الفكر الآخر
من البديهي أن يشعر المرء منا بأنه منبوذ عن مجتمعه أو مختلف كليا أو حتى غريب الأطوار ذلك عندما يتعرض لحادث ما أو أن يصاب بأزمة ما تغير مجرى حياته، أو مرض قد آيس الأطباء من شفائه، كأن يصاب الواحد منا بمرض عضال أو أي مرض جلدي قد يسبب العدوى أو قد أُصيب بعاهة جسدية ما، أو لسبب أو لآخر فقد تلك الحواس التي تجعله شخصا مألوفا....يدرك المرء منا حينها أن عليه أن يغادر أو أن يتوارى عن أعين المتطفلين، أو ذوي الأنياب الحادة والألسن السليطة التي لا تعرف الرحمة، وفي أبسط الحالات يقعي على حاله بعيدا عن مجسات الشفقة...
الجيد في هذا كله أن الحقيقة فيه لا تقبل الرهان أو التملص من الواقع فلا نستطيع التمويه أو تغيير الأسماء..
لكن الأسوأ في أن لا يعلم المرء أن المرض قد استشرى فيه كالطاعون.. وإن كان بتر العضو أمرا هينا فنزع الروح أمر لا قدرة لبني البشر عليه، فذلك الجزء الذي تتراكم حوله صمامات انعدم فيها الإحساس والقدرة على التمييز استحالت إلى باصور..
..وباصور العقل أعقد من أي باصور آخر فقد يكون نرجسية من نوع مقيت أو جنون العظمة أو فوبيا النظافة أو قد يتخذ أي شكل آخر ..فيكون الأمر أشد إيلاما في حال التفكير في اجتثاثه لأن صاحبه لا يعلم أنه كالجمل لا يرى إعوجاج رقبته، فلا يكون مالكا القدرة على فرملة السلوك ويبقى عازفا منفردا فيكون عزفه نشازا، وهو بذلك قد انزلق كالزيبق في علاقاته مع الآخرين، ولا يعترف بمفهوم كراهيتهم له وعدَّه منبوذا بطريقة أو بأخرى..ورغم كل شيء يبقى محافظا على اللقطة، متصدرا الصورة..
ووديع رؤوف الذي لم يعرف يوما أنه يملك كل تلك الأمراض النفسية ظل محافظا على منطقه المتحذلق وتشدقه في الكلام.. حصوله على معرفة الآخرين هو فن في الفشل.. فتلك القائمة الطويلة التي يملكها بأسماء الكثيرين وعناوينهم وأماكن سكناهم وأرقام هواتفهم لا تعني سوى مزيدا من تلك الرنة التي لا يخطئها من يسمعها والتي لا تعني سوى شيئا واحدا أن الاتصال قد قطع..
تلك الرغبة لديه في تسجيل أكبر قائمة بالمعجبين، لا يمكنه كبحها لأنه ببساطة لا يعلم بمقدار ازدراء الآخرين له، حتى فاروق عبد اللطيف، الذي يمكن أن يعتبر نفسه منقذ وديع من أزماته لوصية كان قد أوصي بها من قبل أم وديع قبل أن تلفظ أنفاسها الأخيرة.. لا يذكر كم مضى على ذلك العهد الذي أضناه وأثقل كاهله؟؟ ربما يخطأ بالحساب لكنه لن يكون أقل من خمس سنوات على أقل تقدير.. كان حينها وديع في الثانوية العامة والتي حصل فيها مجموع يؤهله لدخول كلية التجارة ولكنه ببساطة قرر أن يلتحق بكلية الفنون، لأنه يعتبر نفسه بسبب أو بدونه فنانا بالفطرة، رغم أن جميع من أبصر لوحاته قرر أن يعتزل الفن..
فلم تكن معبرة عن شيء سوى خرابيش، قد يكون ما يضعه الأطفال على الجدران من خطوط مستقيمة أو متعرجة أو أشكال هندسية لا يعلم بالضبط ما قصد منها أفضل حالا منه.. وتبقى اعتذارات فاروق مع ابتسامة خافتة عن تلك المطبات التي يقع فيها وديع أمرا لن يترك هكذا بالمطلق، وباتت عبارته التي تناقلتها الألسن وكان لانتشارها كالنار في الهشيم أثره في إضفاء نكهة السخرية على وجود وديع.. فقد كان فاروق دائم التأكيد على أن.." وديع كإصبع القدم الأوسط الذي لا يؤثر عليه الحذاء الضيق، ولا يصاب بكدمة ما عند ارتطام القدم.." فهو لا يشكل ذلك الفارق في حياة أيٍّ من مجتمعه، وعلى مدى السنوات الخمس التي لم يتمكن فيها وديع من الحصول على إجازة في الفنون..فقد بدا بنظر الجميع لا محل له من الإعراب... وداد صبري تلك الفتاة التي يعدها الكثيرون إلى جانب جمالها البارع تعتبر نفسها مصلحة اجتماعية، وكثيرا ما تجد في أجندتها الكثير من الرتوش حول المشاكل التي تمكنت من حلها وموجزا بسيطا عن صاحبها، قد يكون ذلك برمز ما كأرقام أو رسم، وفي النادر ما يكون جملة صريحة تتضمن اسم صاحب أو صاحبة المشكلة..
عندما كانت تتابع تلك الشعارات الرنانة وتلك الأشعار التي يصدح بها كانت مثيرة لفضولها رغم أنها كانت تعاني من عرج في الوزن..لكن لتلك الكلمات التي تخرج من حنجرته كعندليب قطعت أوتاره..وقع في قلبها...
أحتسي الوجع خمرا يُسكرني..
فلا كم الجوع يُضنيني
ولا حزم الفقر تقتلني
خطبي أني عاشق وحب الصبِّ قاتلي..
وطبول الحرب وعرس الثكالى يعذبني
ثم ما يلبث أن يستفيق على صيحة مفزعة يتبعها بأقذع السباب عن الامبريالية وحق تقرير المصير لشعوب الأرض ولممالك النمل وقراه بأكملها ..وديع رؤوف بالنسبة لوداد رواية ليس لها بداية ولكن نهايتها محتومة ..قد يسجن طيلة حياته في مفهوم القسوة البشرية والجنون وقد يوضع في مصحة للأمراض النفسية..
لا تدري بالضبط ما الذي شدها إليه؟ ..أيكون إشفاقها عليه ورغبتها في إنفاذه من سجنه؟؟ أم تلك الدغدغة التي أرغت رغوة في محيط قلبها؟؟؟
لم تعرف إن كان ما يسمونه الحب؟؟ وإن كان وديع استهواها في تلك القدرة العجيبة في مهارة الخطابة؟
..ربما كل ذلك ذكرها بتلك المقولة التي قرأتها في إحدى الكتب.."إن أردت أن تستنطق حجرا فعلمه أولا كيف يقرأ وإن كنت تريد ملاكا فعلمه قبل كل شيء كيف تكون إنسانا وإن أردت أن تهدي فاسقا فكن رهبانا..وإن أردت أن تقاتل جيشا علم جنديك مهارة الحوار قبل فن الخديعة.."
وكون وديع يملك تشدقا في الخطاب وتطرفا لا نظير له، فعليها أن تعرف أن مهمتها ليست بالسهلة فكل المنافذ إلى قلعته الأسطورية محكمة الإغلاق بمتاريس من اعتداد أعمى بالنفس.. فعندما يجتمع الكثيرون حول لوحة ما بغية نقدها ودراستها، يكون قد شق الصفوف نافخا صدره كديك تركي واضعا يديه في جيبي بنطلون القماش الباهت لونه فلا يُعلم أي لون كان..فيسمع نقده اللاذع قبل ظهور صورته... فتشكيلة الألوان ودرجات الظل والرسم ذاته قد تأخذ منه ساعات طويلة في نقدها وتجريدها، كونها لا تخرج عن إطار غباء فني قد استنفذ صاحبه الذوق الرفيع.. فصورة امرأة مثلا تحمل على رأسها جرة ماء، وقد بدا على محياها التعب والضنك، وأرخت جيدها بانحناءة وهنا ما في ظل شمس حارقة، بمزيج لوني غامق والألوان في دوائر متتالية ..فإنه يراها على عكس ما يراه الجميع من بلاغة فنية..فهو يرى في ذلك الرسم، طاقة سماوية متشعبة تتمركز في نقطة معينة تجذب إليها هذه المرأة التي تحمل هموما وتعبا إلى حيث يمنحها اللجوء إلى السماء عدالة ما، قد تكون من العذاب نفسه.. إذ أن العدالة لا تعني بالضرورة الراحة الذاتية، التي تتصالح فيها جميع القوى من خير وشر على حقيقة الرضا.. وقد لا يعني الرضا الإنصاف إذ أن الإنصاف لا يمكن أن يمنحه أحد مهما تفوق لأنه لا يملكه..و في الحقيقة فجميع المخلوقات على دناءتها تبحث عن قوى عظمى تحقق لها هذا الإنصاف، ولا يمكن أن ينتهي حديثه عند هذا الحد، فسيثير قضايا في المساواة والعنف والاغتصاب، وقد يعرج على السياسة والفساد الحكومي والسياسة المضادة والصواريخ والقنابل العنقودية واللجان الدولية والايدز وغيرها من القضايا التي لا تستهوي أحدا إلا من استأصل كل ما في جوفه من مرارة وزائدة دودية وأجرى عملية للقلب المفتوح ..
فجنون الحياة يستطيع البشر تحمله رغم مرارة كأسه إلا أنهم لا يستطيعون تحمل جنون البشر وغوغائيتهم.. فإن كانت الأبصار مع وديع رؤوف إلا أنها أبصار قد سقطت منها كاميرا التسجيل فهي أبصار بلا ذاكرة...أما من أبقى بصره وذهنه مشغولا في كلامه فإنه دون شك سوف يصاب بالغثيان لا محالة... فترى الجموع قد تفرقت وتركته وحيدا في صالات تتجاوز في أبعادها عشرة في عشرة من الأمتار المربعة.. يحاضر فيها الوجوه التعسة التي يستحضرها عقله الباطن..
وعندما منحته الجامعة فرصة أخيرة للتخرج بعد سلسلة من الإنذارات بالفصل، لم يكن ليوقفه هذا عما يهوى القيام به..بل زاد الطين بله في تصدره لمنصة الخطاب وسط الميدان التي كانت منحوتة بوق، فقد خلع ملابسه ليغدو عاريا متحررا إلا من ملابسه الداخلية وحذاءه، معلنا أنه قد حان الميعاد للعودة للأصل البشري و بداية للتحرير الإنساني من الاضطهاد.. وإن كان مارتن لوثر قد حرر السود من سطوة البيض فهو سيحرر العالم بأسره من سطوة العنف والتفرقة والاضطهاد.. وسيكون كهنبيعل حاميا لإمبراطورية قرطاجة ..
...لم يكن ليسقط أيا من الحقائق التاريخية، فقد كان بحد ذاته تاريخا متنقلا متقمصا للأدوار وكان هذا ما يشكل علامة فارقة في قرار وداد في مساعدته.. رغم كل الأحاديث عنه وعن جنونه وتلك الصور التي التقطت له وهو يزحف وراء الحرس الجامعي ممثلا حركات جنونية ليقاد إلى لجنة تأديبية بتهمة خدشه الحياء العام.. كان صوته حينها مجلجلا:" أن الإنسان الأول كان أكثر تمتعا بالحرية، وأن حياة القرود أفضل بكثير من العقد والتزمت والتطرف التي يعاني منها البشر في بداية الحقبة المتخلفة.." على حد تعبيره..
البطولات التي قادها بسرواله الداخلي كانت تعبر عن مدى الجوع العربي، ومقدار الفواجع التي مرت على أرضه..وذلك الكم من الألم و الصراع الذاتي..فذلك السروال الداخلي الذي رسم عليه كفان يتصافحان..قد خيط من تلك الأكياس التي ملئت بالمعونات للاجئي 48 و67..والتي ما زالت تلقي بمعوناتها على أرض زخرت سماؤها بقنابل وزرعت أراضيها بحقول الألغام...إن هذا الكائن المعجون بعذاب لم يكن له يد فيه..يحتاج أكثر من وداد فهمي ليعيده إلى نقطة ما يستوعب فيها أن حجم ما هو فيه لا يعنيه بالضرورة، ليتمكن من التصالح مع ذاته و مجتمعه بفكر لا يمكن تسميته الفكر الآخر...