الاثنين ١٥ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٧
بقلم سعد الكموني

الغرابة والتكرار والمعنى المفاجئ

لا يُرصَدُ الجميل في ظاهرِ العلامة، بل في ما تُحيلُ إليه

دورةُ الجسد

1. كانَ القمرُ أخضرَ
2. ذلك الصّباحْ
 
3. الجسدُ من أعشابِ غزيرةٍ
4. الكلامُ من أوراقٍ لا تنتهي
 
1. كانَ القمرُ أخضرَ
2. تلكَ الظهيرة
 
3. الجسدُ من مدينةٍ كسلى
4. الكلامُ من نخيلٍ مستقيم
 
1. كانَ القمرُ أخضرَ
2. ذلك المساء
 
3. الجسدُ من بياضٍ شاسع
4. الكلامُ من ظلالٍ مرتعشة
 
1. كانَ القمرُ أخضرَ
2. ذلك الليل
 
3. الجسدُ من عتمةِ الأصابع
4. الكلامُ من غيبوبةِ النهرِ
 
1. كانَ القمرُ أخضرَ
2. ذلك الفجر
 
3. الجسدُ من أسرّةٍ متعبة
4. الكلامُ من حواسّ تُقْبِل
 
1. كانَ القمرُ أخضرَ
2. ذلك الصباح.

بول شاوول

1. تمهيد

لست أدري الضرورة التي تملي على امرئ أنْ يعود إلى نصٍّ قرأه منذ عشرين سنة تقريباً، ولكنّي عدتُ إلى هذا النصّ، ورحتُ أتذكّر أنني عندما قرأته استوقفني فيه التكرارُ، كما استوقفني عدمُ التلاؤم في المركباتِ الإسناديّة، ولكنني أذكرُ أنني في حينها كنت أقولُ إنّ الجمالَ الشعريّ يكمن في ما تقدّمه لك القصيدة من غرابة، ولكنّي ما كنت أعرفُ فائدةَ تلك الغرابة، كلّ الذي أذكره أنّي خرجت من بين أصابع هذه القصيدة مسكوناً بالمشاعرِ الغامضة.

وها أنا الآن بعد مضيِّ عشرين سنة، أعود لأقرأ هذا النصّ ، فهل سأخرجُ بالمشاعرِ ذاتها؟

2. القمر الأخضر/ فاعلُ الحياةِ المختلفة

"كان القمرُ أخضرَ" هو الخبرُ المفاجئُ، لا لأنّ هذا اللونَ غيرُ معهودٍ للقمر فحسب، ولا لأنّ الشاعرَ يكرِّرُ ذكرَهُ ستَّ مرّات في قصيدةٍ يبلغُ تعدادُ المركباتِ الخبريّةِ فيها واحداً وعشرين مركّباً، فقط؛ بل لأنّ الخبرَ ينطوي على حكمٍ ثابتٍ للقمر( أخضر) في زمنٍ متغيّر.( ذلك الصّباحْ، تلكَ الظهيرة، ذلك المساء، ذلك الليل، ذلك الفجر، ذلك الصباح).

استبعدنا حصرَ المفاجأةِ في اللونِ الأخضر مسنداً إلى القمر، لأنَّ عدمَ التلاؤم في المركّبِ الإسناديّ لا يُشكّلُ وحدَهُ مَكْمَنَ الجَمالِ، إذْ كثيراً ما يَعْزِفُ قارئٌ عن الشعر بسببِ عدمِ التلاؤمِ هذا؛ ما يعني أنّ هناكَ أمراً آخرَ يجبُ أن يرافقَ عدمَ التلاؤم، أرجِّحُ أنّهُ في ما يحيلُ إليه؛ إذْ بقدر ما يفاجئنا اللون الأخضرُ مسنداً إلى القمر، نرى أنّهُ غيرُ كافٍ لإشعارنا بالجمال، مع أنّهُ يمنحُ القمرَ هُويّةً جديدةً ندركها من خلالِ إدراكنا لمنزلةِ اللون الأخضرِ في حياتنا. إلا أنّه في إسارِ( كان) والظرف المشار إليه بـ"ذلك" أو"تلك" اللتين للبعد، يحيلُ إلى أمور عدّة، منها:

‌أ. اللون الأخضر لم يكن قبلَ ذلك الصباح، ولم يعد كائناً لحظةَ كتابةِ القصيدة.إذن هو طارئ، له ما يبرِّرُه في رؤيةِ الشّاعر، ربّما ليؤدي وظيفةً ما، أو هو بمقتضى طوارئ في الجسد والكلام، الأمرُ الذي يجعله على قدرةٍ ما.

‌ب. اللون الأخضر بديلٌ من لونٍ كان عليه القمرُ قبلَ ذلك الصباح، ومن لونٍ آخر لحظةَ الكتابة، ما يعني أنّ الألوان الأخرى لا تؤدّي وظيفتَه.

‌ج. اللون الأخضرُ بديلٌ من ألوانٍ أخرى، ولكنّ النصَّ لا يصرِّحُ إلا به، إذْ لم يذكرِ القمرَ الأبيضَ، أو الأحمرَ أو......، ما يجعل هذا اللونَ للقمرِ عزيزاً، والألوان الأخرى متاحة، لا تستدعي الشّعر.

إذن، "كان القمرُ أخضر" الخبر المفاجئ؛ لأنّ القمر بهذا اللون هو المطلوب الذي لا نتوقّعه.وهو إلى ذلك، يحيلُ إلى فاعليّةٍ تمنحُها المعاني التضمينيّة لمفردة "أخضر"، بُعْداً حياتيّاً محبّباً.

أمّا استبعادُنا للتكرار، فهو من باب عدمِ الرّكون إلى الشكلِ في الحكمِ على الأشياء، فالتكرارُ له وظيفةٌ جماليّةٌ في النصّ لا يمكنُ إنكارُها، غير أنّ التأكيد، والإيقاع اللذين يؤديهما التكرار، لا يكفيان أيضاً للمفاجأة، وبالتالي إثارة الإحساس بالجمال؛ بل ما يحيلان إليه هو المفاجئ. نعم، يجعلنا تكرارُ الخبر(كان القمرُ أخضرَ) أمام لازمةٍ تَرِنُّ في آذاننا ستَّ مرَّاتٍ، لتؤكّدَ أهميَّتها في عالم النصّ؛ غيرَ أنّ مقتضى التكرار، هو العنصر الأبرز في الإدهاش، إذْ لا يمكنُ أن يعمدَ الشّاعرُ إلى هذا السلوك التعبيريّ لو لم يفاجئه المشهد، لو لم يندهش! ما يعني أنّهُ مشهدٌ مختلفٌ ونادرٌ، يحتفي النصُّ به من خلالِ ترداده، بغيةَ تقديمِ آثاره غير المتوقَّعة في الأكوانِ المدهشةِ للجسدِ والكلام.

فما هو هذا المشهدُ الذي فاجأ الشاعرَ، ثمَّ فاجأنا به ؟

"كان القمرُ أخضرَ، ذلك الصباح، .."

القمرُ علامةٌ طبيعيّةٌ عريقة، أخذتْ موقعها في الشعرِ العالميّ منذ السنوات الأولى للشعر، كما أنّها قرّت في أذهانِ شعوبِ الأرضِ حيناً من الدهرِ على أنّها إله، لعبت دوراً كبيراً في تشكيل الميثولوجيا الإنسانيّة، كما ألِفها العشّاقُ أنيسةً لهم في الوحشةِ والغربة...

القمرُ علامةً، له شكلٌ متغيّر، وله منازل في الأعالي، ارتبط به الزّمنُ ارتباطاً سببياً، أحدهما شرطٌ للآخر...

القمرُ الحديث صخورٌ وأتربة.

القمرُ الحقيقيّ هو الذي يقدّمه لنا الشعراء وسائرُ الفنانين، لأنّه يتجاوبُ مع وجدان الناسِ الذي يأبى الركونَ إلى الأشياءِ كما هي، بل يصرُّ على أنّها تابعةٌ له، بأسمائها وألوانها وأشكالها... والشّاعرُ على الدّوام يعيد التسميةَ والتلوين والتشكيل..

إذنْ، القمرالحقيقيّ علامة من علاماتِ الزمن، علامةٌ على الحياة والموت، على الوعدِ والإهمال، على الطمأنينةِ والاضطراب، الإقامةِ والرحيل...
هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى فهو علامةٌ على العلوّ والسموّ والأنس... الحياة على نحوٍ رضيّ..

كلّ هذا، لم يحضرْ في مستهلّ قصيدة بول شاوول، لأنّه مألوفٌ، ولا يستدعي أيّ موقفٍ شعريّ إزاءه. نعم، للشاعر قمرُ النّاس، إلا أنّه أخضر، لم يره سواه؛ فعلام يدلّ هذا؟

الخضرة علامة على الخصب، ما يعني أنّه مطلب، وهو علامةٌ على ما في داخلِ الإنسانِ من إنسانيّة، ما يعني أنّه الذّات المفقودة...أو المفتقدة في ظلِّ يباسٍ عارم...

إذا كان هذا الخبرُ بعامّةٍ، يحيلُ إلى مشهدٍ اقتضاه الافتقارُ إلى الحياةِ المختلفة، والقادرة على منحِ الجسدِ والكلامِ دورةً تعيدُ صياغتهما في كلّ ظرفٍ. فما الذي اقتضى أن ينشد الشّاعرُ ذلك في القمر؟

هنا مكمنُ الجمالِ الشعريّ. إذْ لا يمكن رصدُ الجمالِ إذا اكتفينا بالنظرِ إلى شكلِ العلامة، بل يجبُ أن ندعَ العلامةَ تثير فينا ما تثير، بخاصةٍ وأنّ وظيفةَ الكلامِ هنا جماليّةٌ تأثيريّة، وليس لنا أن نتأثّرَ في أعماقنا إذا اكتفينا بالسطوح.قد يبلغُ الجمالُ والتأثّر سلطةً على السلوكِ البشري(ذهنيّاً وحركيّاً)، عندما يلامسان وظيفةَ الإقناع وتعديلِ وجهاتِ النظر.


هل يرى الشّاعرُ أنّ الأرضَ عاجزةٌ عن منح الحياة المختلفة، وبالتالي يجب أنْ يكونَ القادرُ على ذلك عالياً وسامياً؟؟ ربما يكون الأمر كذلك، وربما أيضاً لكون القمر في العلى سيدَ نفسه يغبطُه الشّاعرُ ويرى فيه القدرةَ الخلاّقة المفتقدةَ في الأرض.

***

3. مظهرُ الحياةِ المختلفة ذلك الصباح

أينَ مظهرُ الحياةِ المختلفة، ذلك الصباح الذي شهد القمرَأخضرَ؟
إنّه في الجسد وفي الكلام.والتجاور بين الجسدِ والكلام في بنيةِ النصّ، لا يدعنا نبعد في تخمين نسبتهما، فهما جسد الإنسان/الشّاعر، وكلامه.
"الجسدُ من أعشابِ غزيرةٍ/الكلامُ من أوراقٍ لا تنتهي".

حرف الجر "من" هو لبيان النوع، والذي اقتضى بيانَ النوعِ هنا، ذلك التغيّر غيرُ المتوقّع من جرّاء الاخضرار في "ذلك الصباح" . ونلاحظُ هنا أنّ العلامتين المعجميّتين الدّالّتين على نوع الجسد "أعشابِ" ونوع الكلام "أوراقٍ" تنتميان إلى حقلٍ معجميّ واحدٍ عنوانُه النضارة/ الحياة الرضيّة.

ويلازمُ هاتين العلامتين صفتان تشكّلان حقلاً معجميّاً خاصّاً عنوانُه "الكثرة" فالصفة الملازمة للأعشاب غزيرة، تمنح الأعشاب حيويّةً ونشاطاً مستمدّان من كونها صفةً أفرزتها اللغةُ للدلالة على كثرة انسيابِ المياه، وإذْ يصفُ الشاعرُ بها الأعشابَ فذلك لأنّ اللغةَ لم تفرز مفردةً تكونُ وافيةً في الدلالة على ما رأى بول شاوول، فضلاً عن كونها تنزلُ الأعشابَ منزلةَ المياه. والصفة الملازمة للأوراق "لا تنتهي" تمنحُ الأوراقَ حضوراً حيويّاً وناشطاً، مستمدّاً من الاستمرار المتكاثر الذي لا يبلغ المدى الأخير بسبِ كثرته. وليس في اللغةِ مفردةٌ تؤدّي هذه الصفة إلا "لا تنتهي"؛ فالتعاضدُ بين النفي والمضارعة والانتهاء الذي يُنتظَرُ لكلِّ ما له بداية، تجعلُ المتلقّي أمام مشهدٍ للأوراقِ غيرِ مألوفٍ، ولكنّه حقيقيّ في لغة بول شاوول الشعريّة، إذْ يمنحه الاستخدامُ الإبداعيّ للّغة بعداً تشكيليّاً ممكناً.

أمام هذين التعبيرين اللذين قدّما نوع الجسد ونوعَ الكلام، لا يمكننا أن نركن إلى ظاهر العلامة كما أسلفنا، بل نسأل هنا إلام تحيلُ الأعشاب الغزيرةُ، و الأوراقُ التي لا تنتهي؟ فالحيويّّةُ والنشاطُ هما البعد الكنائيّ لهذا الحقل المعجمي المكثّف، إلا أنّ المُحالَ إليه يُرصَدُ في ما يقتضي هذا التعبيرَ، و في ما يثيرُه في ذاتِ المتلقّي. وسبقَ أن أشرنا إلى أنّ مكمنَ المفاجأة/الجمال، هو في ما تحيلُ إليه المُرَكَّباتُ التعبيريّة وليس في سطح بنيتها.

نلاحظُ التلاؤمَ بين اخضرار القمر والأعشابِ الغزيرة والأوراق التي لا تنتهي، فهذا تماسكٌ في النصّ على المستوى المعجميّ اقتضاهُ تماسكٌ على المستوى الفكريّ، فالحياة المختلفةُ المنشودة في العلى (القمر الأخضر) تتمظهرُ في إنسانيّةِ الإنسانِ جسداً وكلاماً مختلفين.

قدَّرنا علّةَ نشدان الحياةِ المختلفةِ من خلالِ إعادةِ صياغةِ القمر/السيّد؛ ولكن لماذا ينشدُ الشّاعرُ مظاهرَ هذه الحياةِ المختلفة من خلال أعشابِ غزيرةٍ و أوراقٍ لا تنتهي، لإعادةِ صياغةِ الجسدِ وكلامه؟

الأعشابُ هي النباتاتُ الرطبة، لا يمكنُ أن تكون الإقامةُ الإنسانيّةُ إلا بوجودها، فهي تلبّي حاجته المستديمة للغذاء، كما تلبّي طموحات روحه الجماليّة. ومن معانيها التضمينيّة أيضاً: "الخضرة، النضارة، الينوع، المراعي، المروج، السهول، الجبال، الأودية، الضّفاف، الأنهار الينابيع، السواقي الجداول,النزهات، الطمأنينة، الاستقرار،... الحياة الرضيّة" وكلّها تخدم الحياة الإنسانيّة، وعندما يستخدِمُ الشّاعرُ مفردةَ الأعشابِ ليبيّن نوع الجسد، تحتشدُ كلّ هذه المعاني وسواها ممّا لم يحضرْني الآن. فالشّاعرُ يرى منزلةَ الأعشاب في الوجود،، وعندما يكون القمر أخضر يكون تجاوبُ الجسدِ معه برؤيةِ الشاعر، من خلال التمظهر العشبيّ، فالأعشابُ لا يكوّنها أحد، لا يأمرُها أحد، تتعرّضُ للعدوان، وهي كائناتٌ مسالمة، نموّها واندثارها من تلقاء ذاتها، وهي مطلب الحياة الدائم؛ وأعتقدُ أنّ الضرورةَ التي أملت على الشّاعرِ أن يستخدمَ مفردةَ أعشاب دون سواها هي في كونها مطلباً، وكم يسعدُ الإنسان عندما يكون جسدُه مطلباً، فإنّه سيكون سبباً لحياة.

أمّا الأوراقُ التي لا تنتهي، فهي نوع الكلام في "ذلك الصباح" وهي قد تكونُ أَوْراقَ الشجر أو أَوْراقَ الكِتابة، وكلاهما يحيلُ إلى النضارة، إذْ إنّ أوراقَ الكتابةِ التي لا تنتهي علامةٌ بيّنةٌ على النشاطِ الفكري، وهل من نضارة أعزُّ على الشاعرِ من النضارةِ الفكريّة؟ ولا أظنّ مقتضى استغلالِ المفردة" أوراق" بعيداً عن هذا الشعور المضطرم بالسعادةِ في حضرة القمر الأخضر ذلك الصباح. ولو أنَّ الشّاعر كانَ قد استعمل مفردة نهر غزير مثلاً لبيانِ نوع الكلام، فإنّ ذلك لن يثير فينا ما أثارتهُ مفردة أوراق، وذلك أن النهر يمثّلُ انسياباً متجانساً وتعرّجاً وهديراً وما يشاكلُ ذلك تضيع قطراتُه في كلّه... بينما الأوراق عبارةٌ عن مفردات تفيد الكثرة المطلقة التي لا تقتضي أن تُحْرَمَ كلُّ مفردةٍ من استقلاليّتها، وهذا ما أملى على الشّاعر أن يستغلّ هذه المفردة دون سواها، فهي وحدها التي تلبّي حاجته للحضور بإزاء هذا القمر ذلك الصباح.

وقبلَ أن نغادر هذه الحديقة الشعريّة، يستوقفنا الظرف الذي شهدَ هذا المشهد، هل ما لا حظناه ملائم لهذا الظرف؟
الصباح مبتدأ النهار، مبتدأ الوضوح، مبتدأ الحياة، فيه يشتعلُ الوجودُ ازدهاراً، إنّه الوعدُ المستأنفُ كلَّ يوم.

***

4. مظهرُ الحياة المختلفة تلك الظهيرة

كانَ القمرُ أخضرَ
تلكَ الظهيرة
الجسدُ من مدينةٍ كسلى
الكلامُ من نخيلٍ مست

قيم

تغيّر الظّرف وصار" تلك الظهيرة" والقمرُ الأخضرُ يواصلُ خضرته، يواصلُ منْحَهُ الحياةَ المختلفة، لكنّ مظهرَ تلك الحياة المختلفة في الجسد والكلام، نلحظه من خلالِ علاماتٍ أخرى مختلفة كليّاً عن العلاماتِ التي بيّنت نوع الجسدِ ونوعَ الكلامِ في ذلك الصباح.
هنا، "الجسدُ من مدينةٍ كسلى/ الكلامُ من نخيلٍ مستقيم"

الجسدُ ليس من لحمٍ وعظمٍ ودم، كما كنّا نعلم، وليس من "أعشابٍ غزيرة" كما بتنا نعلم.الجسدُ هنا مفاجئٌ أكثر من ذي قبل، إنّه "مدينة.."، والمعاني التضمينيّة لمفردة مدينة كثيرة جدّاً ومنها:" سيارات، شوارع، مبانٍ عالية، بشر، تجارة، صِحافة، دولة، ساسة، تسكّع، عبث، ملاهٍ، مقاهٍ، باعة، مثقفون، شعراء، فنانون، ممثلون، مسارح، دور سينما، معارض، ندوات، علم،....." من كلّ هذا، نوعُ الجسد، وهذا يحيلُ إلى الحركة والحيويّة، كما يحيلُ إلى الغنى والتنوّع، غير أنّ المفردةَ الملازمة لهذه العلامة"المدينة" قد جعلت من كلّ هذا مشهداً راكداً تقريباً، إذْ إنّ الصفةَ "كسلى"، وضعت حدّاً للتوقّعات من كونها علامة التثاقل.

"الجسدُ من مدينةٍ كسلى" مركبٌ شعريّ يقدّمُ تحوّلَ الجسد من مشهدٍ يشتعلُ حيويّةً، إلى مشهدٍ راكد، وليس هنا من أداة نحويّةٍ تفيد التحويل، غير أنّ "تلك الظهيرة" علامة ذلك، وكأنّي بهذه العلامة قد سلبت الجسدَ هويّته التي كانَ عليها ذلك الصباح، ومنحتْه هويّةً جديدةً؛ هل من علاقةٍ لهذه الهويّة الجديدة بالعلامة "تلك الظهيرة"؟ هل من قرابة بين هذه الهويّةِ الجديدة والهويّة السّابقة؟ وما هي علّةُ تلك القرابةِ إنْ وجدت؟

تطلقُ مفردة الظهيرة على وقت انتصاف النهار، وتعني شدّة الحرّ نصفَ النّهار، ولا يقال في الشتاء ظهيرة "ابن الأثير"، وقد ارتبط هذا الوقت أيضاً بالقيلولة، ما يعني أنّ الجسدَ في هذا الوقت قد استهلك الجزء الأكبر من طاقاته. وهذا يؤكّد التلاؤمَ في النصّ بين الطاقاتِ المستهلكة/الجسد، والعلامة التي تشير إليها "مدينة كسلى"، والظّرف"تلك الظهيرة". ولكن، لماذا مفردة مدينة بالذّات، لتقديم مظهرِ الحياةِ المختلفة المنشودة بتأثيرٍ من القمر الأخضر؟ هل لأنّها وحدها قادرةٌ على التجاوب مع الرؤية المختلفة ؟ ربّما، إذْ إنّ المدينة تعني الغنى المتنوّع سواء كانت ناشطة أو كسولة. وهي بالتالي وحدها بين الكائنات التي يعرفها بول شاوول تحافظ على جوهر مكوّناتها مع كلّ الظّروف. إلى ذلك، وبعيداً عن الكنائيّة التي تحيلُ إليها هذه العلامة"مدينة كسلى"؛ فهي من كونها علامةً على جسد، ترسّخُ في الذهنِ راهنيّة المشهد، فالمدينة لا تكون دائمة الكسل، ولا يمكن أن تستسلمَ للظروف، كذلك الجسد قد يبدو كسولاً ولكنّه مدينة.

إذن، مدينة كسلى، هي أعشابٌ غزيرة.هي مظهرٌ آخر لـ"أعشابٍ غزيرة" وهنا يبدو الشّاعرُ أكثرَ إمساكاً باللغة في غمرة متغيّراتٍ من شأنها أن تأتي على كلّ شيء. يريد أن ينقلنا إلى مشهدٍ يؤدي فيه رؤيته الخاصة التي تحيل إلى فكرةٍ ثوريّةٍ مؤداها أن الظرفَ قد يؤثّر على مظهرِ الطاقة وليس على مضمونها.

أمّا الكلام فهو "من نخيلٌ مستقيم".

لا تدعنا اللغةُ الشعريةُ هنا أن نندفع مع مفرداتها من دون اللجوء كلَّ مرَّةٍ إلى السموّ الذي ينطلق منه الشاعرُ في معاينة هذه الدورة، أعني "القمر الأخضر" الحياة على نحوٍ رضيّ. فالقمرُ الأخضرُ له مظهرُه في الجسد وفي الكلام؛ وكنّا نتوقّعُ أنْ تكونَ هذه المظاهرُ من الحقلِ المعجميّ لمفردةِ أخضر، إذْ لماذا تحضر إذا لم تكن مهيمنةً على النصِّ بأكمله؟وهي كذلك ، ولكن ليس كما نتوقّع نحن القرّاء،وإذا كان بالإمكانِ التوقّع فلماذا هو شاعرٌ إذن؟ يجب أن نشعر دائماً بالمفاجأة، فمظهرُ الأخضر في الصّباح، أعشابٌ ولكن قد يخطرُ في بالنا أنّها مشروع يباسٍ، غير أنّه لا يدعنا نتمادى في شططنا، فيقدّم الأعشاب على نحوٍ مائيّ رائع. ومظهر الأخضر في الظهيرة، مدينة، ولكن قد يخطرُ ببالنا أنّ الغنى الحياتيّ والحضاريّ هو المظهر ، وحتى لا نتمادى أيضاً بالشطط يقدّم المدينة على نحوٍ بليد رائع أيضاً، فالأخضر كما يراه الشّاعرُ لا كما نراه نحن، وهذا ما قصدنا إليه عندما قلنا إن الجميلَ لا يُرْصدُ في مظهرِ العلامةِ بل في ما تحيلُ إليه. وهكذا تستمرُّ دورةُ المفاجآت في نصّ بول شاوول، الكلام من نخيل مستقيم، وبإزاء ذلك ينشأ غيرُ سؤال، ماذا يرى في النخيل؟ النخيلُ مستقيمٌ أصلاً فلماذا يثبتُ هذا الوصف؟ النخيل علامة سمانتيكيّة" فعيل" مثلما هي علامة سيميولوجيّة علام يدلّ هذا؟؟؟

أول ما تحيلنا إليه مفردة "نخيل" هو (الارتفاع، التمر ، الصحراء،...) فهل يرى الشّاعرُ ما نرى؟

الجسد مستهلك، ولكنّه جسد، الكلام الذي يعني حضور الجسد، سيكون متناسباً معه في هذا الظرف. الكلام مثمر، ثمارُه مغذية ، لكنّها لا تُنال إلا بمعاناة، فالنخيلُ يتمطّى كثيراً في المكانِ وفي الزّمان حتى يثمر.

النخيلُ مستقيم، وكأنّي باستقامته إلى أعلى يتحدّى الجاذبيّة، وعندما يصف النخيلَ بأنّه مستقيم فهو بذلك يقول إنّ الذي يعنيني من النخيل استقامته، فهي ممارسة الوجود بإصرارٍ ضدّ العدم حتّى وإن كان الظرف غير مؤات.

أمّا لماذا النخيل بالذات، فإنَّ مفردة النخيلِ بحدِّ ذاتها تشي بذلك؛ فهي من كونها علامةً سيمانتيكيّة على وزن "فعيل" بمعنى "مفعول" نخيل بمعنى منخول بمعنى مصطفى؛ أمّا لماذا فعيل وليس مفعولاً فذلك للدلالة على أنّها شجرةٌ اصطفت ذاتها على هذا النحو الذي يمكّنها من الوجود، إذْ إنّ صيغةَ "مفعول" تفترضُ وجودَ فاعل ، وهذا يجعلها رهينته على الدوام، بينما صيغةُ فعيل تعني أنها شجرة مختلفة سواء جاء من يتنخلها أو لم يجئْ،مثلما تقول فلان عظيم سواء اعترفت بذلك أو لم تعترف.

إذن، الكلام ، وهو طريقة الجسدِ في تقديم حضوره، تمظهرت فيه الحياة المختلفة، بما يناسبُ الجسد/ المدينة الكسلى في تلك الظهيرة. تثاقلٌ في الجسد يستدعي أناةً في الكلام .

***

5. مظهر الحياة المختلفة ذلك المساء

كانَ القمرُ أخضرَ
ذلك المساء
الجسدُ من بياضٍ شاسع
الكلامُ من ظلالٍ مرتعشة

مرَّةً أخرى، يتغيّرُ الظّرف، وبالتالي يتغيَّرُ مظهرُ تلك الحياة المختلفة التي يمنحها القمر، فالعلامات "ذلك المساء" هي في نوع الجسد"بياض شاسع" وفي نوع الكلام" ظلال مرتعشة".

المساء مشهدُ انسحاب الضّوء من العالم، وكذلك انسحاب الطاقةِ تدريجاً من العاملين.المساءُ مساحةٌ زمنيّةٌ تفرَُغ، ولكنّها تشهدُ مظهر كونِ القمر أخضر.

نوع الجسد ذلك المساء، من بياضٍ شاسع؛ لو لم يكن القمرُ أخضر ماذا سيكونُ نوع الجسد؟ وهل هناكَ لونٌ آخر في المحور الاستبداليّ يمكنُ أن يحلَّ محلَ بياضٍ شاسع مع كونِ القمر أخضر؟

البياض لون، لكنّه غير موجودٍ ، إذْ ليس في الوجود بياضٌ، بل هناكَ شيءٌ أبيض، ولكن عندما يوصف البياضُ بـ"شاسع" فكأنّي به قد أخذ هيئةً ما، وتخلَّصَ من تجريديّته، فالمجرّدُ عندما يوصف يُجسَّم. فالشسوع هو الشّديدُ من البعد، وقد يكون البعدُ في المحسوس أو في المعقول .والشّاسع ليس له حدٌّ محدود وإنمَا ذلك بحَسَبِ اعْتبارِ المكانِ بِغَيْرِهِ.

إلام يحيلُ كلُّ هذا؟ هل وصلنا إلى حدِّ تلاشي الجسد، أو فراغه من عشبيّته، ومدينيّته؟ ربّما! والهيئة المرئيّةُ للجسد ذلك المساء، ليست سوى بياضٍ شاسع، فراغٍ بعيد، ولكن هل هذا مظهرُ الحيويّةِ التي للقمر الأخضر؟ إنّ العلامة "بياض" بالقدر الذي تشيرُ فيه إلى الفراغ، تشيرُ أيضاً إلى الصّفاء والنقاء، وتشيرُ ايضاً إلى أنّ الجسدَ في حالِ التلاشي سيبقى واعداً، سيبقى متمرّداً على فاعليّة الزّمن، فالبياض يشيرُ أيضاً إلى أوراق الكتابة، فالجسدُ الذي يستحيلُ إلى بياضٍ شاسع، هو نفسُه الذي كانَ غنيّاً ومطلوباً صباحاً، وكان غنيًّاً بالتنوّع ظهراً ، وإنْ كان كسولاً؛ فهو الآن مجرّدٌ ، وما البياضُ إلا جهوزيّةٌ للغنى في دورةٍ أخرى.

أمّا الكلامُ فهو من ظلالٍ مرتعشة، وظلالُ الأشياءِ شخوصُها، إذن، هي ليست الحقيقة، بل علامتها؛ وأنْ يتنخّلَ الشّاعرُ المفرداتِ الممكنة لانتخابِ العلامة"ظلال" مظهراً لرؤيتهِِ الكلامَ ذلك المساء، فذلك ليشاكلَ الفراغَ الإيجابيّ، فالظِّلالُ مطلوبة، لأنها ليست شخوص الأشياءِ فقط، بل هي ملجأ المحرورِ أيضاً، تدفع أذى حرِّ الشمس، وهي الضوء ولكن بلا شعاع، إذْ تَحُولُ حقيقتُها دون الشعاع، كلّ هذا مطلوبٌ لأسبابٍ عدّة. والمفاجئُ هنا يأتي من الصِّفة "مرتعشة"، فالارتعاشُ مظهرٌ سلبيّ يحدُّ من إيجابيّة الظلال، ولكنّه لا يلغيه بل يشيرُ إلى وضعيّةِ الكلام لا إلى مستواه، فالارتعاش علامةُ خوفٍ أو اضطرابٍ نفسيّ ، تنزلُ الكلامَ منزلةَ ما يخافُ، وفي ذلكَ إحيائيّةٌ جميلة، إذْ تفقدُ مفردةُ الظلال تجرّدها لتكون على هيئةٍ مستفادةٍ من العلامة "مرتعشة" التي تعجّ بالمعاني التضمينيّة التي لا يدعك الشّاعرُ المبدع قادراً على استبعادِ معنى، أو تبني معنى، فالاحتمالاتُ مفتوحة ليكون الكلام ذلك المساء نوعاً جديداً مفاجئاً كلّما سنحت لك فرصةُ قراءة القصيدة. مفاجئٌ، نعم، فالشّاعرُ قادرٌ أن يقدِّم الفراغ المشاكل للبياض بشكلٍ جميلٍ ومحبّب.

إذن، ذلك المساء، الجسدُ /مظهرُ الحياةِ المختلفة؛ جهوزيّة للحضور، والكلام علامةٌ على حقيقةٍ متلعثمة.وكأنّي بالمشهد علامة على ممانعةٍ في مواجهة اجتياح الغياب.

***

6. مظهر الحياة المختلفة ذلك الليل

كانَ القمرُ أخضرَ
ذلك الليل
الجسدُ من عتمةِ الأصابع
الكلامُ من غيبوبةِ النهرِ

الليل، من مغربِ الشمسِ إلى طلوعها، وينتظرهُ القمرُ عادةً حتّى يُبرزَ مفاتنه في أعين السّارين والسمّار. أمّا قمر النصّ، فهو على نضارته منذ الصّباح، يمارسُ فاعليّته في كلّ ظرفٍ كما لو أنّه يمارسُ شعائرَ الخلقِ والإبداع، غير آبهٍ بما يطرأ أو يزول. تغيّرت كلُّ معلوماتنا في رُحاب العالم الشعريّ الذي استدرجنا إليه شاعرنا بول شاوول. وكما لاحظنا ، كلّ ما نعرفه عن عالم القمر والجسد والكلام ، لا يجدي نفعاً، هنا لغةٌ خاصّة، لأنّها بمقتضى رؤيةٌ خاصّة؛ والذي نقوم به هو محاولةُ التعرّفِ إلى هذه اللغةِ الخاصّة وإلام تحيلنا.

"الجسدُ من عتمة الأصابع" نعم الليل يستدعي العتمة، فهما متلازمان خلقة، إذْ عتمةُ الليلِ ظلامُه، ولكنّ الجسدَ هنا ليس من عتمةِ الليلِ بل من عتمةِ الأصابع، وهذا يدفعنا نحو إعادة التعرّفِ إلى الأصابع، وكيف يمكن أن تكونَ هويّتُها بعدَ إضافةِ مفردة "عتمة" إليها؟

أصل العتم في كلام العرب المُكث والاحتباس . ومعلومٌ ما في ذلك من لبثٍ وانتظار ووحشة، ومعلومٌ ما لذلك أيضاً من أثرٍ في إعادةِ تكوين الوعي، فالعتمةُ تخفي معالم الأشياء أو تكاد، ولكنّ الأذهانَ لا تذعن بسهولة، بل تضطربُ، وينشطُ اللاوعي؛ وإذا كان الليلُ وعتمته قديما مسرحاً للجن والغول والغرائب العجائب ، فإنّه لن يكفّ عن ذلك في سنة 1985 ، وإنْ أخذت أسماء أخرى. وإذا كان الشّاعرُ قديماً وحديثاً ، يمتازُ من الآخرين، بأنّه يسجّلُ ما يرى من غرائب عجائب، فإنّ الأصابع اليوم لها دورٌ أساسيّ في تسجيلِ ذلك. إذن،هي وسيلة الممانعة، وعندما يضيف الشّاعرُ إليها مفردة "عتمة"، فإنّما ينزلها منزلة المستوحشِ المضطرب، وإذْ يكون نوع الجسدِ من هذه العتمة، فإننا أمام جسدٍ اجتاحه الليلُ ، ولكنّ القمرَ الأخضرَ منحه القدرة على الحضور الممانع، فـ"عتمةُ الأصابع" علامةٌ على الحضور الثقافيّ للجسد، وهذا ما يجعله جسداً مختلفاً، فبقدرِ ما تحيلُ مفردةُ "عتمة" إلى السوداويّة والقلق، تحيلُ مفردةُ "الأصابع" إلى الإشارة والحضور والانفتاح. وكأنيّ بذلك الليل يفشلُ في إخضاعِ الجسدِ لسلطانه، وإنْ كان المظهر يوحي بذلك؛ فالأصابعُ وإنْ بدت مضطربة فهي علامة على الأثر الباقي.

أمّا المظهرُ الثاني للحياة المختلفة، فهو في نوع الكلام ذلك الليل، إنّه "من غيبوبةِ النهر" والغيبوبةُ هي الاختفاء المؤقّت، وعندما يختفي النهر مؤقتاً لا يعني أنّه نضب، نعم إنّه مشهدٌ مربك، إذْ يحيلُ إلى موقف الذي يرى، فالنهر علامةُ خصبٍ وحياة، وهومطلبٌ إذْ تعزُّ الخصوبةُ، وأنْ يفقده الذي يرى، فذلك صدمةٌ تصيبُ قعرَ النفس بالكمد.

ارتبطت الغيبوبةُ في لغتنا اليوم بحالٍ مرضيّةٍ يفقدُ فيها المريضُ وعيه مؤقتاً. الغيبوبةُ ليست موتاً لكنّها قد توصلُ إلى الموت إذا لم يتعهّد المريضَ طبيبٌ ماهر.

النهر مريض ، يفقد وعيه، يندفع مختفياً لا يؤدّي وظيفته، أو يؤدي وظيفةً أخرى من دون وعي، كأنْ يُغرق، أو يجرف، أو...

إذن، غيبوبةُ النهر حالٌ مرّضيّة، قد تتمظهرُ عبرَ الرّكودِ، وقد تتمظهرُ عبر الهياج الفالت من عقال الوعي.

يقدّم لنا هذا المركّب الإضافيّ من خلال العلاقة بين عنصريه مشهدَ حياة معتلّة، والإحيائيّة التي يمارسها الشّاعرُ إذْ ينزل النهر منزلةَ الكائن الذي يعي ويفقد الوعي؛ فهذا ليزيدَ من قدرة المشهد على إظهار نوع الكلام ذلك الليل، فهو ليس معدوماً كما أنّه ليس حيّاً.

مع أنّ الغيبوبةَ تنذر بالعدم فهي إلى الوجودِ أقرب ، والذي يجعلنا نخمّن إمكان العودةِ إلى الحياة، كون هذا المشهد الحيويّ مظهر الحياة المختلفة التي يقتضيها اخضرارُ القمر .

ما زالَ الشّاعرُ موفّقاً في خلقِ لغته، إذْ في كلّ ظرفٍ نسأل، ما الذي يجعلُ الشّاعرَ يختارُ هذه المفردةَ دون سواها لتقديم رؤيتهِ الخاصّة، فإذا بنا أمام جوابٍ من لدن الشاعر في نصّه، وهو أنّك لن تجدَ في المعجم مفردةً يمكنها أن تؤدي هذه الرؤية مثلما تؤديها المفردة المنتخبة.وهنا_أيضاً_ مكمنُ الإبداع الشعريّ، أو مكمن الجمال الخلاّق.

***

7. مظهر الحياة المختلفة ذلك الفجْر
كانَ القمرُ أخضرَ
ذلك الفجر
الجسدُ من أسرّةٍ متعبة
الكلامُ من حواسّ تُقْ

بِل

ممَّ سيكون نوع الجسد ؟ وممَّ سيكونُ نوعُ الكلام؟ فالمتغيّرُ هو الظّرف، فقد وصلنا إلى ختام الدورة الزمنيّة، التي كانت من الصباح، مروراً بالظهيرة والمساء والليل، واختتاماً الآن بالفجر. فهل للفجر مزيةٌ بين محطّات الزّمن؟

"فجرالفاء والجيم والراء أصلٌ واحدٌ، وهو التفتح في الشَّيء. من ذلك الفَجْر: انفِجار الظُّلْمة عن الصُّبح" ،إذن هي لحظة سريعة، لحظة الفصل بين العتمة والضوء، وكأنّي بالعرب عندما عبّروا بهذه المفردة عن هذه اللحظة ، كانوا قد رأوا أن الضوء يخرج من قلب الظلمة، يمزّق الحجبَ، أو يفجّر الموانع من حوله ويطلّ، ولأنّ المفردةَ علامةٌ على مصادرة الرؤيةِ العربيّةِ للمشهد، فلا يمكننا ونحن نستعملها الآن أن نبرّئها من تاريخها،وبالتالي سيكون لما تنطوي عليها من خبراتٍ سابقة أثرٌ في السياق الذي تردُ فيه، كما يلاحظ ذلك باختين في قوله :" إنّ كلّ عضوٍ من أعضاء المجموعة الناطقة لا يجد كلماتٍ لسانيّة محايدة ومتحرّرة من تقويمات الآخرين وتوجيهاتهم، بل يجد كلماتٍ تسكنها أصواتٌ أخرى، وهو يتلقاها بصوت الآخرين، مترعةً بصوت الآخرين. إنَّ فكرَهُ لا يجد إلاّ كلماتٍ قد تمَّ حجزها" .فالشّاعرُ قدّم مفردةَ الفجر هنا علامةَ على نهاية دورةِ الجسد، ولكن بوصفنا قراء هل يمكننا أنْ نخلّصَ الفجرَ من كونه بداية الدورة؟ بالطبع ؛ إنّ النصّ عندما يصبحُ عرضةً للقراءة يكون قد تفلّت من مداره في فلك الشّاعر، ولكنّ ذلك ليس بالمطلق، فالشّاعرُ المبدع هو الذي يبقى حاضراً في النصّ حتى في اللحظةِ التي يشعرُ فيها القارئُ أنّه هو السيّدُ، لأنّ الشّاعرَ لا يمكنُ أن يبدع من دون أن يكونَ للمتلقّي سلطةً في تشكيلِ نصّه، فالشّاعرُ مسكونٌ بالمتلقّي وهو في أقاصي عزلته، والنصُّ مسكونٌ بالشّاعرِ وهو في أقاصي غربته.

إذن؛ ذلك الفجر، هو البداية والنهاية، البدايةُ تبعاً لمقتضى إرث العلامة، وهو النهاية، تبعاً لموقعها في السياق. هل يمكن أن يكون الشّاعرُ قد استعمل هذه العلامةَ بعد أن حرّرها من إرثها؟

الفجرُ ظرف يشهدُ مظهر الحياة المختلفةِ في الجسدِ والكلام، والحياة المختلفة تقتضي لغةً مختلفة، فهو نهاية ليل، ونهاية مظهر الحياة المختلفةِ في ذلك الليل، هو باختصار محطّةٌ إيجابيّةٌ من كونه نهاية ليل وظلمته، وهو برؤية القارئ بداية ضوء، وفي ذلك إيجابيّةٌ بيّنة، ولا يمكن أن يكون تضاربٌ بين الإيجابيّات، إلا أنّ المشهدَ واحد، وكلّ واحد يراه من زاويته، والملاحظة ترتبط بالملاحِظ حسب تعبير الفيزيائيين.

الملاحِظُ المبدع، ينهي دورة الجسد في هذا الظرف ".. الفجر"، فما هو مظهر ذلك في نوع الجسد؟ إنّه من أسرّةٍ متعبة، التعب شعور بالألم أو الفتور أو الانزعاج أو المشقّة ناتج عن عمل شديد أو جهد مرهق أو حرارة أو نحو ذلك. فهل الأسرّة ممن يشعر هذا الشّعور؟ وماذا يعني أن يُنزلَ الشاعرُ الأسرّةَ هذه المنزلة، هل يقصد فقط إلى لفت أنظارنا وإدهاشنا، أم أنّ مقتضى ذلك هو نوع الجسد كما يبدو له فعلاً ؟ وإلام يحيلُ كلُّ هذا؟
عندما نقرأُ مفردةَ أسرّة يُستدعى إلى أذهاننا النوم الذي يهوي بجسومنا الفالتة من عقال الصحو، لتكون ثقيلةً في موقعها الرّاهن، كما أنّ لصيغةِ الجمع والتنكير دلالات بالغة الأهميّة، إذْ إنّ الجمع يدخل مخيالنا في الإطلاق، في حين أن التنكير يدخله في الشّيوع. والإطلاقُ والشيوع كلاهما يدعّمانِ الموقفَ الوجدانيّ الذي تستدعيه الأسرّة الموصوفة بالمتعبة، مع أن الوصف يزيلُ التنكير، لكنّه بحسب النحاة تصبح النكرة مع الوصف شبه معرفةٍ، وفائدة ذلك بأنّها تحرّضُ الذهن باتجاه التعيين، إلا أنّها لا تدخله، وهنا مكمن الإثارة.

وبالعودةِ إلى لفظة أسرّة بما هي عليه، يمكننا أن نلحظَ _أيضاً_ أنّها تنتمي إلى جذرٍ واحد مع عدد من الألفاظِ المثيرة مثل "سرور، سرّ، سريرة" فهذه القرابة اللفظيّة تشيرُ إلى قرابة في المعنى ، فالسّرورُ شعور، والسرّ ما يكتمه الإنسان ولا يريد لأحدٍ أن يطّلعَ عليه لشعورٍ ما، والسريرة جمعها سرائر، هي خطوط الوجه وتظهرُ فيها ملامح المواقف الشعوريّة للإنسان ويعتمدُ عليها المتفرّسون في الوجوه. ويمكن أن يكون السريرُ قد سمّي بهذا الاسم لكونه ما يوفّرُ الشعورَ بالارتياح الجسديّ، والنفسيّ لأسبابٍ عدّة، فالنكاح"سرّ" وخفضُ العيشِ وهناؤه " سرير"... والنعمةُ "سرّاء".

إذن؛ احتشدت في معنى سرير كل هذه العناصر، ولكنّها حتّى تشكلَ نوع الجسد توصف بـ"متعبة"، ما يعني أنّ نهايةَ دورة الجسد، هي نهايةُ هذا الشعور، فهل يعني هذا أنّ النصّ ينتهي بنا إلى مرثيّة؟ بالطبع لا ، وذلك أنّ المسألةَ وإن انطوت على نهايةٍ فهي نقطةٌ في دورة، ما يعني أنّ الاستمرارَ هو السّمة. والذي يؤكّدُ ذلك، نوع الكلام "من حواسّ تقبل".

الحواسّ صلة الجسد بالعالم، وإذْ ينهي الفجرُ شعورَ الجسدِ بالارتياح، يبدأ الجسدُ باستدعاء حواسّه. نهاية الارتياح بدء الحركة، وذلك مظهرُ الحياة المختلفة في نوع الكلام، الكلام حضور الجسد.

إذن، الجسدُ يحقّقُ حضوره ذلك الفجر عن طريق الكلام، الحواسّ القادمة. وهذا يفتحُ أمامنا إمكانَ إعادة خلقِ العالم، فالحواسّ التي كانت البارحة، ليست هي اليوم ما يعني أنّ الجسدَ عندما يكملُ دورته، يكون قد أكملَ خلقاً للعالم، وعندما يكون الفجرُ تقبلُ حواسّه ليبدأ خلق عالمٍ آخر.

***

8. مظهر الحياة المختلفة ذلك الصّباح

كانَ القمرُ أخضرَ
ذلك الصباح

يختتم الشّاعر قصيدته، ببداية، وفي هذه البدايةِ علامتان، الأولى "كان القمر أخضر" وهذا عهدناه البارحة في كلّ ظرف، وعهدنا فاعليتَه ومظاهرَ هذه الفاعلية في الجسد والكلام. والعلامة الثانية "ذلك الصباح" ،وقد عهدنا هذا الظّرفَ في مستهلّ دورة الجسد هذه.

هاتان العلامتان تحيلان إلى أنّ الأمرَ معهود، وصار بالإمكان توقّعُ مظاهرِ الحياة المختلفةِ في كلّ ظرف، شريطة أن يكون القمرُ أخضر، أي أن يتوفّرَ الفاعل الحيوي. وكما خلقَ الشّاعرُ فاعلَ الاختلافِ الحياتيّ، يمكن لأيّ سالكٍ أنْ يخلقَ فاعلَ الاختلاف المفاجئ والمدهش، لأنّه لن يكون جديداً ما لا يدهش.

9. الخاتمة

لاحظ الشّاعرُ دورةَ الجسد، وبملاحظته فتحَ أمامنا الآفاقَ واسعةً، فقد لاحظَ أنّ التغيّر في الجسدِ يلازمه على الدوام تغيّرٌ في الكلام، وذلك يحيلُ إلى أنّ الحضورَ الفعليّ للإنسانِ يكونُ من خلالِ كلامه، والذي يريدُ حضوراً مختلفاً يجب أن يحرص على اختلافِ كلامه.

أيكون بول شاوول أوّلَ منْ لاحظَ ذلك، حتّى أراني مندهشاً؟ بالطبع لا، فقد قال أرسطو قديماً :" تكلّم ياولدي حتّى أراك" والنّبيّ محمّد(ص) قال: "ليس العربيّ بأبٍ منكم أو أمّ بل العربيّ من تكلّم العربيّة". إذن ما المدهش في ما قاله بول شاوول؟.

المدهشُ لا يكمنُ في الملاحظة، بل في آليّة إظهارها عبر النصّ، حيثُ حشَّدَ الملحوظَ في أقلِّ قدرٍ ممكن من البنى الأفقيّة(الصيغ التركيبيّة)، لتسقطَ عليها، أو تتدلّى منها حشودُ البنى الرأسيّة (المحور الاستبداليّ)، فيكون للقارئِ أنْ يغامرَ في شعابِ النصّ، كما لو أنّه في كوكبٍ آخر ومن دون دليل، فكلّ مرئيٍّ هناك مدهش.

وجدنا _ مثلاً _ في هذا النصّ أنّ الشاعر قد اعتمد الجملَ الاسميّةَ التي هي أثبتُ في الدلالةِ من الجملِ الفعليّة، والذي اقتضى ذلك يقينيّةُ الشاعرِ بإزاء رؤاه، فهو لا يلجأ إلى الصيغِ التركيبيّةِ الجاهزة، بل نراه كما لو أنّه اخترع الجملَ الاسميّة في اللغة لتؤدّي مرادَه، وهذا يذكّرنا بما ذهبت إليه جوليا كريستيفا حين تقول:" إنّ النصَّ ليس تلك اللغةَ التواصليّةَ التي يقنّنها النحو" بل هو" جهازٌ عبر لسانيّ يعيدُ توزيع نظامِ اللسان" ، فالجمل الاسميّة لم تكن جاهزةً أو لم تكن لتشكّلَ ظاهرةً أسلوبيّةً في الأصل، ولكنّ المبدع بعد أن فرغ من الإمساكِ بملاحظاته، وبعد أن استبعد من المَشاهِدِ التي رآها بعين قلبه ما استبعد، لم يكن له أن ينقلَ إلينا مشاهداتِه في رحلته الشعريّة،إلا بهذه الطريقةِ، أو بهذه الظواهرِ الأسلوبيّة. وذلك يؤكّد ما ذهب إليه الجرجاني سابقاً في قوله :" إن الألفاظ إذا كانت أوعية للمعاني فإنها لا محالة تتبع المعاني في مواقعها" . ونحن لا نورد كلّ هذا لنثبت إبداعيةَ بول شاوول وشاعريته، فالرجلُ لا يحتاجُ إلى شهادتنا في ذلك، ولكننا نورد هذا لنقول إنّ النص مُحْكَمٌ بمقتضى المعاني المُحْكَمَة، أي بمقتضى الجديد الذي يقدّمه.

وأخيراً استطاع هذا النصّ أن يفاجئنا على الدوام، من كونه يحيلُ غلى أبعد من ظاهر العلامة، فالعلاقات بين العلامات التي يشكّلُ النصُّ نظاماً خاصّاً لها، هي علاقات لا تنتجُ الا ظاهرالمعنى، ولكنّها تخرج المكنونَ من أصدافه في ذهن المتلقّي، وينفلتُ النظامُ المألوفُ من عقاله، فنكون حقّاً عندَ خالصِ الشِّعر.

لا يُرصَدُ الجميل في ظاهرِ العلامة، بل في ما تُحيلُ إليه

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى