القرآن والوحي
كانت الأمة العربية قبل ظهور النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على شكل قبائل وطوائف مشتتة متباعدة متنافرة، وكان الاضطرابُ السياسي والفساد الاجتماعي والاختلاف الطبقاتي يخيم على جزيرة العرب، حيث لا نظامَ يحدد العلاقات ويضبطها ولا قانون يحكم بين الناس، بل كل ما كان عادات وتقاليد وأوهام ورثها الأبناء عن الآباء والأجداد.
فمن الناحية الدينية كان أكثر أبناء الجزيرة وثنيين يعبدون الأصنام عدا أقلية من الحنيفية الذين آمنوا بالله تعالى وحافظوا على دين ابراهيم عليه السلام. وأقلية أخرى من اليهود الذين استوطنوا المدينة والطائف، والمسيحيين الذين انتشروا في اليمن ونجرانَ وما حولهما.
أما من الناحية الاقتصادية، فكانت قريش تسيطر على تجارة الجزيرة ولها رحلتا الشتاء والصيف، حيث تنقلُ البضائع من الشام والحبشة الى الجزيرة تبيعها الى مختلف أبناء القبائل الأخرى الذين لا يملكون من القوت إلاّ ما يمسك الرمق، فيعيشون على رعي الإبل والغنم، يتغذون من لحومها وألبانها ويتدثرون بأوبارها وأصوافها.
أما الصناعة فلم يكن عندهم صناعة تُذكر سِوى ما يُقيم بعضاً من حاجاتهم الماسة في الطائف ويثرب.
وكانت روابطهم بالدولتين العظميين الإمبراطورية الفارسية والامبراطورية البيزنطية ضعيفةً في داخل الجزيرة قويةً على الأطراف ولكنها علاقة القوي بالضعيف والمستعمِر بالمستعمَر.
وكان نبوغهم يتجسد في اللغة والشعر، حيث بلغت اللغة العربية أوجها في الكمال والدقة والفن، فنظم بها شعراء كبار وغدت طيّعةً على أفواه الخطباء والمتكلمين.
غير أنّ هذه اللغة المتكاملة أصبحت يتيمة في مجتمع غلبَ عليه الفساد والفوضى الدينية والسياسية والاجتماعية، حيث ظهر نور الهداية وبُعِثَ منقذ الأمم، رسولُ الاسلام العظيم محمد بن عبدالله صلى الله عليه وآله وسلم. وأعلن الدعوة الى الاسلام، وبدأت مع الدعوة عملية التغيير التي لم تشهد لها الانسانية مثيلاً. ومن جملة ما بدّلته من أحوالهم أنه جمعت كلمتهم وصاروا يداً واحدةً على اختلاف أنسابهم ومواطنهم بعد أن كان اليَمَنيُّ يفاخرُ الحجازي، والمضريّ يفاخر الحميريّ، وعلى هذا يمكننا اعتبار الجاهلية بالنسبة لظهور الاسلام وحضارته المنظمة النامية المتطورة تمثل فترة البربرية الأولى. فهي مرحلة طفولة الأمة العربية التي شبّت عن الطوق وترعرعت بعد نزول القرآن وخطت خطوات واسعة جداً من الظلام الى النور، ومن طرق وعرة الى طريق واضح لاحبٍ ومن فوضى الى نظم ومقاييس وتقنين.
وعلى أي حال، فظهور الاسلام في جزيرة العرب شغلَ أهلها في أثناء حياة الرسول ومعظم أيام الخلفاء الراشدين بالفتوحات والجهاد والأسفار، وان القرآن الكريم أخذ بمجامع قلوب الناس واستقرّ في المكان الأول من أذهانهم وغيّر من عاداتهم وأخلاقهم وسائر أحوالهم، فظهر ذلك في حياتهم الخاصة والعامة في علومهم وآدابهم.
أما القرآن، فهو خصوص ما أنزل بين الدفتين دون أن يُزاد فيه حرف أو ينقص «تَنزيلٌ من الرحمن الرحيم، كتابٌ فُصِّلتْ أياتُه قرآناً عربياً لقومٍ يعلمون» [1] . ويسمى أيضاً الفرقان، والذكر والتنزيل والمصحف والكتاب، تتناول آياتُه العقيدة والسنة الأخلاقية والاجتماعية. ويتكون من ستة آلاف وثلاثمائة واثنتين وأربعين آية منها خمسمائة آية تتعلق بالأحكام، ونظمت هذه الآيات في سور بلغ مجموعها مائة وأربع عشرة سورة، أولها سورة الحمد وآخرها سورة الناس، وآخرُ ما نزل من آياته قوله سبحانه وتعالى :
«اليوم أكملتُ لكم دينكم وأتممتُ عليكم نعمتي ورضيتُ لكم الاسلامَ دينا» [2].
نزول الوحي:
كان أول ما بُدئ به رسول الله صلى الله وعليه وآله وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رؤيا إلاّ مثل فَلَق الصبح. فمكثَ على هذه الحال مدة مالَ خلالها الى الخلوة والاعتزال في الجبال والشعب، وكان يعتكف بغار حراء يتحنث [يتعبد] فيه حتى كانت الليلة التي أكرمه الله فيها ورحم العباد بها وهي ليلة القدر في رمضان من السنة الحادية والاربعين من ميلاده صلى الله عليه وآله وسلم «إنّا أنزَلناه في ليلة القدر» [3]، «شهر رمضان الذي أنزلَ فيه القرآنَ هدىً للناس» [4] . حيث ابتدأ نزول القرآن، وإن أول ما أنزل من القرآن المجيد «إقرأ بإسم ربّك الذي خلَقْ» [5] . وبعد مدة من الزمن أمر الله عز وجلّ نبيه محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أن يُنذر قومَه عذاب الله على ما هم عليه من عبادة الاصنام دونَ الله الذي خلَقهم ورزقهم وأن يحدِّث بنعمة ربه عليه بقوله : " وأما بنعمة ربِّك فحدِّث " أي ما جاءَك من الله من نعمتِه وكرامته من النبوة فحدّث، أذكرها وادعُ إليها.
فجعل رسول الله (ص) يحدّث سراً مَنْ يطمئن إليه من أهله بما أنعم الله عليه وعلى العباد من النبوة لعلمه بما سيكون لها من ثقل الوطأة على قريش لما فيها من تعييب آلهتهم وتحقير أصنامهم. وفي ذهاب تلك الأصنام ذهاب تجارتهم وأموالهم وكل آمالهم.
ولم يكن من جهة أخرى يتوقع أن يصدقوه إذا أتاهم برسالته، فعمدَ الى بثّ دعوته سراً بين أقرب الناس إليه.
فكان أول من صدّقه وآمن به واتبعه من خلق الله زوجته خديجة رحمها الله. وكان أول ذَكَر آمن به وصلى معه وصدّقه بما جاءَه من عندالله الامام علي بن أبي طالب عليه السلام. [6].
قال ابن عباس: أول من صلى عليّ بن أبي طالب عليه السلام، وقال زيد بن أرقم: أول رجل صلى مع رسول الله (ص) ، علي بن أبي طالب عليه السلام. [7].
قال عبّاد بن عبدالله: سمعتُ علياً يقول: أنا عبدالله، وأخو رسوله، وأنا الصدّيق الأكبر لا يقولها بعدي إلاّ كاذب مُفْتَرٍ، صليت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبلَ الناس بسبع سنين [8]. وقال زيد بن أرقم: أول من أسْلَمَ مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، علي بن أبي طالب عليه السلام [9].
وحدّث يحيى بن عفيف، عن عفيف، قال: جئتُ في الجاهلية الى مكة فنَزَلتُ على العباس بن عبدالمطلب، قال: فلما طَلَعتْ الشمس وحلّقت في السماء وأنا أنظر على الكعبة، أقبلَ شاب، فرمى ببصره الى السماء، ثم استقبل الكعبة فقام مُستقبلها، فلم يلبَثْ حتى جاء غلام، فقام عن يمينه. قال: فلم يلبث حتى جاءت امرأة فقامت خلفهما، فركع الشاب، فركع الغلام والمرأة، فرفع الشاب، فرفع الغلامُ والمرأة، فخر الشاب ساجداً معه. فقلت: يا عباس، أمرٌ عظيم ! فقال: أمر عظيم ! أتدري مَنْ هذا ؟ فقلت: لا. قال: هذا محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب، ابنُ أخي. أتدري مَنْ هذا معه ؟ قلتُ: لا. قال: هذا علي بن أبي طالب ابن عبدالمطلب، ابن اخي. أتدري من هذه المرأة خلفهما ؟ قلت: لا. قال هذه خديجة بنت خويلد، زوجة ابن اخي، وهذا حدثني أن ربّك ربّ السماء، أمَرَهم بهذا الذي تراهم عليه، وايمُ والله ما أعلمُ على ظهر الأرض كلها أحداً على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة، قال عفيف: ليتني كنتُ رابعا [10]
كيفية تدوين القرآن:
نزلَ القرآن في منطقة من المعمورة سادَ الجهلُ أغلبَ سكانها وإنّ عددَ من يجيد التابة قليل جداً، حتى الذين كانوا يحسنون الكتابة فأنهم بدرجةٍ متوسطةٍ محدودة، وفقَدت كتابتهم الاجادةَ والإحكام اللازمين، وإن النصوص التاريخية الكثيرة التي وقَعَت بيد الباحثين وأهل هذا الفن خير دليل على هذا.
حيث قال بعض المؤرخين: «كان الخط العربي لأول الاسلام غير بالغ الى الغاية من الإحكام والإتقان والإجادة، ولا الى التوسط، لمكان العرب من البداوة والتوحش وبعدهم عن الصنايع، وانظر ما وقع لأجل ذلك في رسم المصحف، حيث رسَمَه الصحابة بخطوطهم، وكانت غير مستحكمةٍ في الإجادة، فخالف الكثير ما اقتضته رسومُ صناعة الخط عند أهلها» [11] .
وقال مؤرخ آخر: " ليس في آثار العرب بالحجاز ما يدلّ على أنّهم كانوا يعرفون الكتابة إلاّ قبيل الاسلام، مع أنهم كانوا محاطين شمالاً وجنوباً بأمم من العرب، خلّفوا نقوشاً كتابية كثيرة، وأشهر تلك الأمم حِمْيَرُ في اليمن، كتبوا بالحرف المسند، والأنباط في الشمال، كتبوا بالحرف النبطي، وآثارهم باقيةً الى هذه الغاية في ضواحي حَوران و البَلقاء" [12] .
وقال مؤرخ ثالث: " الخطّ عند العرب كان مجهولاً قبيل ظهور الاسلام بنحو قرن، لأن أحوالهم الاجتماعية وما كانوا فيه من دوام الحرب والغارات، صَرَفهم عن ذلك. ونعني بهؤلاء العرب عرب الحجاز، الذين ظهرَ فيهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم... " [13].
وأكبر دليل على جهل العرب الكتابة قوله عز وجلّ: " هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته، ويزكيهم، ويُعَلِّمهم الكتابَ والحكمةَ، وإنْ كانوا من قبلُ لفي ضلال مُبين " [14].
وعلى هذا فان كلمة الأميين جمع لكلمة أميّ، والأميّ هو من لا يعرف الكابة ولا القراءة، نسبة الى الأم، لأن الكتابة مكتسبة فهو على ما ولدته أمّه من الجهل بالكتابة [15].
عدد الكتّاب عند ظهور الاسلام:
كان عدد الكتاب عند ظهور الاسلام في مكة والمدينة قليلاً جداً، حيث ذكرَ هذا صاحب فتوح البلدان نقلاً عن أبي بكر عبدالله بن أبي جهم العَدَويّ، وقال : " دخَلَ الاسلام وفي قريش سبعة عشر رجلاً كلهم يكتب: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وابو عبيدة بن الجراح، وطلحة، ويزيد بن أبي سفيان، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وحاطبُ بن عمرو أخو سهيل بن عمرو العامري من قريش، وأبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي، وأبّان بن سعيد بن العاصي بن أمية، وخالد بن سعيد بن العاصي بن أمية أخوه، وعبدالله بن سعدٍ بن أبي سرح العامري، وخويطب بن عبد العُزّي العامري، وأبو سفيان بن حرب بن أمية، ومعاوية بن أبي سفيان، وجهم بن الصّلت بن مخزمة بن المطلب بن عبد مناف، ومن حلفاء قريش العلاء بن الحضرمي [16]. أما في المدينة " يثرب " فعددهم كان على قول أبي عبدالله الزنجاني بضعة عشر رجلاً يعرفون الكتابة [17].
كما كان في الأوس والخزرج عدد ممن يجيد الكتابة وهم: سعد بن عبادة بن دَليم، والمنذر بن عمرو، وأبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، ورافع بن مالك، واسيد بن حُضَير، ومعن بن عديّ البلويّ حليف الأنصار، وبشير بن سعد، وسعد بن الربيع، وأوس بن خوليّ، وعبدالله بن أبي المنافق [18].
وقد زاد عدد المتعلمين نتيجة حثّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إياهم بالاستمرار في تعلّم القراءة والكتابة ومن ذلك ما رواه ابن سعدٍ في طبقاته حيث قال: "أخبرنا الفضل بن دَكين، اخبرنا اسرائيل عن جابر بن عامر قال: أسرَ رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، يوم بدر سبعين أسيراً، وكان يُنادي بهم على قدر أموالهم، وكان أهلُ مكة يكتبون واهل المدينة لا يكتبون، فمن لم يكن له فداءً دفعَ إليه عشرةَ غلمان من غلمان المدينة فعلّمهم، فاذا حذقوا فهو فداؤه " [19] .
كتّاب الرسول:
لقد اختلفَ المؤرخون في عدد كتاب الرسول، حيث جاء في السيرة الحلبية أنّ عدد كتّاب الرسول سواء من كان يكتب الوحي، أو غيره، أو هما معاً، كان ستة وعشرين كاتباً، وعن محكى سيرة العراقي اثنين واربعين، وعن الاستاذ أبي عبدالله الزنجاني: أنّهم كانوا ثلاثة وأربعين ولكن كتاب الوحي منهم كانوا ستة فقط، وقال الطبري تحت عنوان، ذِكر من كانت يكتب لرسول الله: ذُكِرَ أنّ عثمان بن عفان كان يكتب له أحياناً، وأحياناً الامام علي بن أبي طالب وخالد بن سعيد وأبّان بن سعيد والعلاء بن الحضرميّ. قيل: أول من كتبَ له أب يبن كعب، وكان إذا غاب أبيّ كتب له زيد بن ثابت. وكتب له عبدالله بن سعد بن أبي سَرح، ثم ارتدّ عن الاسلام، ثم راجع الاسلام يوم فتح مكة. وكتبَ له حنظلة الأُسيدي [20]
وذكر هذا الأمر ابن الأثير في تاريخه ودوّن نفس ما ذكره الطبري أعلاه بدون زيادة أو نقصان [21].
وجاء في " لغت نامه دهخدا " مجلد حرف الكاف، الصفحة 90، تحت كلمة [كاتب وحي]، نقلاً عن تجارب السلف، ص6 ما ترجمته: " كان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عشرة كتّاب، كتَبَ قسم منهم الوحي وكتبَ القسم الآخر حسابَ الصدقاتِ وغنائم الحرب وهم:
عثمان بن عفان.
الامام علي بن أبي طالب.
خالد بن سعيد بن العاص.
أبّان بن سعيد بن العاص.
العلاء بن الحضرمي.
أبيّ بن كعب.
زيد بن ثابت.
عبدالله بن سعيد.
معاوية.
حنظلة الأسيدي.
ثم أضاف في مجلد حرف القاف، الصفحة 204 العمود الثالث تحت كلمة [قرآن] ما ترجمته: " وكان للرسول كتّاب يكتبون ما ينزل من القرآن الكريم، عُرِفوا بكتّاب الوحي، ومنهم: أبو بكر، عمر، عثمان، الامام علي، الزبير، خالد بن سعيد بن العاص، أبّان بن سعيد بن العاص، علاء الحضرمي، أبيّ بن كعب، معاذ بن جبل، أبو الدرداء عويمر بن مالك، زيد بن ثابت، ابو زيد الأنصاري، وأضاف بن سيرين، تميم الداري، وأضاف القرطبي، أبا ايوب عُبادة بن صامت ".
وقد اتّفق علماء اهل السنة على أنّ من جمع القرآن خمسة أشخاص هم: الامام علي بن أبي طالب عليه السلام، ومعاذ بن جبل، وأبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، وعبدالله بن مسعود. [22]
وجاء في كتاب حبيب السِّير " كُتِبَ بالفارسية " تأليف غياث الدين بن همام الدين الحسيني المدعو " خواند امير " المجلد الأول، ص437 ما ترجمته:
" جاء في روضة الأحباب أنّ كتّاب رسول الله كانوا أربعة أشخاص هم : الامام علي عليه السلام وعثمان بن عفان وأبي بن كعب وزيد بن ثابت، رضي الله عنهم. وكان الامام عليّ وعثمان مكلّفين بكتابة الوحي، وإنْ لم يحضرا قام مقامهما أبيّ بن كعب وزيد بن ثابت، وإن لم يكن في مجلس الرسول واحد من الأربعة المذكورين، كتبَ الوحي من حضرَ من بقية كتاب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
جمع القرآن:
اُحيطَ القرآن الكريم بسياج متين من المحافظة على نصه محافظة بالغة إذ كانت آياته تُكتب فور نزولها، كما اهتّم المسلمون به اهتماماً بالغاً، حيث لا يرى الباحث كتاباً على وجه البسيطة لا من وضع البشر ولا وحي السماء نالَ ما ناله القرآن المجيد من العناية والرعاية فقد كان المسلمون يحفظون آياته ويتلونها في صلاتهم ويرتلونها آناءَ الليل والنهار، بالاضافة الى أنّ القرآن هو دستورهم الذي يرجعونَ إليه كلَّ ساعة.
ونصوص القرآن صريحة في أن آياته وسوره جميعاً رُتّبتْ بوحي من الله الى رسوله، حيث قال سبحانه وتعالى: «وقال الذين كفروا لولا نُزّل عليه القرآن جملةً واحدةً كذلك لنُثبِّتْ به فؤادك ورتّلناه ترتيلا » [23]. و " إنَّ علينا جمعه وقرآنه " [24].
فلم يُرفع الرسول الى السماء إلاّ بعد ترتيب القرآن وأياتِه وسورهِ ترتبياً كاملاً. وتلقّاه عند الصحابة بهذا الترتيب [25]. علماً بأن أمرَ تدّبر القرآن لم يقتصر على الصحابة وأهل العلم الذين اتخذوه دستوراً لكل أعمالهم، بل ظهرت في المسلمين طوائف سميت بـ "حُفاظ القرآن " وكانوا يسمون في عهد صدر الاسلام بـ " القرّاء " حيث كان همهم الأوحد حفظ القرآن وتلاوته صباحاً ومساءً. هذا بالاضافة الى أن المسلمين كانوا منذ أول عهدهم يعلّمون أبناءهم القرآن عن ظهر قلب حتى لترى الطفل يتلو عليك القرآن دون خطأ، كما لم يتمكن أيّ مؤرخ أن يوجّه أيّ تهمة الى القرآن الكريم كما فعلوا بالكتب السماوية الأخرى. حيث إنّ النصَّ القرآني نجده قد ووعد سبحانه وتعالى بحفظه على ما نزلَ عليه الى يوم القيامة، حيث قال عز وجلّ " إنّا نحن نزلنا الذكر وإنا له لَحافظون " [26].
فالقرآن المُتداول اليوم بين أيدي سكان المعمورة هو نفس القرآن الذي تلاه الصحابة، وخطّه كتّاب الوحي بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والنسخ المحفوظة للقرآن منذ 1400 سنة لا تختلف في حرف واحد عن نسخ عصرنا الحاضر. ومما لا يخفى عليك أخي القارئ الكريم أنّ الله عز وجلّ جعل لكل شئ سَبَبا، فمَنْ كان السبب في جمع القرآن الكريم؟
السبب في جمع القرأن:
ذكرَ المرحوم آية الله السيد حسن الصدر في الصفحة 49 من كتابه " الشيعة وفنون الاسلام" ما نصّه: " أول مصحف جُمع فيه القرآن على ترتيب النزول بعدَ موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، هو مصحف أمير المؤمنين علي عليه السلام والروايات في ذلك عن طريق أهل البيت متواترة ومن طريق اهل السنة مستفيضة. كما ذكرَ المرحوم أيضاً في الصفحة 316 من كتابه " تأسيس الشيعة لعلوم الاسلام " نقلاً عن الفهرست لابن النديم ما نصّه:
«إنّ علياً عليه السلام رأى من الناس عليزةً [27] عند وفاة النبي (ص) فأقْسَمَ أنّه لا يضع عن ظهره رداءه حتى يجمع القرآن، فجلسَ في بيته ثلاثة أيام حتى جمعَ القرآن، فهو أول مصحف جُمع فيه القرآن من قلبه، وكان المصحف عند أهل جعفر.» [28]
وقد ذكر بعض المؤرخين أن القتل لما كثر في الصحابة في زمن أبي بكر حيث قاتل الصحابة أهل الردّة وأصحاب مسيلمة الكذّاب [29].
وقتل من الصحابة نحو الخمسمائة [30] خشي عمر بن الخطاب أن يستحرّ [31] بهم في مواطن أخرى، فيذهب قرآن كثير، فدخل على أبي بكر لسنتين من خلافته، فقال له: إنّ أصحاب رسول الله يتهافتون في المعارك، وإنّي أخشى أن تأتيَ عليهم وهم حَمَلَة القرآن فيضيع ويُنسى. وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن.
فتوقف في ذلك حيث إن النبي لم يأمر في ذلك بشئ، ثم اجتمع رأيه ورأي الصحابة على ذلك الأمر، فأمر أبو بكر زيد بن ثابت كتبةِ الوحي الأبرار، بتتبع القرآن وجمعه، فجمعه من الرِّقاع، والعُسُب، واللِّخاف وصدور الحَفَظة المشهود لهم بالاتقان من مثل أبي بن كعب، وعثمان والامام عليّ بن أبي طالب وعبدالله بن مسعود وطلحة وحذيفة وأبي هريرة وأبي الدرداء، وأبي موسى الأشعري. وتحريراً في الدقة، ومبالغة في الحيطة، أمر أبو بكر أن لا يُقبل من حافظ شئ حتى يشهد شاهدان عدلان بصحته، وأنه كُتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فكانت الصحف عند أبي بكر ثم عند عمر، ولما توفى عمر أخذتها حفصة فكانت عندها. [32].
وحدثَ في عهد عثمان في نحو ثلاثين من الهجرة، أن أخذَ القراء في الأمصار البعيدة يختلفون في بعض الأداء، ولم يكن بين أيديهم مصحف أبي بكر ليرجعوا إليه، فأفرغَ ذلك حذيفة بن اليمان الذي كان يغزو في فتح أرمينية وآذربيجان وخصوصاً عندما رأى أناساً من أهل حمص يزعمون أن قراءتهم خير من قراءة غيرهم وأنهم أخذوا غيرهم، وأنَّ أهل الكوفة يقولون مثل ذلك وإنهم قرأوا على ابن مسعود وأهل البصرة يقولون مثل ذلك وأنهم قرأوا على أبي موسى ويسمون مصحفه لُبابَ القلوب. فهرَع الى عثمان قائلاً: أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا اختلاف اليهود والنصارى. فهمَّ عثمان الأمرُ، وأجمعَ رأيه على أن يكتب للمسلمين إماماً يرجعون إليه. وبعث الى حفصة أن أرسلي إلينا بالمصحف ننسخ منه نُسخاً، ثمّ نردّه إليك.
فأرسلت به إليه، فأمرَ زيد بن ثابت، وعبدالله بن الزبير وسعد بن العاص وعبدالرحمن بن الحارث بن هشام، وقال للرهط القرشيين وهم الثلاثة خيرون: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في كتابة شئ من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزَل بلسانهم، فصَدَعوا بأمره.
ورد عثمان مصحف أبي بكر الى حفصة، وطابت نفسه، وأمر أن تُكتب المصاحف من مصحفه وأن يحملها القراء الى الأمصار، ويقرئوا الناس على حرفها، وأرسل بالمصاحف الى مكة والكوفة والبصرة ودمشق وغيرها من الأمصار الاسلامية، وقيل "ووجّه بمصحفٍ الى مكة وبمصحف الى اليمن وبمصحف الى البحرين، وترك مصحفاً بالمدينة، وأمسك لنفسه مصحفاً الذي يقال له الامام " . ثم أمرَ بحرق ما سواها [33].
فأطاعته الأمة لِما تعلَمُ في صنيعه من الرشد والهداية. وجُرّدت هذه المصاحف جميعها من النقط والشكل ليحتملَها ما صحّ نقله وثبتَ تلاوته عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، إذ كان الاعتماد على الحفظ لا على مجرد الخط. ومضى القراء في العالم الاسلامي يُقرئون الناس القرآن على حرف هذا المصحف الإمام.
غير أنّ فروقاً حدثت بينهم في القراءة داخلَ ذلك الحرف، وهي المعروفة بالقراءات، وقد وقع إجماع المسلمين على سبع منها [34]، وهي قراءات: ابن عامر الشامي عبدالله بن عامر بن يزيد الشامي اليحصُبي ونافع المدنيّ نافع بن عبدالرحمن بن أبي نعيم الليثي بالولاء المدني، وابن كثير عبدالله بن كثير المكي الداريّ وأبي عمرو البصريّ أبي عمرو بن العلاء بن عمار بن عبدالله البصري المازني وعاصم الكوفي حمزة بن حبيب بن عمارة بن اسماعيل الزيّات والكسائي علي بن حمزة بن عبدالله بن بَهمن بن فيروز الاسدي بالولاء الكوفي. [35].
أما ابن النديم فيعتقد أن القرآن جُمع في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حيث نراه قد ذكرَ في كتابه " الفهرست " فصلاً تحت عنوان " الجُمّاع للقرآن على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم " ذكرَ فيه أسماء من قامَ بهذا العمل، وقال:
«الامام علي بن أبي طالب رضوان الله عليه، سعد بن عُبيد بن النعمان بن عمرو ابن زيد رضي الله عنه، أبو الدرداء عُوَيمر بن زيد رضي الله عنه، مُعاذ بن جَبَل بن أوس رضي الله عنه، أبو زيد ثابت بن زيد بن النعمان، أبيّ بن كعب بن قيس بن مالك بن امرئ القيس، عبيد بن معاوية بن زيد بن ثابت بن الضحاك.» [36]
فهرست المصادر والمراجع:
- تاريخ آداب اللغة العربية، لجرجي زيدان.
- تاريخ الطبري، محمد بن جرير.
- تاريخ القرآن، لأبي عبدالله الزنجاني.
- دائرة المعارف الاسلامية، لفريد وجدي.
- الطبقات الكبرى، لابن سعد.
- فتوح البلدان، للبلاذري.
- الفهرست، لابن النديم.
- الكامل في التأريخ، لابن الاثير.
- القرآن الكريم.
- المقدمة، لابن خلدون.
- النشر في القراءات العشر، لابن الجزري.