العناصر القصصيّة في ديوان الصادح والباغم
مخلص :
الشعر القصصي نوع من أنواع الشعر الغنايي و التمثيلي و القصصي .
لهذا الشعر سابقة قديمة في الاغريق و هو يشتمل علی بطولات الحرب و السلام .
وأمّا في العصر العباسي ، خاصّة العصر العباسي الثالث ، نشاهد لوناً جديداً من الشعر القصصي ، متمرکزاً علی ديوان الصادح و الباغم لابن الهباريّة ، الذي نظم هذا الديوان علی ثلاثة أبوابٍ مسيطراً عليه البنية الرمزيّة .
ابن الهباريّة يعتبر من الناظمين الشعر لأهداف خلقيّة و اجتماعيّة ، الذي يراعي في هذا الاثر العناصر القصصيّة لجذب القاری و انتباهة إلی ما يهدف الشاعر .
في هذا المقال نتطرّق إلی دراسة هذه العناصر و تحليلها .
الکلمات الرئيسيّة :
الشعر القصصي ، الصادح و الباغم ، الرمز .
مقدّمة :
من المعروف أنه يوجد عند الغربيين منذ اليونان أنواع مختلفة من الشعر يردّها نقادهم إلی أربعة أضرب : الشعر القصصي ، الشعر التعليمي ، الشعر الغنايي ، الشعر التمثيلي . يمتاز الضرب الأول بأنّ قصائده طويلة فالقصيدة منه تمتدّ إلی آلاف الأبيات و تتوالی فيها حلقات من الأحداث تنعقد حول بطل کبير و قد يوجد بجانبه أبطال و لکن أدوارهم ثانوية و هي في الحقيقة قصة إلا أنّها کتب شعراً . فالتسلسل القصصي فيها دقيق و الإنتقال بين أجزائها منطقي محکم و هي قصة تفسح للخيال مجالاً واسعاً و الشاعر في هذا الضرب القصصي لا يتحدث عن عواطفه و أهوائه فهو شاعر موضوعي ينکر نفسه و يتحدث في قصّة عن بطل و يتعمد علی خياله مستمداً في أثناء ذلک من تاريخ قومه و کل ماله ، إنّه يخلق القصّة و ترتـّب لها الأشخاص و الأشياء و يکوّن من ذلک قصيدة و عادة ينظمها من وزن واحد لايخرج عنه . (شوقی ضيف ، لاتا ، 189) .
و هنـا جديـر بالذکر أنّ أرسطـو في کتابه " بوطيقـا " قسّم الأدب إلی قسمين : القصص الشعريّة ( Epos ) و الآثار المسرحيّة ( Derama ) . ( محمود فلکی ، 1382 ، 17 ) .
قبل أن نمضي أکثر من ذلک في بحثنا ينبغی أن نتوقف قليلاً عنه مصطلحنا العربي الذي أخذناه في العصر الحديث للدلالة علی هذا الضرب من الشعر. إن کلمة " ملمحة " لفظة عربيّة قديمة کانت تعني موقعة حربيّة تلتحم فيها الجيوش أو يتناثر فيها اللحم ، کما يفهم من المعاجم اللغويّة . فکلمة " ملحمة " العربيّة أستخدمت کمعادلاً لکلمة " Epic " و قد غلب علی فهم کثير من دارسي الأدب العربي المتحدثين أن الشعر الملحمي يتعلـّق بسير أبطال الحروب و ذکر الوقائع الحربيّة و إنّ بطولة الميدان هي الموضوع الغالب علی هذا الشعر فلهذا؛ إختلط مفهومه لدی بعض العرب بمفهوم الشعر الحماسي ، لکن الشيء الذي يجب ألا نغفل عنه من بداية البحث ، هو أن هذا التصور خاطئٌ، فالشعر الملحمي شعر قصصي يتناول بأسلوب روايي موضوع البطولة سواء أکانت بطولة الحرب أم بطولة السلام (محمد عبدالسلام کفايی ، 1971 ، 124 ) .
لأنّ تراث الإغريق القدماء لم يقتصر في الفن الملحمي علی ملاحم هوميروس فحسب بل أن الأدب اليونانی يشتمل لوناً آخر من الملاحم هو أنّ ذلک اللون التعليمي مثلّ في ملحمة " الأعمال و الأيّام " لهسيود ، يصف الشاعر فيه سقوط الإنسان و يصوّر ذلک بحديث بين " صقر و بلبل " حيث يذکر الصقر الجارح لبلبل أن الضعيف الذي يأسی لما ينعم به القوي ليس سوی احمق، فالقوة هي التي تفرض الحق ( نفس المصدر ، 239 ) .
فأن نظرنا في الأدب العربي نجد ملاحم ذا لون تعليمي شاعت في العهد العباسي کـَ " کليلة و دمنة " . التي تتمحور علی سرد القصص علی لسان الحيوان و يستخدم فن القصّة کوسيلة للموعظة و العبرة تارة و لالتسلية و الإمتاع أو الهدف التربوي و الأخلاقي تارة أخری .
و الآن نتطرق بلون جديد من القصّة نراه ـ کما قلنا ـ في العصر العباسي الثالث علی يد الشاعر البغدادي المعروف بابن الهباريّة (504 أو 509 هـ ) . لهذا الشاعر کتاب " ديوان الصادح و الباغم " قد نظمه علی أسلوب " کليلة و دمنة " ، ينضمّم أراجيز عدد أبياتها ألفاً بيت نظم فی عشر سنين و أجاد فيه و لهذا الکتاب صبغة أخلاقيّة يبيّن ابن الهباريّة من خلاله أفکاره و تجاربه فی بنية القصّة الرمزيّة . و يلتفت الأنظار نحوه للعاملين الرئيسيين :
1 - إنعکست فيه التعاملات الإجتماعيّة و ضعف الأخلاقي عند الناس فی تلک البيئة .
2 - يبـيّن هذا الکتاب الأخلاق السياسي الذي قد سيطر علی المجتمع آنذاک .
قسّم الشاعر منظومته هذه إلی ثلاثة أبواب هي : 1 - باب الناسک و الفاتک . 2 - باب البيان و مفاخرة الحيوان . 3 - باب الأدب .
و کلّ منها يتضمّن قصصاً أو فصولاً مثل قصّة " الناسک و اللص الفاتک " و قصّة " البعير و الجمال " من الباب الأول . و قصّة " إمرأة الراعي " ، "عامر و مارح " و " حديث الأسدين" ، " زوجة البيطار " من الباب الثاني . و مثل " فصل في الدنيا " ، " فصل في واجبات السلطان " ، " فصل في اجتناب المال " ، " فصل في مداراة الناس " وکلـّها من الباب الثالث . و هذه الأبواب و القصص متصل بعضها ببعض ممدّ آخرها لتاليها من طريق کلمة أو سؤال يطلب فيه سرد القصّة التالية . ( عزيزة مريدن ، 1984 ، 43 ) .
و نضرب مثلاً علی ذلک نهاية " حديث الأسدين " إذ تنتهي القصّة بقوله :
و عـاجز من ترک الموجـودا حمـاقـة و طلب المفـقـــودا
فـيفـتدی کـزوجـة البيطــار إذ کـلفـت بالتـاجر المکثـــار
(الديوان ، 1936 ، صص 39 - 40 ) .
و يبدأ بقصّة زوجة البيطار التي تنتهي بقوله :
فـإن من يغـدر غير ناظـر
في أمـره يکـون مثل جابـر
( نفس المصدر ، 42 ) .
و هنا تبدأ قصّة جابر بسؤال هذه المرّة :
قلت و من جابـر قال رجل
من مـازن قصّـته لا تجهــل
( نفس المصدر ، 42 ) .
و علی هذا النحو تسلسل أبيات هذه المنظومة و حکاياتها المتداخلة ، يمهدّ ابن الهباريّة القصّة الأولی " الناسک و الفاتک " بأبيات تتضمّن حواراً بين شيخ هندی و کهل فارسی ، يفخر کل منهما بقومه و يشتدّ بينهما التفاخر و لکنـّه قبل أن تطرّق إلی القصّة ، قد صوّر للقارئ تصويراً قريباً بالواقع و رسّم الأجواء التي طرأ فيها هذا الحوار عندما يتّصف الليل المظلم و حالاته النفسيّة فيه :
اعتکـر الليل و زادت حيـرتي في جنحه و جوعتي و خيفتــيو لم أجد فی الحزم غير المکث في موضعي خوف التوی و اللبّثو قلت إن سرت بغير هـــادی وصلــت في أضواج هذا الـواديوضننت مـن سبـاعـة جنـــّة و لم أبــل مـن سهــله و حـزنهثم هجمت في مکــاني جاثماً و کنت فــي ذلک الهجوم حازماًو لـــم أزل أنظـر في النواحي وأرهب الجــرس مــن الريــاححتی بدا شخص فحـدقت النظر و لـــم أکـد أثبتـــه مـن الحذر( الديوان ، 12 ) .
ثم يقوم بالجدال بين الهندی و الفرس الذي يختم بکتاب " کليلة و دمنة " و تحسين قصصه بعد أن يشير في أبيات قليلة الإشارات التاريخيّة :
و لم يحارب عن بنی ذبيانفي طرأ بالنفـس و الحصـان( نفس المصدر ، 17 ) .أو يشير إلی مأمون :کذالک المأمون في تدبيره نال المنی في البعد من سريره( الديوان ، 20 ) .مثـل بويـه لمـا أنقضت أيّامهم و ما اصطلحوا حتی مضت( نفس المصور ، 20 ) .و تارة يأتي بالأمثال و الحکم في خلال هذا الحوار :عند تمام البدر يبدو نقصه وربّـما ضر الحريص حرصه( نفس المصدر ، 16 ) .فإنـّما الرجال بالإخوان واليــد بالساعـد و البنــان( نفس المصدر ، 18 ) .
فإذن نلخـّص القصّة الأولی " الناسک و الفاتک " يقول : " خرجت للتجارة و معنا جماعة ولکلّ منها بضاعة و بيتا ناسک تقیّ حتی إذ اجدّ بنا السير أمرنا بالصلاة ، فلامه أصحابه و قالوا له : إنّ الجمع مرخص للرکـّب و هذا طريق مجهول لا تأمن فيه الليث و الغول فخالفهم جميعاً و نزل عن راحلته للصلاة و بينا هو واقف يصلـّی إذ أتاه آتٍ و سلـّم عليه .
ثم قال : مالک يا شيخ و لهذا المکان الخالی ؟ و ماذا تصنع هنا ؟ فلم يلتف الشيخ إلی کلامه لأنه کان مشغولاً بصلاة و لمّا انتهي منها قال بغلظة : عمّ تسأل أيّها الرجل ؟! أ أنت کافر فتنکر علی دينی ؟ فأجابه : فهيّا قل لي ، ما تفعله أيّها الرجل .
فقال الناسک : أمجنون أنت ، ألست تدري أن هذه هي الصلاة المفروضة علی الناس ؟ ثم أخذ يشرح له أمور الشرع و الدين فتظاهر الرجل بأنه أضحی الآن يعرف ربّه ثم إنطرح علی الأرض لينخدع الناسک و يلهيه حتی يفوته الوقت فلا يلحق بالرکب .
و فطن الناسک لمّا أراد فراح یکيده و أخذ يظهر التوجع و يقول : واحسرتا لهذا الفتی الذي لم يعرف ربّه إلا الآن . لو أنه عاش لکان ولدی الذي أعتمد عليه و لکنت زوجته إبنتي الحسناء و ليس لي ولد سوا هذه النيّة ، فأنا شيخ لا عمّ لي و لا خال .
فهم الفاتک قصد الناسک و امعن في حيلته و تهالکه و لم يفق من سکوته و أتقن الناسک أن حيلته لا يؤثر فقام ينادی أصحابه قد خيّم علی الليل . قائلا : لقد مات إنسان هنا فعودوا لتشهدوا جهازه و دفنه . و سمع الفاتک قول الناسک فهبّ من صرعته محاولا أن يغالبه و قال : إسمع مني ما أقول و أرحمني فإننـّي شيخ ضعيف و ليس من عادتي العراک . وإذ قتلتني فليس لک سوی العار و النـّار . و هنا يجری بينهما حوارٌ الذي يلمح في أثناه الإشارات التاريخيّة و يستطرد لذکر قصّة " الظليم و الصياد " و هي تدور حول إتخاذ حيلة و المخادعة وسيلة للنجاة من المآزق.
يقول ابن الهباريّة بعد أن أتمّ الفاتک قصّة " الظليم و الصياد " قال الشيخ : ماذا تريد من قتلي و ليس لدیّ سوی ثيابي . فإن کففت من إذاتي أعطيتک المفروض من زکاتي و هذا خيرٌ لک فی الدّارين من قتلي . فانخدع اللص الفاتک بقول الشيخ فخلف الناسک في وعده . و إنصرف مع اللص . حتی إذا لحقا بالرکب قال الشيخ لأصحابه : أثقوه جيداً فإنّه لص خبيث. ففعلوا . قال اللص : إن حديثک ينتشر بين الناس بأنـّک عذرت بي و خدعتني و هذا قبيح لک . فقال له : تـُب مخلصاً لله . فتاب اللص الفاتک . و قال الناسک بما قد تاب الآن فأجمعوا زکاة أموالکم و بادروا بإعطائها له . (عزيزة مريدن ، صص44 – 46 ) .
عندما دققنا النظر في القصّة نری هيکل عام لقصّة کاملة في حدثها و عرضها و عقدتها وحلـّها و ابن الهباريّة لا يقصد بها أن يقص علينا قصّة مجردة و لکنه يريد کما هو واضح أن يستخلص منها العبرة و الموعظة في مدی نجح الحیلة في التخلص من المآزق و المهالک و الموضوع في حد ذاته ليس له أهميّة کبيرة فهو أشبه ما يکون بحادثه تقع في کل زمان .
و لکن هذه القصّة تمتاز من بعض النواحي الفنيّة بنموّ الحدث فيها و تشابک عقدتها التي تساير بنمو الحدث في کل آن حتی يبلغ القاری قبيل النهاية إلی درجة من التشوق لمعرفة الحلّ النهايي کما فيها الحوار الحيّ و التصوير الداخلي للنفس البشريّة ( نفس المصدر ، 46).
في الباب الثاني " باب البيان و مفاخرة الحيوان " يسرد ابن الهباريّة القصص المتعددة و في بدايتها " قصّة التاجر " و قصّة " امرأة الراعي " .
إن نلاحظ في هاتين الأرجوزتين نجد نوعين متشابهين من الشخصيّة القصصيّة : أوّلها شخصيّة " دلال کذاب " في قصّة " التاجر " الذي يخدع التاجر بمکره و الثاني : شخصيّة " امرأة الراعي " التي يفکـّر حيلة أمام زوجها الذي لا يهتمّ بأسرته و يقضی أوقاته في الصحـراء مـع غنمـه . فکلتــا الشخصيّـتين تعتبـران مـن الشخصيّـات الوضعيّـة
( stock characters ) التي يکرّر في المسرحيّات و القصص و تظهر دوماً أمام عيون القارئ و لها ميزة بارزة التي يعرفها الناس بهذه الشيمة .
قد ظهر هذه النوع من الشخصيّة أوّل مرّة في مسرحيّات الإغريق ثم إنطلقت إلی سائر الأنواع الأدبيّة کشخصيّات تتجلی في القصص القديميّة نحو : الزوجة الشابـّة و خيانتها ببعلها الشيخ أو الإنسان البخيل و تمسّکه بماله . (ميرصادقي ، 1376 ،ص 99) .
يأتي ابن الهباريّة في هذا الباب قصّة أخری سمّاها " حديث الأسدين " و هذه القصّة تعتبر من القصص الرمزيّة التي یحکيها الشاعر لنا .
خلاصة القصّة : کان أسدٌ قويٌّ يعيش في غابة و هو يظلم و يجور علی الحيوانات التي تکون تابعيّه من السبع الأخری . و لا يجود عليهم و لا يدفع حقوقهم بل يأکل کل ما يصطاد و هم جائعون و عندما شکی أحد منهم فلا جدوی في شکايته ، فهذه الحيوانات تضمر الحقد و الإنتقام في نفوسهم . و من جانبٍ آخر ، في غابة أخری ، بعيد من هناک کان يعيش شبلٌ فقد أباه و قامت أمّه بتربيّة و تعليمه الأخلاق النبيلة من السخاوة و المحبّة و الصداقة و کذلک تعلـّمه فنون الصيد و الشجاعة حتی شابّ الشبل و ملک قلوب الأخرين بالمحبّة و الجود . لم يلبث شيئاً حتی غزاه الأسد القوي الظالم بجيشه العظيم فخاف الأسد الشاب من کثرة جيش الليث و عزم ألا يغزو معه و لکن أصدقاؤه - التي تتکوّن جيشه القليل – شوّقوه للحرب ، قائلة له : هناک في جماعتنا القليلة شئء لا يوجد في جيشه العظيم و هو الحب و الصداقة و الوفاء . فاشتعل الحرب بينهم و لکن جيش الليث لا يدافع عن قائدهم البخيل و لا يفون بعهودهم فهرب بعضهم أو سلـّم . ففاز الأسد الشاب بقوّة الحب و الصداقة و السخاء .
في بداية هذه القصّة يستطيع الشاعر أن يرسم الأجواء القصصيّة بصورة جيّدة .
خاصّة جوّأ يتولـّد و ينمو فيه الشبل :
و في زرود شبل ليث في أجم لا يدفع الخصم إذا الخصم هجممات أبوه و هو طفـل يـرضع لکـــن لـه جند قليــــل طبعکـان أبـــوه لهـــم يراعـي و الحــظ مـن مکـارم الطبـاعثـم أقامـــت أمّـه ترضعــه و تطعـــم الجنـد الذي تبعــهتصطاد ما تصـطاده لعجــزها ثـــم تجيّـــع نفسهــا لعزّهـاتطوی فلا تـــذوقه و تطعمه جميـــع مـن تصحبــه و تلزمه( الديوان ، صص38 - 39 ) .
کما أشرنـا سابقـاً أن هـذه القصّة تعتبـر قصّة رمزيّـة و شخصيّاتهـا تکـون رمزيّـة
( symbolical character ) يعرض نفسه للقارئ و إضافة علی ذلک يعرض شيئاً آخر و هو مفهوم يقصده الکاتب من سرد هذه القصّة مثلا في هذه القصّة ، هذين الأسدين يظهران للقاری کيفيّة محسوسة عينيّة للمفهومين - الجود و البخل – فهذه هي فائدة القصّة الرمزيّة لأنّها علاوة علی سرد القصّة و إتيان الشخصيّات ، يحکی للقارئ قصّة مستورة وراء هذه هذه الظواهر إذ تستهدف غاية تعلميّة و يستفيد من القصّة کمنبر للعبرة و الموعظة کما نشاهد في أکثر قصص الحيوان و هنا الأسد الظالم الذي لا يراعي حقوق الآخرين هو يرمز إلی إنسان قويٍّ يستفيد من نفوذه و قدرته إستفادة سوءأ کما يرسم الشاعر لنا الشبل الذي شاب في ظلّ أمّه الحنون التي تعلـّم ولده السخاء و المحبّة و الصداقة و هو رمز لإنسان جوادٍ يستطيع أن يملک القلوب بصداقة و مکارم الأخلاق کما نری في نهاية القصّة النجاح للأسد الشاب الذي ليس عنده جيش عظيم و لکن الوفاء الذي يوجد بين هذه الفئة القليلة يؤدّي إلی فوزهم أمام الأسد القويّ .
من المستطاع أن ندّعي لعلّ ابن الهباريّة يلمح إلی الملوک الظالمين و أراد نصيحتهم و تعليمهم الأخلاق و الآداب الملوکيّة بإتیان هذه القصّة لأنّ بعض الباحثين يعتقدون أن نشأة قصص الحيوان ترتبط أصلا بالسيّاسة و إنّها تنشأ في عهد الظلم و الإستبداد و القهر حينما تکون التصريح سبباً في إثارة غضب الملوک و قد يستدلون علی ذلک بأنّ أشهر کتّاب هذه القصص کانوا من العبید و الأرقاء أی من المستضعفين المقهورين . (com. thawra@ farat . wailto )
و قصّة أخيرة نبحث عنه من ديوان الصادح و الباغم هي قصّة " الحمار و الضرغام " و هذه القصّة هي حکاية حمار انحصر في أرض طينها خاض و غار فيها الحمار لا يستطيع أن يخرج منها و مهما يحاول أن يخرج منها يغرق فيها أکثر فأکثر . فلبث في هذه الأرض شهراً کاملا ، يأکل من أعشاب ينبت حوله فصار سميناً . کلـّما يشبع ينهق لإنقاذ نفسه من هذه البلوی . و ذات يوم سمع صوته أسدٌ يعيش في تلک النواحي و أتبع الصوت حتی وصل إلی الحمار ففکـّر في نفسه و أعدّ حيلة لصيده . فذهب عنده قائلا أ ما بک إنّني أراک مدة طويلة تلبث في هذه الناحية . أجابه الحمار : إنّني قد أصبت في هذا الطين و لا أستطيع الخلاص منها أرجوک أن تنقذني ، قال له : أنت تدعوني راحماً فجديرٌ بي أن أساعدک لتخلص من هذا . فسدّ الأسد مسيل الماء فانقطع الماء و أتی له بالأعشاب في کل الليل و النهار و لکن الحمار لا يدرک مکره . و أدام الأسد هذا الأمر حتی جفّ الطين و صار الحمار محبوساً وسطه . فهجم عليه و أفترسه .
فالآن إن ننطبق المقوّمات القصصيّة علی هذه القصّة يمکن أن نقول یستهدف الشاعر فکرة واحدة من سرد هذه القصّة و هو بأنّ العدو لا يرحم و لا يغمض عن منافعه و عندما فعل ذلک لأضمر مکراً في ضميره . غير أنّنا نلمح من خلالها بحثاً آخر :
کما قلنا سابقاً : الشخصيّات في القصص الحيوان تکون الرمزيّة فهنا الحمار رمزٌ للإنسان الأحمق الذي لا يستفيد من مشاعره فلذلک لا يعرف و لا يميّز العدو من الصديق فيعتمد علی الأسد و عاقبته هي إفتراس بأنيابه .
و من حيث زاوية الرؤية إلی بناء القصّة هي کانت زاوية ( تقريريّة ) کما نراها في قصصه الأخری و لکن هناک شئء جدير بالعناية و هو وجود نوع من ( مهموسيّة ) في أبيات من الأرجوزة الذي سميت (interior monologue ) فإذن لابدّ لنا من نظرة عابرة إلی هذا النوع من زاوية الرؤية إلی بناء القصّة .
يقول السيد " ميرصادقي " في کتابه " عناصر داستان " : أن هو نوعٌ من أنواع زوايا الرؤية و هو أن تتبيّن الشخصيّتهُ ما يخاطر بباله في خلال القصّة أو تسرد الشخصيّة خلجاناتها النفسيّة و أفکارها قبل أن تحدث في الواقع فالقاری يسير في أفکار الشخصيّة و يتبعها بصورة غير مباشرة . ( ص 411 ) .
و هذا النوع یشبه بتکلم الطفل مع نفسه لأنها مشتقة من الکلمة اليونانيّة " monos " بمعنی " الوحيد " و " logos " بمعنی " التکلم " و هذا النوع في بداية الأمر يظهر في القصص الشعريّة عندما تسرد الشخصيّات حالاتهم و أفکارهم دون حضور الراوي لأنّ الراوي هو الشخصيّة المرواة عنه . (محمود فلکی , 42 ) .
لا نبعد من کلامنا الرئيسي : قلنا بأنّنا نشاهد نوعاً من مهموسيّة في القصّة " الحمار و الضرغام " إن نمعن فيها سنری بأن الأسد يهمس في نفسه بعد مشاهدة الحمار في تلک الأرض مفکـّراً حيلة لإغتراره حيث يقول في نفسه :
فقـال إن خضت نشبت فيـه و لـيس فـي قـــوّة تکفيــه
أموت فـي يـوم و لا أعيش إذ لـست ممـن أکلـه الحثيش
فلـيس إلا الکيـد و التدبيـر و الحزم لا الأقـدام و التـــقرير
( الديوان ، 46 ) .
فإذن يسرد الضرغام للقاری ما يخطر بباله و نری في هذه الأبيات يُحذف الراوي أو يغيّر زاوية الرؤية من التقرير إلی أول شخص .
الخاتمة :
الشعر القصصي أسلوب يجمع فيه الشاعر آراءً متعدّدة و حوادث متشابکة .
قد راعي هذا الأسلوب شعراءُ و منهم ابن الهباريّة ، ناظم ديوان الصادح و الباغم .
هذا الديوان ترجمة منظومة منتزعة عن کتاب کليلة و دمنة لإبن المقفّع ، الذي يستخدم الحيوانات لسرد قصصه و يرمز فيها إلی الموعظة و. العبرة تارةً و التسلية و الإمتاع أو الهدف التربوي و الأخلاقي تارةً أخری .
لديوان الصادح و الباغم صبغة أخلاقيّة متمرکزاً علی بنية القصّة الرمزيّة .
تتمحور القصص في الديوان علی أسلوب الحوار و السؤال ، حتی ينهمک القاری في صمیم عقدة القصّة ، شائقاً و متوجهاً إلی الغاية .
في هذا الحوار الذي يجري بين أبطال القصّة ترمز إلی الإشارات التاريخيّة و الموعظة و النّصح. ابن الهباريّة في هيکل عام لقصّة کاملة في حدثها و عرضها و عقدتها و حلـّها لا ينوی قصّة مجرّدة بل يستخلص من قصصه العبرة و الموعظة .
فبهذا السبب ، الموضوع في حدّ ذاته ليس له أهميّة کبيرة بقدر ما يشوّق الناظم القارئ إلی معرفة الحل النهايي و البغية الرئيسيّة .
يستفيد الشاعر في أرجوزاته من الشخصيّات الوضعيّة التي تکرّر في مسرحيّات الاغريق . تبدو هذه الشخصيّات تجاه القاری بصورة رمزيّة مثلا ، الأسدان يظهران کيفيّة محسوسة عينيّة للمفهومين – الجود و البخل – لعلّ ابن الهباريّة يشير إلی الملوک الظالمين في قصصه بناءً علی إعتقاد بعض الباحثين بأن نشأة قصص الحيوان ترتبط أصلا بالسيّاسة و في عهد الظلم و الإستبداد .
و من أبرز ميّزات قصص ابن الهباريّة وجود نوع من المهموسيّة و هو أن تتبيّن الشخصيّة ما يخطر بباله في خلال القصّة أو تسرد الشخصيّة خلجاناتها النفسيّة و أفکارها ، قبل أن تحدث في الواقع .
المصادر :
المصادر العربيّة:
– ابن الهباريّة ، ديوان الصادح و الباغم ، شرح : عزت العطار ، لجنة الشبيبة السورية ، 1936 م .
– ضيف ، شوقي ، تاريخ الأدب العربي ، الطبعة الثامنة ، دارالمعارف ، مصر ، لاتا .
– کفافي ، محمد عبدالسلام ، في الأدب المقارن ، الطبعة الأولی ، دارالنهضة العربيّة ، بيروت ، 1971 م .
– مريدن ، عزيزة ، القصّة الشعريّة في العصر الحدیث ، الطبعة الأولی ، دارالفکر ، دمشق ، 1984 م .
منابع فارسی :
– طبيبان ، سيد محمد ، فرهنگ فارسی به عربی فرزان ، چاپ سوم ، نشر پژوهش فرزان ، تهران ، 1384 ش .
– فلکی ، محمود ، روايت داستان ( تئوری های پايه ای داستان نويسی ) ، چاپ اول ، بازتاب نگار، تهران ، 1382 ش .
– ميرصادقی ، جمال ، عناصر داستان ، چاپ دوم ، انتشارات سخن ، تهران ، 1376 ش.
– مواقع إلكترونية:
diwanalarab.com
mihanblog.com
persian-eljadida.ir
rahpouyan.com
cgie.org.ir