الأربعاء ٢٦ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٧
بقلم يونس أحمد عفنان

الصفقة

أعطني خبزي لأكتب

بعد انتهائي من دراسة الهندسة الكيميائية و حصولي على لقب " مهندس مشرد " مع مرتبة الشرف، و من المقابلة الأولى مع عميد أكاديمية الحرمان و الامتهان... (الجوع)، التحقت على الفور بالسنة الدراسية الأولى في الأكاديمية كمحطم غر، غير أن كبار الأساتذة في الأكاديمية من جامعي العلب المعدنية من حاويات القمامة و مستعملي خشب البناء في تدفئة خيامهم، عندما اكتشفوا في الفصل الدراسي الأول أن إفطاري عبارة عن صحن من "الفحم الأسود المغمور بالزفت"، و أن غدائي "ثاني أكسيد الغبار"، وعشائي "غاز الكنادر" ، قرروا ترفيعي للسنة الثانية فورا و دون إضاعة للوقت ، ثم سرعان ما اكتشفوا أنني أجيد لغة (البق) و أن أكثر معارفي هم من القطط المشردة و من بقايا افتتاحيات الصحف القديمة المبعثرة فوق الأرصفة، فقرروا ترفيعي للسنة الثالثة دون انتظار، ثم ما لبثوا أن اكتشفوا أنني جاهز لأبيع شرق الأرض كله مقابل ليلة مع مومس، فرفّعوني للسنة الرابعة ليكتشفوا سريعا أن الإنسانية صارت لا تعني لي أكثر من كلب خلف سور قصر فخم، و أن الحب نكتة قديمة ، و الولاء عقب سيكارة، و الوطن بنطال جديد، و أنني لا أميز بين جوزيف ستالين و الدينار، و بين (جاك السفاح) و فصل الشتاء، فقرروا ترفيعي للسنة الخامسة ليكتشفوا من اليوم الأول بأنني كافر كالجوع نفسه فقرروا تخريجي على الفور كأستاذ ذو كرسي دائم في "علم الحفاة" على أن أعمل دون أجر في معمل كيميائي صغير لأتعلم و على يد مدير المعمل الأميّ نظرية "رأس المال" و علاقتها بكل من البكاء على الأطلال و الشذوذ الجنسي و انفصام الشخصية لدى صديقي إبراهيم التل... و هكذا خطوت خطوتي الأولى في الحياة العملية !، و أصبحت عقدة الخوف على رغيف الخبز أفضع كابوس غرس جذوره عميقا في معتقداتي و ذاكرتي و في منابع أحلامي، إذ لو اجتمع الأنس و الجن ليقنعوني بأن (لا أحد يموت من الجوع) لما اقتنعت و لا صدقت !! فقد عاينت و بأم عيني و يدي ورجلي كيف أن الموت جوعا أسهل و أكثر طرق الموت شيوعا، و منذ تلك الأيام و حتى اليوم كلما نظرت إلى دفاتري و هي تقطر دما و قيحا و بؤسا أدرك أن نجاتي من مقصلة العروبة و مشنقة الشرق بعبيده و أسياده، بخرائبه وقصوره، برتابته و ضجيجه، بتاريخه و حاضره، محال.. و أنني موحش و وحيد، بحيث أن نمو العشب فوق دفاتري أيضا محال، و أن استمراري في (الكتابة) هو لا أكثر و لا أقل من مجرد دفع للخنجر في ظهري قدما نحو القلب..، و أنني أخيرا الخاسر الوحيد في هذه المهزلة.

صحيح أني اعتدت على الظلام و الأحزان الساخنة التي تتدفق داخل صدري كالينابيع الكبريتية، غير أن كرهي لهذا الشرق و حقدي عليه، و اللذان يقتاتان على ذكرياتي و دمي و عظامي و أيامي، و ينموان و يكبران في داخلي كالحيوانات في مزارع التسمين، لا يتركانني بحالي، لذلك فأن عودتي إلى أوراقي كما يعود السجين من استراحته بين الأسلاك الشائكة إلى عنبره، صار أمرا روتينيا كتعاطي البنسلين عند المصابين بداء السكري.
و أتسأل حين أمسك بقلمي: " أية بلاد غير بلاد المشرق تمتاز بهذا المناخ الذي يجعل من (النص) حادث سير بشع أو بقايا محرقة تتصاعد منها رائحة الجلد البشري؟ "، ولمّا كانت حياتي فلم مرير عن (صراع البقاء) تتكرر وتعاد أحداثه ذاتها مع تغير في الديكور فقط منذ نعومة أظفاري حتى الآن، فأنني كنت و لا زلت كلما فتحت دفترا لأكتب بخيال مطمئن و سطور آمنة مستقرة في مكانها، نغّص عليّ ظالم ما هدوء سريرتي بأن يمد يده في ينبوع رزقي – المصاب بفقر الدم و ضمور العضلات أصلا – فينطوي و ينفرد خيالي بعصبية كالأمعاء الملتهبة و تتعرج سطوري وتتداخل في بعضها البعض كخطى المخمور، و تفر العصافير و البراعم من دماغي و ذاكرتي و لا يبقى أمامي و بين أحداقي الأ منضر الجوع مكشرا عن أنيابه الباردة التي أحسها تنغرس في قلبي و صبري دون رحمة، ثم يركبني الأرق و التوتر حتى أنطلق و الخوف ينخر ركبي وفاصلي باحثا عن من (يمون) عليه ليرفع يده عن خبزي، و بالتالي قدمه من خيالي، و حذائه من محبرتي، و كلابه من دفاتري، و سوطه من ضلوعي، وأن يتركني بحالي مع سخافاتي و أحلامي و شخير كلماتي ...، ثم تمضي العاصفة بطريقة أو بأخرى و غالبا ما تتركني وراءها منتوف الثياب والوجه و الأعصاب و المستقبل، لكن الأيام – الطبيب المعجزة – شيئا فشيئا تعيد الهدوء إلى حياتي و سريرتي، و ترمي ما مضى في مزبلة الذاكرة فأرضى بما لدي من حطام الحياة بما تبقى لدي من حطام الأمل ! و بما أن عديمي الضمير في الغالب هم أصحاب رؤوس الأموال أو الموكلين بها فأن (الظلم) صار لدى أمثالي من (عبيد الإقطاعية الحديثة)، الفصل الخامس لفصول السنة الأربعة ! بحيث أن عودة العصافير والبراعم الجميلة، إلى كلماتي و دفاتري و ذاكرتي يتزامن دائما مع رغبة أقطاعي أحمق في العبث بخبزي، فتطير العصافير و البراعم من جديد عائدة إلى غاباتها، و أهرع أنا و الأرق و التوتر يركبانني و الخوف ينخر ركبي و مفاصلي باحثا عمن (يمون) عليه ليرفع يده عن خبزي، و بالتالي قدمه من خيالي، و حذائه من محبرتي، و كلابه من دفاتري، و سوطه من ضلوعي... ... و هكذا و عاما بعد عام أصيبت عصافيري بالصرع و الهستيريا و الوسواس القهري و ذات الرئة و انقراص الفقرات و ألآلام المفاصل المزمن، نتيجة الرعب و الفزع المتكررين و الإقلاع و الهبوط ليلا نهارا ولا هدى، و أصيبت براعمي و ربيعي بالجفاف و فقر و سرطان الدم و بالبهاق و الثعلبة و الأكزيما و البلاهة المنغولية، و غزا كلامي و لغتي ما هب و دب من العاهات و الأمراض ابتدأ بالشلل النصفي و الحول و عمى الألوان و القولون و التهاب الأعصاب و فقدان الذاكرة و انتهاء بالسيلان القصري لللعاب من الفم و بالتبول اللاإرادي أثناء النوم و اليقظة، و أصيب خيالي بداء التوحد و الرجفة و الكساح و الطاعون و السعار و الضغط و السكري وأخيرا بالإيدز لتفكيره الطويل بالمخدرات ...!

و ها أنا في خريف شبابي و خريف أمنياتي، أركب كل مساء عتمتي و أنيني الدفين و دراجتي الهوائية مسرعا إلى مقهى (الضيافه) لأتأمل من فوق الرصيف السيارات المسرعة و نهايات النور في السماء المعتمة...فيا أيها الطغاة و الظالمون في كل مكان، أليكم صفقتي المسالمة و الأبدية:
سأرسل لكم و على الفور و بالبريد السريع كل ما لدي من أحذية و جوارب، ما يخصني منها و ما يخص زوجتي و أطفالي مع تعهد موقع حسب الأصول بأننا منذ الآن و حتى نموت لن نسير الأ حفاة ولو ذابت أقدامنا في الوحل أو فوق الإسفلت الحارق.

كما سأرسل لكم جميع ثيابي و ثياب زوجتي و أطفالي، و صورا فوتوغرافية نظهر فيها و نحن نغطي عوراتنا بأوراق التين مع تعهد موقع حسب الأصول بأننا سنظل عراة إلى الأبد، كما سنوصي بدفننا بلا أكفان!.

و سأرسل لكم تنازلا رسميا مختوما من كل سياط الشرق ذات السيادة، نتنازل لكم فيه:
 عن حصتنا من نور الشمس و ضوء القمر و الأحلام الجميلة و السماء و الأرصفة و الحدائق العامة و العتبات و حاويات القمامة و كل ملليمتر مخصص لنا في أية دائرة حكومية.
 عن أماكننا في الحافلات و المستشفيات و المقاهي و المدارس و الجامعات و المراحيض العامة و دور السينما و قاعات الانتظار.
 عن مخصصاتنا من الحب و السعادة و الأفق و الشروق و الغروب و النكات و القهقهات و الأحلام و الصفير و التجشؤ و حلوى و كعك العيد و ما يرتبط بهما من مصافحات و تمنيات لنا بالتوفيق و الحظ السعيد.

كما سأرسل لكم في نهاية كل عام جردا أصوليا و كشوفا تفصيلية بعدد المرات التي تغوطنا بها و عدد المرات التي مارسنا الجنس بها، و عدد ساعات بكائنا و تسكعنا و سهرنا و نومنا و حنيننا، و عدد آهاتنا و تنهداتنا و نظراتنا الخائنة التي تكشف ألآلامنا الدفينة، و في نهاية هذه الكشوف رجاءنا الحار بالتوجيه إذا كان لديكم حمية ما تريدوننا إن نباشر العمل بها ... و مقابل كل هذا أتركوا لنا فقط سنابل القمح التي تنبت على استحياء على شرفات بيوتنا الضيقة و بين أصابع أطفالنا الصغيرة.

أعطني خبزي لأكتب

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى