الجمعة ١٠ كانون الثاني (يناير) ٢٠٢٥
بقلم محمد عبد الحليم غنيم

الضيف

بقلم : أمبارو دافيلا

لن أنسى اليوم الذي جاء فيه ليعيش معنا. جلبه زوجي عند عودته من رحلة.

كنا قد مررنا حينها بحوالي ثلاث سنوات من الزواج، وكان لدينا طفلان، ولم أكن سعيدة. كنت بالنسبة لزوجي أشبه بالأثاث، الذي يعتاد الإنسان على رؤيته في مكان معين، ولكن لا يثير أي انطباع. كنا نعيش في قرية صغيرة، معزولة وبعيدة عن المدينة. كانت قرية شبه ميتة أو على وشك الاختفاء.

لم أستطع كبح صرخة من الرعب عندما رأيته للمرة الأولى. كان مظلمًا، شؤمًا. بعيون كبيرة مصفرّة، شبه دائرية وبدون رمش، كانت تبدو وكأنها تخترق الأشياء والناس.
تحولت حياتي التعيسة إلى جحيم. في نفس الليلة التي وصل فيها، تضرعت إلى زوجي ألا يحكم عليَّ بعذاب رفقته. لم أستطع تحمله؛ كان يثير فيَّ عدم الثقة والرعب. "إنه غير ضار على الإطلاق"، قال زوجي وهو ينظر إليَّ باستخفاف واضح. "ستعتادين على صحبته، وإذا لم تتمكني من ذلك..." لم يكن هناك أي وسيلة لإقناعه بأن يأخذه بعيدًا. فبقي في منزلنا.

لم أكن الوحيدة التي تعاني من وجوده. الجميع في البيت — أولادي، المرأة التي تساعدني في الأعمال المنزلية، وابنها الصغير — كنا نشعر بالرعب منه. فقط زوجي كان يستمتع بوجوده هناك.

منذ اليوم الأول، خصص زوجي له غرفة في الزاوية. كانت غرفة كبيرة، لكنها رطبة ومظلمة. وبسبب هذه العيوب، لم أكن أستخدمها أبدًا. ومع ذلك، بدا وكأنه سعيد بالغرفة. وبما أنها كانت مظلمة إلى حد ما، كانت تناسب احتياجاته. كان ينام حتى حلول الظلام ولم أعلم أبدًا في أي ساعة كان يخلد إلى النوم.

فقدت القليل من السلام الذي كنت أتمتع به في المنزل الكبير. خلال النهار، كان كل شيء يسير وكأنه طبيعي ظاهريًا. كنت أستيقظ دائمًا في وقت مبكر جدًا، ألبس الأطفال الذين كانوا قد استيقظوا بالفعل، أقدم لهم الإفطار وأشغلهم بينما كانت غوادالوبي ترتب المنزل وتخرج لشراء المستلزمات.

كان المنزل كبيرًا جدًا، مع حديقة في المنتصف والغرف موزعة حولها. بين الغرف والحديقة كانت هناك ممرات تحمي الغرف من شدة الأمطار والرياح التي كانت شائعة. كان ترتيب منزل بهذا الحجم والعناية بالحديقة، التي كانت شغلًا يوميًا لي في الصباح، مهمة شاقة. لكنني كنت أحب حديقتي. كانت الممرات مغطاة بالكروم التي كانت تزهر طوال معظم العام. أتذكر كم كنت أحب، في فترة بعد الظهر، أن أجلس في أحد تلك الممرات وأخيط ملابس الأطفال، بين عطر الياسمين والبوجنفيل.

في الحديقة كنت أزرع الأقحوان، والبنسات، والبنفسج الألبي، والبيغونيا، والهيليوتروبا. بينما كنت أسقي النباتات، كان الأطفال يقضون وقتهم في البحث عن الديدان بين الأوراق. أحيانًا كانوا يقضون ساعات، صامتين ومنتبهين جدًا، يحاولون التقاط قطرات الماء التي كانت تتساقط من الخرطوم القديم. لم أكن أستطيع أن أتوقف عن النظر بين الحين والآخر نحو غرفة الزاوية. على الرغم من أنه كان ينام طوال اليوم، لم أستطع أن أثق به.

كان هناك العديد من المرات التي كنت فيها أعد الطعام وأرى فجأة ظله ينعكس على موقد الحطب. كنت أشعر به خلفي... كنت أرمي ما في يدي على الأرض وأركض خارج المطبخ، أصرخ مثل المجنونة. ثم كان يعود إلى غرفته وكأن شيئًا لم يحدث.

أعتقد أنه كان يجهل تمامًا وجود جوادالوبي، فلم يكن يقترب منها أو يلاحقها. لكن الوضع كان مختلفًا مع الأطفال ومعي. كان يكرههم، وكان يراقبني دائمًا.

كلما خرج من غرفته، كان يبدأ أسوأ كابوس يمكن أن يعيشه إنسان. كان يقف في جناح صغير أمام باب غرفتي، ولا أجرؤ على الخروج بعدها أبدًا. في بعض الأحيان، وعندما كنت أظن أنه لا يزال نائمًا، كنت أذهب إلى المطبخ لتحضير عشاء الأطفال. وفجأة، أكتشفه في زاوية مظلمة من الردهة، مختبئًا تحت الكروم المتشابكة.

"ها هو، يا جوادالوبي!"

هكذا كنت أصرخ في يأس.

لم نكن أبدًا نذكر اسمه، لأنه كان يبدو أن ذكره يعيد ذلك الكائن المرعب إلى الوجود. كنا دائمًا نقول: "ها هو، خرج، هو نائم، هو، هو، هو..."

كان يتناول وجبتين فقط، واحدة عندما يستيقظ عند الغروب، وأخرى ربما في الفجر قبل أن يخلد إلى النوم. كانت غوادالوبي هي من تحمل له الصينية، وأستطيع أن أؤكد أنها كانت تلقيها في الغرفة بسرعة، لأن تلك المرأة المسكينة كانت تشاركنا نفس الرعب، بل ربما كان خوفها أعمق. كان طعامه لا يتجاوز اللحم، لم يكن يلمس غيره.

عندما كان الأطفال ينامون، كانت جوادالوبي تأتي إلي بالغداء إلى الغرفة. لم أستطع تركهم وحدهم، وأنا أعلم أنه قد استيقظ أو أنه على وشك الاستيقاظ. بعد أن تنتهي من مهامها، كانت جوادالوبي تذهب مع صغيرها للنوم، بينما كنت أبقى وحدي، أتأمل في نوم أطفالي. بما أن باب غرفتي كان يبقى مفتوحًا دائمًا، لم أجرؤ على النوم، خوفًا من أنه في أي لحظة قد يدخل ويهاجمنا. ولم يكن ممكنًا غلق الباب؛ لأن زوجي كان يعود دائمًا متأخرًا، وإذا لم يجده مفتوحًا، كان سيعتقد... وكان يعود في وقت متأخر جدًا. قال مرة إنه كان مشغولًا جدًا في عمله. وأعتقد أن هناك أشياء أخرى كانت تشغله أيضًا...

في إحدى الليالي، بقيت مستيقظة حتى قرب الساعة الثانية صباحًا، أسمعه في الخارج... وعندما استيقظت، وجدته بجانب سريري، يحدق فيَّ بنظراته الثاقبة والعميقة... قفزت من السرير وألقيت عليه مصباح البنزين الذي كنت أتركه مشتعلاً طوال الليل. لم يكن هناك كهرباء في تلك القرية، ولم أكن لأتحمل البقاء في الظلام، وأنا أعلم أنني في أي لحظة قد... نجا من الضربة وخرج من الغرفة. تحطم المصباح على الأرضية الطينية، واشتعل البنزين بسرعة. لولا تدخل جوادالوبي التي هرعت استجابة لصراخي، لكان قد احترق البيت كله.

لم يكن لدى زوجي وقت للاستماع إلي، ولم يكن يعنيه ما يحدث في المنزل. كنا نتبادل الحديث فقط عن الأمور الضرورية. منذ وقت طويل، نفد الود بيننا واندثرت الكلمات.

أشعر بالغثيان كلما تذكرت تلك اللحظة... كانت غوادالوبي قد خرجت للتسوق وتركت الطفل الصغير مارتين نائمًا في صندوق صغير اعتادت أن تضجعه فيه خلال النهار. ذهبت للاطمئنان عليه عدة مرات، وكان ينام بهدوء. كان الوقت يقترب من الظهيرة. كنت أسرّح شعر أطفالي حين سمعت بكاء الطفل مختلطًا بأصوات غريبة وصراخ مروّع. هرعت إلى الغرفة لأجده يضرب الطفل الصغير بوحشية وقسوة.

لا أستطيع أن أشرح كيف نجحت في انتزاع الطفل من بين يديه وكيف أمسكت عصا كانت قريبة مني وهاجمته بكل الغضب المكبوت في داخلي منذ فترة طويلة. لا أعلم إن كنت قد تسببت له بأذى كبير، فقد انهرت فاقدة الوعي. عندما عادت غوادالوبي من السوق، وجدتني مغشيًا عليّ وطفلها مغطى بالكدمات والجروح النازفة. كان الألم والغضب الذي شعرت بهما لا يوصفان.

لحسن الحظ، نجا الطفل واستعاد عافيته سريعًا.

خشيت أن تهجرني غوادالوبي وتتركني وحيدة في ذلك الجحيم. لكن وفاءها وشجاعتها كانا أقوى من كل خوف، فقد كانت امرأة نبيلة، تحمل في قلبها مودة عميقة لي ولأطفالي. غير أن ما حدث ذلك اليوم أشعل في قلبها نيران كراهية لا تهدأ، تطلب الانتقام العاجل.

عندما رويت لزوجي ما جرى، وطلبت منه أن يأخذه بعيدًا، مؤكدة أنه قد يقتل أطفالنا كما كاد أن يفعل مع مارتين. لكنه واجهني ببرود قاتل:

— لقد أصبحتِ أكثر هستيرية كل يوم، إنه لأمر مؤلم ومخزٍ أن أراكِ في هذه الحالة. لقد قلت لكِ مرارًا وتكرارًا إنه كائن غير مؤذٍ.

في تلك اللحظة، فكرت في الهرب، بعيدًا عن البيت، عن زوجي... وعن ذلك الوحش. لكنني كنت مكبّلة بالفقر والعزلة. لم يكن هناك مال، ولا وسيلة للهروب. بلا أصدقاء ولا أقارب ألجأ إليهم، شعرت وكأنني طفلة يتيمة ألقيت في بحر مظلم بلا ضفاف.

أما أطفالي، فقد تسلل الرعب إلى أعماقهم. لم يعودوا يجرؤون على اللعب في الحديقة، وأصبحوا يلتصقون بي كظلي. وعندما كانت جوادالوبي تخرج إلى السوق، كنت أغلق الباب علينا بإحكام، محصنة نفسي وأطفالي داخل الغرفة.

ذات يوم، قلت لغوادالوبي بصوت متهدج:
لا يمكن أن تستمر هذه الحال.

نظرت إليّ بحزم وقالت:

 علينا أن نفعل شيئًا، وبسرعة.

سألتها بيأس:

 ولكن ماذا يمكننا أن نفعل ونحن وحدنا؟

ابتسمت ابتسامة مليئة بالغموض وقالت:

 نعم، نحن وحدنا... ولكن معنا كراهية تغلي.

رأيت في عينيها بريقًا غريبًا، مزيجًا من الغضب والعزم. شعرت بالخوف يزحف داخلي... لكن، للمرة الأولى، شعرت أيضًا ببصيص أمل ينبض في الظلام.

لقد جاءت الفرصة حينما كنا في أشد الحاجة إليها، وعندما لم نتوقعها على الإطلاق . غادر زوجي إلى المدينة لقضاء بعض الأعمال. أخبرني أن الأمر سيستغرق حوالي عشرين يومًا للعودة.

لا أعلم إذا كان قد علم أن زوجي قد رحل، لكن في ذلك اليوم استيقظ قبل الموعد المعتاد ووقف أمام غرفتي. نامت جوادالوبي وطفلها في غرفتي، وأخيرًا تمكنت من إغلاق الباب.

قضيت جوادالوبي معظم الليل ونحن نضع الخطط. كان الأطفال نائمين في هدوء. بين الحين والآخر كنا نسمع خطواته تقترب من الباب ثم يضربه بغضب...

في اليوم التالي، قدمنا الإفطار للأطفال الثلاثة، ولتكون الأمور أكثر هدوءًا ولكي لا يفسدوا خطتنا، حبسناهم في غرفتي. كان لدينا الكثير من الأمور التي يجب إنجازها وكان هناك عجلة كبيرة لإنجازها، لدرجة أننا لم نتمكن من تضييع الوقت حتى في تناول الطعام.

قطعت جوادالوبي العديد من الألواح الكبيرة والمتينة، بينما كنت أبحث عن المطرقة والمسامير. وعندما تمَّ تجهيز كل شيء، توجهنا بصمت نحو الغرفة في الزاوية. كانت أبوابها نصف مفتوحة. ونحن نحبس أنفاسنا، خفضنا الأقفال، ثم أغلقنا الباب بالمفتاح وبدأنا في تثبيت الألواح حتى أُغلق تمامًا. أثناء عملنا، كانت قطرات العرق الثقيلة تنساب على جباهنا. لم يُسمع أي صوت منه في ذلك الحين، كان يبدو وكأنه غارق في نوم عميق. وعندما انتهينا من كل شيء، عانقنا بعضنا البعض، نحن و جوادالوبي ، والدموع تملأ أعيننا.

كانت الأيام التالية مرعبة. عاش العديد من الأيام بلا هواء، بلا ضوء، بلا طعام... في البداية كان يضرب الباب، ويرتطم به، ويصرخ بشكل يائس، ويخدش... لم نستطع أنا و جوادالوبي أن نأكل أو ننام، كانت الصرخات مروعة... في بعض الأحيان كنا نعتقد أن زوجي سيعود قبل أن يموت. إذا وجده هكذا...! كانت مقاومته كبيرة، أعتقد أنه عاش ما يقارب الأسبوعين... في يوم ما، لم يُسمع أي صوت. ولا حتى أنين... ومع ذلك، انتظرنا يومين آخرين قبل أن نفتح الغرفة. عندما عاد زوجي، استقبلناه بخبر موته المفاجئ والمربك.

(تمت)

الكاتبة : أمبارو دافِيلا/ وُلدت في عام 1928 في زاناتيكيتا، المكسيك. كانت روائية وشاعرة وكاتبة، ولها إسهام كبير في بلدها، حيث كانت رائدة في إنتاج القصص التي تمزج بين الخيال والغرابة. تبرز هذه الخصيصة نفسها أهمية الكاتبة في المجال الأدبي، خصوصًا من خلال تقديمها لأسلوب فريد يدفع القارئ للتنقل بين الواقع والخيال. من بين الجوائز التي حصلت عليها، جائزة خافيير فيلاروتيا في عام 1977 عن مجموعتها القصصية أشجار متحجرة التى أشهر أعمالها إلى جانب مجموعة الزمن المكسور (1959). وأما قصة الضيف فتعد واحدة من أشهر أعمالها أيضا، توفيت الكاتبة في 18 أبريل 2020 عن عمر يناهز 92 عامًا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى