الغرابة في رواية «الحب في زمن العولمة» لصبحي فحماوي
أنتج صبحي فحماوي هذه الرِّواية "الحب في زمن العولم" في عام 2006، ولها طبعة مصرية(دار الهلال) وطبعة لبنانية(دار الفارابي) وهي رواية تعجُّ بالغرابة، إذ تسبح ضد التيار، فتخلق لنفسها عالماً خاصاً من الدهشة، يتخطى الحدود ويتخطى الأزمنة، وذلك في رحلة عولمية تتماشى مع رغبة أصحاب رؤوس الأموال المتوحشة، في الخروج من القاع إلى القمة، حتى وذلك على حساب البشر، فالبشر آخر من يفكرون فيهم، وكون أنَّ العولمة هي صناعة غربية، فلقد أصبحنا نسير وراءهم في كل صغيرة وكبيرة.. أي أنهم أصحاب تلك العولمة التي أخضعوها لقيمهم ومبادئهم، إلى أن أصبحت العولمة جزءاً من حياتنا، فيميل صبحي فحماوي إلى التجريد ليخلق عالماً سردياً خاصاً به، وفق تلك التجربة الشخصية التي مرَّ بها، ليجعل تلك الحيوات في هذه الرِّواية منفتحة على مصراعيها، فلا حد لنهايتها من خلال هذا الواقع المتغير.
يميل الكاتب في هذه الرواية إلى السرد العجائبي، ليس ذلك فحسب بل يجعل العمل بأكمله يملى عليه بهذه الطريقة، فينحِّي عقله جانباً، ليجعل من أحد أولاد سعد الدين سارداً للعمل، وما أدراك من هو سعد الدين.. أحد رموز الجن الأزرق.. الذي اعتقد فيه الكثيرون وأولهم والدة الشواوي شخص الرواية، "شيء لله يا سعد الدين" وهو ما يجعل العمل يدور حول المحور النفسي في زمكانية عجائبية. فمدينة العولمة ليست هناك ولا هنا بل هي خليط من أراضٍ عربية، نسيها "سايكس بيكو" حين وزَّع التركة أو تناساها. وهي تلك المدينة التي بنى فيها سائد الشواوي قصره المشيد؛ تلك الشخصية المحورية في الرواية، الملياردير الذي يمثل رأس المال المتوحش، والذي أراد الوصول من قاع الفقر إلى القمة على حساب الجميع، وعلى حساب جميع القيم والمبادئ، وهو أحد منتجات العولمة، لم يكن مريضاً بالإيدز فقط بل كان مريضاً بالتكبر والتسلط على عباد الله، وهو رمز من رموز القمع والتوحش في عالمنا العربي، والذي سعى إلى انتهاك حقول الإنسان في كل شيء، لا يعنيه شيء إلا المال، حتى لو كلف ذلك استخدام النساء.
ترصد تلك الرواية الصراع بين الخير والشر..بين الفقر والغنى..بين الإنسانية وشرور الرأسمالية المتوحشة..وذلك بين الشخصيات من هنا وهناك، فإذا كان هناك سائد الشواوي، فإن فيها مهران الذي يمثل الصدق والإنسانية في الحياة، وأيضاً منذر شلبح الحارس الخاص لأحد مستودعات الشواوي والمهندس جواد. وغيرهم فالرواية تمتلئ بشخصيات لا حصر لها، ولكن مع تلك العواطف القائمة على المصالح المشتركة بين البشر، وليس هناك عاطفة حب من أجل الحب نفسه أو الإنسانية إلا في القلة من الشخصيات مثل مهران وثريا ابنة الشواوي، وغير ذلك كان السعي كله من أجل الماديات وفرض الواقع الأناني للشخصيات المريضة بتلك الماديات، فيتحول البشر إلى كلاب مسعورة تنهش الجميع، وكأنهم ذئاب في ثوب بشر.
الغريب والعجيب في هذا العمل هو قلب المألوف إلى غير مألوف، بمعنى أن العولمة جاءت للانفتاح على العالم، وإفادة البشرية، ولتصبح الكرة الأرضية قرية صغيرة، إلا إنَّ هناك من البشر من استفاد من تلك العولمة على حساب الملايين الآخرين، وهو ما ظهر من خلال أصحاب الشركات الكبرى ورؤس الأموال، الأمر الذي انعكس سلباً على بعض الناس، بل وتضرر منه الكثيرون، وأصبح هناك واقع متغير، يشترط على الإنسان أن يتغير من أجل اللحاق بتلك المنظومة التي لا تمتلك العواطف، بل تمتلك فكراً انتهازياً يتعدى الأخلاق في بعض المناحي، ولكن العولمة - شئنا أم أبينا- أصبحت جزءاً من حياتنا، وتفكيرنا، ومأكلنا ومشربنا.
وهنا يجب أن نقارن حالنا بما كان وكيف أصبح، لأن كل شيء له محاسنة وسلبياته، وهو ما يقر به صبحي فحماوي هنا مع استخدام الرمزية في العمل، فضلاً عن سخريته المعهودة في معظم أعماله والتي تهدف إلى تقويم النفس والعالم العربي، من خلال تلك الكتابات المغايرة؛ أملاً في بناء واقع جديد، يأخذ من القديم القيم، ويأخذ من الحديث ما يساعده على الوصول إلى حياة أفضل، ولكنه يجد نفسه مضطراً إلى الانغماس في حقل ألغام عولمي، فيعود إلى الإصرار على تعرية المجتمع خوفاً من ضياع الهوية، التي حاولوا أن يشوهوها بكافة السبل والنيل منها وخاصة من اللغة، التي حاول الكاتب التغني بها كثيراً وهو يكتب أعماله الروائية، وقد راوح بين الحقيقة والخيال في عرض فكرته حول تلك العولمة، وأصبح هناك عالمان؛ الماضي المرتبط بالقيم والمبادئ والمتمثل هنا في مدينة البطين، وبين الحاضر المرتبط بمدينة العولمة الحداثية.
تناقضات غريبة، حين يعلم الملياردير سائد الشواوي بأنه سيموت، إلا إنه يصر على العيش في القصر الذي ما يزال يبنيه حديثاً..فيطلب من المهندس سرعة الانتهاء من بناء القصر وليبدأ بغرفة نومه..
تناقضات بين المدينة القديمة وتحولها إلى عالم جديد مغاير عما كان، فأصبح هناك قلق وجودي في ثنايا العمل، هذا القلق جعل من الشخصيات زوايا متحركة بين تلك المتناقضات، بين القديم والجديد، لتدخل أيضاً في عالم الفنتازيا التي بلا شك أعطت العمل روحاً.. وهو ما يتميز به الكاتب في معظم أعماله، حتى ولو لجأ إلى تلك الفنتازيا عن طريق الكتابة الساخرة، "ولكن من العجيب والغريب أن تلك المدينة التي من المفترض أن تكون في حالة من التقدم والرقي بفضل العولمة والثقافة، إلا إنها على العكس من ذلك تراجعت بالخرافات والشعوذة وعالم الدجل دون الانتباه إلى ما هو مفترض في العالم حول نظرية العولمة الخادعة، وما انتاب العالم من نقلة كبرى في بشاعة الحداثة. ومن هنا فلم تقفز تلك المدينة إلى عالم الحداثة، بل ظلت متمسكة بثوابت الدجل والخرافات يغذيها الفكر العجائبي.، ولكنها أصبحت متواكبة مع ذلك التطور من ناحية الشكل، وهنا نقطة خطيرة للعلاقة بين الشكل والجوهر، الداخل والخارج.. وهنا فإن فحماوي كما قلت يعرِّي المجتمع الذي ما زال متمسكاً بذلك الفكر المتخلف من قبول الخرافات، ويحزن على عدم مواكبة العولمة في عبارات مؤثرة وهو محق فيها يأتي بها من باب السخرية:
"ويبدو أنَّ أثرياء العرب لا يزالون نائمين مضطجعين على أفخاذ الحسان الغواني، بينما العالم يركض بسرعة الضوء ليلحق بركب الأعمال والتقدم".
وتبدو الحالة بين الوعي واللاوعي عند الشخصية الرئيسة في الرواية، حين يخلط بين الماضي والحاضر فلا يدري عن أي زمن يتحدث "ارتفع صوت أبو سفيان في هذيانه وهو يقول كلاماً موزوناً وكلاماً غير موزون، كلاماً في الشرق وكلاماً في الغرب، يخلط الحاضر بالماضي والمستقبل، يخرف خرافات أو يذكر حقائق من أيام زمان..كان باختصار، يهذي".
إنَّ العجائبية والغرائبية تطوقان العمل من أوله إلى آخره، فيكف أن من يسرد العمل هو الجن الأزرق، الذي مكث في رأس المؤلف، ليسرد لنا سرداً مأزوماً، ذلك لأنَّ الأمة كلها مأزومة، وهو ما ظهر حين تناول الكاتب الجامعة العربية وما تقوم به، حيث إنها جسد بلا روح، لم تقدر على فعل شيء، وأيضاً حين جعل أهم شخصية في العمل تفقد مناعتها، هنا إشارات وعلامات على الانهزام، وهو انهزام مقصود أمام تلك العولمة التي أثّرت على الحياة الاجتماعية والفكرية والأدبية والنفسية، وكل نواحي الحياة في ذلك المجتمع الذي ما زال متمسكاً بتلك الخرافات، وأصبح ريشة في الهواء، أمام تلك الهجمات الكاسرة التي لا ترحم أحداً، مما يؤثر حتماً على بقاء هذه الأمة أو على الأقل سيطول التأثير تلك الهوية التي أصبحت هي الأخرى في مهب الريح بفضل تلك العولمة، والعولمة هي في حقيقتها نتاج ثورة علمية من المفترض أن الشعوب تستيقظ لها وأن تسعى لركب هذا التقدم والاستفادة منه، لأنَّ من تلك العولمة وجدت الثورة التكنولوجية "والثورة التكنولوجية الراهنة ظاهرة كونية غاية في التعقيد، فبسببها أساساً زاد العالم انكماشاً وزادت بالتالي كثافة غابة التشابكات والتداخلات التي تربط بين عناصره وظواهره" وأصبح الكون كله في يد المتلقي باعتباره قرية واحدة، وليس هناك مجالٌ للخروج منه، ولكن لا بد من التفاعل مع هذا المنجز الحضاري الذي أنتج لنا تلك العولمة التي تطوف بنا والتي يجول من خلالها الروائي صبحي فحماوي، محاولاً تصوير السلبيات التي تطرأ من خلالها على الشعوب النامية، وهو يقصد الأمة العربية. تلك الأمة التي سادت العالم في يوم من الأيام، ولكنها وللأسف الشديد أصبحت الآن في ذيل الأمم.