الأربعاء ١٨ تموز (يوليو) ٢٠٠٧
بقلم زياد خداش

الطريق الى بيت الأم

مالذي يعنيه الهجوم على محمود درويش في ذهابه التاريخي الى حيفا؟ اكتب كلمة الهجوم واتهجى حروفها وأكاد اتمزق ألما، هل يهجم الانسان على فراء معطفه في عز الثلج؟ هكذا اتصورهم: كأشخاص غريبي الاطوار انفعلوا فجأة وطعنوا بطونهم، لان الطقس حار جدا مثلا، هكذا اتصورهم، هكذا اراه: رجل مسافر، طويل القامة يعود الى بيته بعد غربة طويلة بصحبة صديق غامق و هاديء اسمه الحنين، فجأة يعترضه اشخاص متوترون، " كيف تعود الى البيت مارا علن الحاجز الاسرائيلي،؟ هل انت مجنون؟؟، يجيبهم المسافر طويل الحزن والقامة بينما الكائن < الحنين > بجانبه يبتسم :

ليس هناك من طريق آخر، اشتقت الى صوت امي وهي تهش عن وجهي كوابيس الليل، رد المتوترون : عليك ان تبحث عن طريق آخر عبر الجبل، العودة الى البيت عبر الحاجز خيانة للوطن واستهار بدماء الشهداء وقوافل المنفيين، يجلس الرجل طويل القامة على حجر قديم يعرفه جيدا، فهو نفس الحجر الذي جلس عليه وهو ينتظر حبيبته الصغيرة، يجلس قبالته صديقه الحنين، يتفحص في ذهنه العميق والرشيق مفردات: الوطن، منفيين، دماء، خيانة، شهداء، يحزن الرجل الجميل، يحزن لدرجة ان قميصه الصيفي الواسع قد ارتج على بدنه النحيل، فهذه الكلمات التي قالها المعترضون على ذهابه الى امه، هي نفسها التي ابتكرها قبل عشرات السنين، هو علمهم نطقها ودربهم على فهمها ، ها هم يلثغون بها امامه، ويستخدمونها ضده، الحنين الغامق يواصل الابتسام ، يمد يده للرجل الطويل، ينهضان معا مثل نورسين تائهين في فضاء محجوز، يمضيان في طريقهما الى بيت الام غير عابئين بحجارة المعترضين، ماذا تعني هذه الحجارة؟ ومن هم هؤلاء؟ وهل هناك طريق عبر الجبل كما قالوا، هل هناك جبل اصلا، فقد نزل الرماة عن الجبل واضاعوا فرصة للنصر النهائي، اما زال هؤلاء اسرى وهم الجبل الكبير الذي سيطروا عليه ذات تاريخ؟. اكاد اشك ان هؤلاء المعترضين قرؤوا شعرك يا محمود، اكاد اجزم انهم تعاملوا معك كظاهرة ونجم وليس كشاعر ورائي ومفجر اسئلة وحارس حديقة الروح وحقيقتها، من يقرأ شعرك جيدا يعرف ان الطريق الى بيت الأم معبد بالألم صحيح لكنه ممهور ايضا بالرقص، من يقرأ شعرك جيدا يا صديق النبات والتلاميذ، يعرف جيدا ان الله العظيم وهبنا اياك لاننا بلا بتراء وبلا اهرامات وبلا دولة وبلا جيش وبلا سور الصين وبلا قادة، وبلا هوية وبلا نفط وبلا دانتي ، هل سأنسى يوما سؤال المحقق الاسرائيلي لي اثناء استجواب سريع وهاديء لي قبل خمسة عشرين عاما بالضبط: نحن لدينا قلعة مسادا، ماذا لديكم : قوى غامضة و جبارة في داخل جسد فتي صغير وجائع، اجابت عني بما يشبه الانفجارة: <عندنا محمود درويش>، ما زلت اذكر وجهه القاسي وهو يسترخي على كرسيه ويردد بصوت منخفض وثابت: محمود درويش محمود درويش محمود درويش، ولم افهم حتى الان لماذا كرر الاسم ، صرفني بهدوء، وهو يقول للحراس: أعطوه معطفه، واطلقوا سراحه، حتى هذه اللحظة ما زلت اربط بين اطلاق سراحي من تهمة رشق حجارة وبين تلفظي باسم درويش امام المحقق ، وظللت اقول لاصدقائي ولنفسي : لقد هزمته بمحمود، ونصحت اصدقائي بأن يتلفظوا باسم محمود درويش امام المحققين، فهو يشبه ضوءا تسدده لكتلة ظلام نتنة مريضة تتبجح بالبطولة والسيادة والتفوق. كم اشعر بالألم لاني اجد نفسي مضطرا للدفاع عن زرقة السماء امام مرضى الوان، ما زالوا يعتقدون ان السماء صفراء وان صورتهم وصورة حزبهم وقصائدهم محفورة في صفحة السماء وان على الجميع ان يرونها كما رأى الناس صورة صدام حسين في وجه السماء، كم احس بالحزن لاني امسك نفسي متلبسا بتوضيح سبب حبي لامي لاشخاص من بلادي لا يفهمون معنى حب الامهات ،! مالذي يمكن ان نجده من اعذار لاؤلئك الذين اعترضوا طريق الرجل؟ غير انهم انهم يمثلون خير تمثيل وبوفاء نادر ظلمات تاريخنا العربي وهي تمتد وتتواصل عبر جملة واحد هي: كراهية الجمال وتخريب الروعة وتسميم البئر، معترضو الطريق حزبيون ضيقون، يكتبون بفرح الشعر والقصص بروح البيانات والتعميمات ، يحبون فلسطين عبر اغنية اسمها الحزب، يحتفلون بذكرى الشهداء وعيونهم على مقبرة واحدة، تبا لهم من ظلال للمرض واتباع لديانة الدمامة.

يجلس الرجل طويل الحزن والقامة مع صديقه الحنين بانتظار خطوات الام التي ابلغت قبل قليل بوصول الابن، يتمتم الابن لصديقه : الان عرفت ان الام اجمل من الطريق اليها، يبتسم الصديق الطيب. يخرج مفكرته ويكتب : الام اجمل من الطريق، الام اجمل من الطريق.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى