنوي وحده يحيا الإنسان، أو ينجح الكتاب، فإن من السابق لأوانه الآن أن أجيبك بدقة عن مستقبل ((الكتاب السمعي)) ناهيك عن أن يتحول الديوان المقروء إلى ديوان مسموع، علماً بأنه ليس فضلاً لأحدهما أن يقضي على الآخر من أجل أن يحل محله.. كل ما في الأمر أننا أمام تجربة جديدة تماماً، ولن يجاب على فشلها أو نجاحها إلا بعد انقضاء زمن كاف، ربما إلى أن يتبين المسؤولون العرب كافة، والجمهور العربي نفسه، ما الذي كان يرمي إليه أولئك الأجانب من اختراعهم لشريط ((الكاسيت)) ومسجلة الترانزستور المتنقلة إلى كل مكان.. هل من أجل سرقة أغاني المطربين التافهين في معظمهم، والصراخ بسماجاتهم الغنائية من على أرصفة الشوارع، أم من أجل هدف ثقافي وفني وحضاري مختلف كل الاختلاف.. في بعض بلدان أوربا مثلاً لا يكتفي القانون بإيقاع أشد العقوبات على أية سرقة فنية أو أدبية، بل إن ((الكاسيت)) الفارغ نفسه يمنع بيعه أساساً إلا لمن يملك ترخيصاً قانونياً بممارسة النشر السمعي..
وفي أوروبا أيضاً قد يستعمل بعضهم الكاسيت ـ بصورة قانونية طبعاً ـ لبعض أغاني الديسكو وصرعات المراهقين، ولكن استعماله الأعم والأغلب يأتي في مجال الفن والفكر والعلوم.. وثمة أمامي الآن فهرس كامل لإحدى دور النشر البريطانية يتضمن مئات الكاسيتات الصادرة بمختلف أعمال شكسبير، وميلتون، وشيلي، وكيتس، وإليوت، تحت باب الشعر، وهيغل، وماركس، وانجلز، تحت باب الفلسفة.. وغيرهم وغيرهم في الرواية، والتاريخ، والاقتصاد، وحتى الرياضة، وسائر فروع المعرفة الأخرى.. بمعنى مختصر ومفيد، وهو أن ((الكاسيت)) قد اخترع ليكون أداة اتصال جماهيرية تتكامل مع الكتاب العادي وتوازيه.. وبسعر موحد يقارب التسعين ليرة سورية للكاسيت الواحد ذي الستين دقيقة..
ليس معنى ذلك قطعاً أنني قد رفعت الراية البيضاء مستسلماً أمام خسارتي المادية في ديوان ((مجنون فلسطين )) بل لقد ازددت حماسة لمواصلة التجربة بكل ما تستحقه من تضحية وإرهاق.. وإذ نحن نتحاور في هذا الموضوع الآن، فلقد قطعت شوطاً لابأس به في التخطيط لاحياء تراثنا الشعري العربي الحافل والهائل عن طريق إصدار نماذج مختارة منه في مجلدات سمعية متعاقبة.. بل لقد فرغت عملياً من إعداد ((ديوان الحماسة )) بأكمله، لأبي تمام، ولم يبقَ عليّ إلا توفير الإمكانيات المادية اللازمة لتسجيله وطباعته الالكترونية في استوديو ((دار فلسطين)) رغم تواضعه النسبي.. إذ على الأقل قد يساعد مثل هذا النشر السمعي لتراثنا الشعري على ألا تستمع لابنك العائد لتوه من المدرسة وهو يقرأ لك القصيدة العربية بما يشبه السنسكريتية!!..
* في رأي يوسف الخطيب إلى أين وصل الشعر الفلسطيني؟؟ ثم ماذا تقول عن خصوصية الأدب الفلسطيني ؟؟}
– نعم، أنا شاعر فلسطيني شديد الاعتزاز بهذه الصفة القطرية النضالية في نطاق الرابطة القومية المكينة، ولكنني مع ذلك لم أعلم، حتى الآن، أن هناك شعراً فلسطينياً، أو أدباً فلسطينياً.. كل ما أعلمه أن هنالك أدباً عربياً وحسب، رغم ما درجت عليه أقلام كبار النقاد الأدبيين خلال الجيل المنصرم فقط من تجزئة هذا الأدب الواحد إلى آداب قطرية متعددة، فأصبحت تسمع مثلاً بالشعر العراقي، أو السوري، أو المغربي، وقد لا يستبعد غداً أن نسمع أيضاً بالشعر الصومالي، أو الموريتاني، وهذا كله مجرد خطأ اصطلاحي فادح الخطورة مما أشاعه النقاد والناشرون في حياتنا الثقافية المعاصرة..
بالمعنى القطري الوطني الجغرافي، لا وجود لشيء يدعى الشعر أو الأدب الفلسطيني.. أما إذا فسرنا مصطلح ((الشعر الفلسطيني )) على أساس ما يتعلق بالمأساة الفلسطينية، وبالهم الفلسطيني الكبير من نتاج شعري ـ وكذلك الأمر بالنسبة ((للأدب الفلسطيني )) بصورة أشمل ـ فعندئذ لن تقتصر هذه الصفة على الشعراء والأدباء الفلسطينيين بموجب الهوية القطرية، أو ما يعرف بالجنسية السياسية، بل سيندرج تحت هذه الصفة شعراء عرب آخرون، بقدر ما يمكن أن نستثني منها أعمالاً شعرية كثيرة لشعراء فلسطينيين بمجرد الهوية.. فمعظم قصائد بعض الشعراء الفلسطينيين في السنوات العشر الأخيرة، سواء داخل الوطن المحتل أو خارجه، لا يمكن اعتبارها ((شعراً فلسطينياً )) بهذا المفهوم الموضوعي، ما دامت قد سقطت في عيب التأدلج، أو التمذهب السياسي، بعيداً جداً عن الطبيعة التحريرية الوطنية للقضية الفلسطينية..فإلى أين وصل الشعر الفلسطيني.. بمعنى الفلسطيني الموضوع؟؟..
أعتقد للأسف الشديد أنه انتكس لدى الكثيرين ـ ولا أقول لدى الجميع ـ خطوات عديدة إلى الوراء، عما كان عليه في مده الشامل، وفي موقعه الريادي القيادي، في عقد الخمسينات، وعقد الستينات، وهذا أمر محزن للغاية، ولا يمكن التبرير له من جهة نظر نقدية سليمة بأنه قد جاء انعكاساً حتمياً لوقائع ومجريات ساحة العمل الفلسطيني التي أخذت في التراجع الحاد منذ منتصف السبعينات حتى وقتنا الراهن.. ذلك بأن الشعر بخاصة، أو الأدب بوجه عام، ليس من شأنه ولا من طبيعة دوره الريادي الاستطلاعي أن يكون مجرد انعكاس لا بما واقع سياسي أو اجتماعي أو عسكري على الإطلاق، بل هو القوة المحركة والدافعة لتثوير مثل ذلك الواقع، وتنويره، بسبيل خلق واقع جديد..
* أخيراً ماذا يقول شاعر فلسطين يوسف الخطيب للشعراء الفلسطينيين الشباب؟؟
– ما يمكن أن يقال في هذا المجال كثير.. على أن الأكثر أهمية هو أن تجد في مثل هذه الأيام من يمكن أن يصغي إليك من شعرائنا الشبان.. إن الواحد منهم ما يكاد يحس بموهبته الشعرية في الثامنة صباحاً، حتى يميل إلى الاعتقاد بأنه قد اكتمل شعرياً في الثامنة والنصف.. مع أنك كي تصقل موهبة شعرية رائعة، أو أصيلة، ولا شك فيها، فلابد لك من ألوف الليالي من السهر والعذاب والحمى حتى تغني مثل هذه الموهبة باكتساب ثقافي ومعرفي هائل لابد منه.. بل لعل الشاعر الحقيقي، كما أتصوره، هو الذي يفارق الدنيا وما يزال في نفسه شيء من التوق.. وأما هؤلاء الذين يولدون شعراء كاملين، فالمعنى الوحيد لذلك هو أنهم قد اختاروا بأنفسهم أن يولدوا ميتين.. لأن الشيء الأوحد المرادف للكمال هو النهاية.. والنهاية بالتالي هي الموت..
أود أن أقول لهؤلاء الشعراء الشباب أيضاً بألا يهدروا أي جزء من طاقاتهم الإبداعية المتصفة بالعنف والاندفاع كأمر طبيعي في مجال ما يعرف عادة ((بصراع الأجيال )) فالأجيال الأدبية والفنية في آداب الشعوب المتقدمة، وحتى في تراثنا العربي العظيم، هي أجيال تواصل، وتفاعل، وتكامل، يأخذ فيها الشاب كفايته من حكمة الشيخ،بقدر ما يقبس الشيخ بدوره من جذوة الشباب الملتهبة التي تجدد في خلاياه طاقة التعمير الإبداعي المديد..
ولعل آخر ما أود أن أقوله لشعرائنا الشباب كافة، من فلسطينيين وغير فلسطينيين، بأن فاجعتنا القومية هذه وإن تكن محدودة بحجم الرقعة الجغرافية الفلسطينية الضامرة، فإنها تخيم بقتامها الشديد على سماء الوطن العربي كله من المحيط إلى الخليج.. وفي اعتقادي أن مثل هذا التحدي المصيري الشامل لأمة بأسرها، لخليق به حقاً أن يستولد في نفوس شبابنا استجابة معادلة له في العنف والشمول، سواء على مستوى الكفاح المسلح بحد السيف، أو على مستوى التثوير والتنوير بشعلة الحرف، حيث يمكن لملف هذا الصراع المحتدم منذ قرابة قرن من الزمان، أن يرفدنا بمصادر وحي وإلهام لأن نكتب أدباً عالمياً خالداً لعدة قرون قادمة.. فما على شبابنا الأدباء غير أن يدخلوا التجربة، لا أقول من بابها الواسع.. أعني بذلك باب الصعوبة، والمعاناة، والشعور بكامل المسؤولية في محاولة تذليل المستحيل.