القصة القصيرة السورية منذ أواخر الخمسينات
الملخص
يمکن القول بأن القصة القصيرة من الأجناس الأدبية الهامة التي اتخذت مکانة سامية في نفوس الناس في هذه السنوات والبحث حول هذا الجنس الأدبي من المهام التي يجب أن تدرس علی أساس أهميتها.
بناء علی هذا يرمي هذا البحث دراسة القصة القصيرة وکيفية تطورها في سوريا من سنة 1959 إلی سنة 1968الميلادي وهذه السنوات تشکل مرحلة إستواء فن القصة القصيرة السورية کما صدر في هذه المرحلة أکثر من سبعين مجموعة قصصية وکذلک يهدف إلی دراسة سمات هذه المرحلة وأحوال القصة وهمومها الذاتية والإجتماعية والقومية والوطنية وتجلياتها في هذه الفترة کالوحدة، والإنفصال، ونکسة حزيران، والموضوع الفلسطيني، وذکريات الإحتلال الفرنسي، وهموم المرأة، ومعاناة العمال والفلاحين، والوطن، والهجرة کما يلقي الضوء علی ظواهر فنية – فکرية للقصص القصيرة ولعله يرشد إلی بحوث أخری في هذا المجال الأدبي الجميل.
الکلمات الدليلية: الأدب،القصة ،القصة القصيرة،القصة القصيرة السورية، وسوريا
المقدمة:
القصة والقصة القصيرة
القصة عبارة عن مجموعة من الأحداث ذات صلة بشخصيات أنسانية تختلف أنماط سلوكها وعيشها في الحياة، تماماً كما هي حياة البشر علی الأرض، يرويها القاصّ بأسلوب مشوّش، فيشدّنا إلی الأحداث ويأسرنا، حتی لنظّن أنّ ما يرويه قد وقع فعلاً.]]نجم،1979 م، ص:9]]
القصة عمل أدبي يصور حادثة من حوادث الحياة أوعدة حوادث مترابطة، يتعمق القاص في تقصيها والنظر إليها من جوانب متعددة ليكسبها قيمة إنسانية خاصة مع الإرتباط بزمانها ومكانها وتسلسل الفکرة فيها وعرض ما يتخللها من صراع مادّي أونفسي وما يكتنفها من مصاعب وعقبات علی أن يكون ذلك بطريقة مشوقة تنتهي إلی غاية معينة. [1]
القصة عرض لفكرة مرت بخاطر الكاتب، أوتسجيل لصورة تأثرت بها مخيلته، أوبسط لعاطفة احتلجت في صدره، فأراد أن يعبر عنها بالكلام ليصل بها إلی أذهان القراء محاولاً أن يكون أثرها في نفوسهم مثل أثرها في نفسه. [2]
إن القصة يمكن أن تكون حقيقية أومختلفة، طويلة أوقصيرة، كاملة أوناقصة، شفاهية أومكتوبة، ممكنة أومستحيلة أي أن سلسلة من الأحداث التي ينظمها الناس باعتبارها تسجيلاً أومحاكاة للحياة أوتحويلاً لها وابتعاداً عنها يمكن أن تعد هذه السلسلة من الأحداث، قصة.
إن القصة هي التعبير عن الحياة، بتفصيلاتها وجزئياتها كما تمر في الزمن، ممثلة في الحوادث الخارجية والمشاعر الداخلية بفارق واحد هوأن الحياة مطلقة والقصة محددة. [3]
والقصة القصيرة كما يعرفها إدجار آلن بو، «عمل روائي نثري يستدعي لقراءته المستأنية نصف ساعة أوساعتين...» وهذا ما حدده أيضاً هـ.ج.ويلز بأنها «قطعة وصورة قصيرة يمكن قراءتها في نصف ساعة.» [4]
فإنه في الاستخدام الأدبي الشائع غالبا ما يشير مصطلح القصة القصيرة إلى ذلك النوع من القص الذي ظهر في القرن التاسع عشر وفي القرن العشرين بشكل محدد. [5]
تعد القصة القصيرة وثيقة الصلة بالشعر والمسرح )الدراما( ولكنها متميزة عنهما، ومن ثم يمكن تعريف القصة القصيرة بأنها «قص مختصر في شكل نثري»، إذن القصة القصيرة فن سردي حكائي يخبرنا بقصة، وعند هذه النقطة هناك اتفاق عام، أما الإختلاف فيحدث فيما يتعلق بما تتكون منه هذه القصة. [6]
استواء الفن (1959- 1968)
تشكل هذه المرحلة حلقة أخرى في سلسلة تاريخ القصة القصيرة السورية وهي مرحلة إستواء فن القصة القصيرة وهذه المرحلة من أبرز الحلقات في تاريخ القصة السورية من حيث تقديمها وترسيخها لعدد من الأسماء التي لا تزال تعدّ من أميز الكتاب من مثل زكريا تامر – وليد إخلاصي – حيدر حيدر – محمد حيدر.... [7]
وما يلفت الأنظار هوالنقلة الفنية النوعية التي شكلها قاصوهذه المرحلة، وهذا ما جعل القصة القصيرة السورية تضرب جذورها عميقاً في جنبات الفن بتجلياته ومفاهيمه بحيث إن قاصي هذه المرحلة قد جرّبوا الكثير الكثير من التقنيات والأنماط والعناصر، إضافة إلى أنهم كسروا عدداً من الحواجز التي كانت تعد محرمة، مع مقدرة هائلة في نقل نبض الإنسان، ابن هذه المرحلة، من حيث مشاعره وآفاقه وأحلامه وآلامه. [8]
ظروف المرحلة :
قراءة المتابع أحداث المرحلة السياسية تجعله يقر بغناها وقد حدها أمران جليلان أولهما حلم تحقق ثم انكسر، وآخرهما انتكاسة مشهودة. [9]
لقد تحقق في البداية حلم ظل يراود الكثيرين آنذاك ولا يزال، حلم الوحدة العربية الذي تبدی خلال الوحدة بين سورية ومصر بصفتها خطوة نحوتحقيق الوحدة الكبری، وقد رافق هذا الحلم مجموعة من الآمال اعتقد كثيرون أنها تحققت أوفي طريقها للتحقق. [10]
وما إن أعلن عن الوحدة، حتی جرت أمور كثيرة، ومثل أي مشروع آخر، كان لابد من ثمن، ومتضررين حاولوا أن يقلقلوا الأمور لأن مصالحهم الذاتية قد تأثرت، وهذا أمر طبيعي يخص آلية التفكير والرؤيا، لأن حالاً مثل هذا الحال يفترض الكثير من التضحية بالخاص لأجل العام. وقد وُجد فريق دافع عن الوحدة دفاعاً شديداً؛ إذ حققت له الكثير من أحلامه وآماله. [11]
وبعد ذلك حدثت أمور قادت الأوضاع إلى منتهاها إذ صدرت قرارات أثير حولها جدل كبير، ولاسيما ما يتعلق بالإصلاح الزراعي والتأميم وسواه ... لأن هذه القرارات من شأنها خلق مجموعة من الآثار الاقتصادية والاجتماعية على الأطراف جميعها؛ اذ فرح بها كثيرون وحزن منها كثيرون. [12]
لقد حاولت الوحدة التخلص من الطبقية والإقطاعية والتحرر من رواسب الماضي، إضافة إلى أنها شكلت انتصاراً على خطط الأعداء وبعثت القوة في النفوس، ودعت إلى إقامة العدل الاجتماعي. [13]
وبعد مرور عدد من السنوات جاءت الضربة قاصمة الظهر وتمثلت بنكسة حزيران التي وضعت الأمور على المحك وكشفت ماوراء الأكمة وفتحت الباب واسعاً ليتحدث الناس عما يدور خلف الكواليس. [14]
إن تنوعات عديدة برزت في هذه المرحلة تخص مجمل الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي عاشها الناس، فالاقتصاد يومئذ مرّ بتبدلات لا تخلومن حدة، بخاصة أن مظاهر تصنيعية في ميادين عديده بدأت تعلن عن نفسها، اضافه إلی ما استجد علی صعيد الزراعه سواء بتوزيع الأراضي أم في محاولة إدخال المكننة الزراعية ،وقد خلقت هذه الأمور أجواء جديده عبر العلاقات والمفاهيم والرؤی، ولم يكن الأمر بعيداً في الجوانب الاقتصاديه الأخری بخاصة الصناعة ، ومحاولة إدخال بعض القوانين التي تنظم العلاقة بين أركان العلمية الاقتصادية وإنشاء المنظمات والاتحادات التي تؤطر كل شريحة بهدف وضع شيء من الضوابط في آلية العلائق، مما هيأ المجتمع لقبول أمور عديدة هي جديدة عليه. [15]
وقد لعبت الصحافة دوراً كبيراً في وضع النقاط على الحروف في ظل جوعرف ظروفاً عديدة من سماح لها بالصدور وإغلاق وسماح بعد ذلك؛ لأن الظروف السياسية تباينت في أثناء المرحلة غير مرة، ويمكن للمرء أن يسجل حالة من الوعي قد بدأت تعلن عن نفسها في أركان المجتمع وشرائحه المتعددة بعد ما دخلت خدمات عديدة وأوصلت طرق وجسور بين أطراف البلد الواحد مما أسهم بفعالية في التعرف إلى ما وصلت إليه كل منطقة أوشريحة في رؤاها وأفكارها، بخاصة أن المجتمع کانت تتناوشه تيارات عديدة ذات أسس وحدوية ودينية واشتراکية وقد وجدت هذه التيارات أصداء لها في شرائح المجتمع المختلفة ومناطقه المتنوعة ، وقد سمح ما حدث في ميدان التعليم وسواه من إيصال الکثير من الأشياء إلی الراغبين فيها ، وبدا أن الأمور ليست خاضعة للتنظير فقط ، بل إن التطبيق مجدٍ وبانت آثاره علی الإنسان الکادح قبل غيره الأمر الذي ولَّد ثقة في نفوس الکثيرين دفعتهم لمتابعة مايحدث والتحمس لبعض أحداثه ولاسيما إذا کانت تصبّ في بوتقة المصلحة المجتمعية . [16]
وهذه المرحلة اجتماعياً تعد في أهم المراحل وأکثرها خصوبة في سيرورة حرکة المجتمع العربي السوري من حيث مقدرتها علی دفع المرء لإعادة مساءلة الکثير من الثوابت ، وکونها أتت بعد مرحلة صاخبة بالأفکار والمقولات . وما کان للتطور الذي حدث أن يحدث آنئذٍ لولا أن مجموعة من العوامل في داخل المجتمع بدأت تعلن مساندتها لما يحصل ، أسهم معها معطيات خارجية ومؤثرات تغلغلت في نسج المجتمع جعلت القارّ يتحرك، والمتحول يعلن عن نفسه بصراحة وجرأة أکبر. [17]
إن مجمل هذه التغييرات وما سبقها في المرحلة السابقة ولّدت لدى كثير من الكتاب حالات نفسية متباينة قادتهم ولوج عوالم تجريبية، في ظل انفتاح في القراءة والثقافة أسهم فيه عدم استقرار الأمور وتبدّلها من فترة إلى أخرى تبدلاً فيه الكثير من التضاد أحياناً، وكل هذه الأشياء، لابد أن يكون لها بصماتها في ميادين الكتابة مرجعياتها. [18]
حول مرجعيات القصة وهمومها :
شهدت هذه المرحلة بروز الجيل المجدد في القصة القصيرة السورية، هذا الجيل الذي ترك بصمات لا تمحى في تاريخها، إضافة إلى أن عدداً من الأسماء التي ظهرت في المرحلة السابقة قد حاولت أن تقدم جديداً وتطور مساراتها، وربما حدث ذلك بدافع من الإحساس بضرورة تجاوز ما سبق أمام منجزات الذين برزوا في هذة المرحلة. [19]
إن عدداً ممن ظهرفي هذه المدة قد ترك ملامحه على تجارب لاحقة راحت تلهث للبحث عن خصوصياتها وعن موطئ قدم في تاريخ القصة السورية ، ولعل ميزة بعض الأسماء التي ظهرت آنئذٍ أنها لم ترکن إلی ما حققته ، بل بقيت مسکونة بضرورة تجاوز ما سبق لذلک راحت تجرب مختلف الأنماط مما جعل بعض التجارب اللاحقة تتطرف في تجريبها لعلها تترک بصمتها الخاصة . [20]
إن قاریٔ مسار القصة السورية سيتوقف ويتأمل في هذه المرحلة الأسماء التي کان بعضها کالکواکب التي يدار حولها، في حين صارت تجارب أخری مساطر يقاس ماجاء بعدها عليه. [21]
الهم القومي والوطني وتجلياتهما:
لقد شهدت هذه المرحلة صدور غير مجموعة مخصصة للحديث عن هذا الموضوع، وإن كان عدد من قصصها قد ظهر منجماً فيما سبق. ولئن شكلت هذه المرحلة بموضوعاتها استمراراً للموضوعات الأساسية إلا أن هناك حوادث جديدة أخذت حيزاً ما من مثل: [22]
الوحدة والانفصال ونكسة حزيران
وقد شهد الموضوع القومي في هذه المرحلة نقلة توعية حملت على أشرعتها الكثير من الابتعاد عن الصراخ والمباشرة للوصول إلى الإيحاء. [23]
والموضوع القومي هوموضوع إشكالي ومثير للجدل بطبيعته، لأن هذه الموضوعات غالباً ما ترتبط بمناسبات تأتي حزينة ورمادية وتدفع النفس الإنسانية لمحاولة التوازن بين حجم الفاجعة وإمكانية التعبير عنها. [24]
لقد كان الإحساس بالمسؤولية والجدية العالية سمة لمعظم ما قدم آنئذ، ومثل هذه الرؤيا كانت تتسرب بعفوية طوراً، وبمقصودية تارة إلى أجساد قصصهم. [25]
لقد كان يشكل لدى عديدين قضية ايديولوجية ووجودية وهمّاً رئيسياً يستحق أن تنصرف إليه الجهود. وكان يعني لدى آخرين موضوعاً له الكثير من الخصوصية. وهذا التنوع في التناول أمر مفيد وضروري لأنه يخلق حالة من الخصب والتعددية تسهم في تقديم شمولية فنية عما يشعر به الناس وما يسلكون من سلوكيات. [26]
لقد كان عديدون يرون أن الوحدة هي مدخل أي حل، وبخاصة في تحرير فلسطين في حين رأی آخرون أن الأكثر جدوی هوالحديث عن شؤون الفلسطينيين وشجونهم على الرغم من أنهم وغير هم يمكن أن يتناولوا موضوعات أخری. بينما عاد بعضهم بذاكرتهم إلى الوراء، وقد شعروا أن تقصيراً ما حصل في رصد ما جرى في أثناء الاحتلال الفرنسي، وانشغل عديدون في الحديث عما آلت إليه الأوضاع، أوضاع بعض المشاركين في التحليل ممن كانت لهم اليد الطولى في تحقيق ما وصلت إليه البلاد. [27]
ومما لا شك فيه أن قاصين عديدين قد انشغلوا بالمسألة التسجيلية التوثيقية هادفين إلى تدوين شهادة تصمد في وجه الانمحاء تخصّ المواقف وما يحدث آنئذ فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية التي راحت أبعادها تتكشف وآثارها تأخذ بعداً عميقاً. [28]
ولا يمكن للمرء أن يغفل حالة الانكسار والانشراخ التي عاشها الناس يومئذ، فحالة مثل هذه الحالة تركت جروحها نازفة في جنبات الإنسان العربي وتركت مياسمها في نصوص أدبية كثيرة، كتبت إبانها ونشرت لاحقاً، وكما هوالمعتاد في حالات كهذه فإن الآثار عديدة منها ما يبدوعلى نصوص تسخر نفسها لهذه الموضوعة أوتلك، ومنها ما يتسرب إلى روح الإنسان فتبدوفي كتاباته بصورة غير معلنة تماماً، ولعل شرخ نكسة حزيران كان من النوع الطويل الأثر والأمد لا يمكن أن تُحدّ آثاره بقصص كتبت يومها، لأنه من الشروخ التي مست الكثير من الثوابت ولم يكن من النوع الذي جاء ومضی بسرعة، لأن بصماته كانت متنوعة تظهر على صعد عديدة منها ما يتعلق بخسارات الأرض، ومنها ما يتعلق بحالة الانكسار التي ولدتها كشوفات الأوهام الخادعة التي عاشت في دائرتها النفوس العربية لفترة طويلة. [29]
الموضوع الفلسطيني :
لقد كان الموضوع الفلسلطيني يشكل مادة دسمة للقص آنئذ، نتيجة لخصوصيته في النفس العربية ولحرارته، فقد صرف القاص بديع حقي عدداً هائلا من كتاباته المتنوعة لهذا الموضوع، ملاحقاً إياه في تجلياته المختلفة سواء أكان ذلك في تتبع أحوال اللاجئين وحنينهم لأراضيهم أم الموازنة بين أوضاعهم كيف آلت وكيف كانت من خلال السكن والأحوال المعيشية، والبيارات التي كانوا يملكونها، دون أن ينسی الوقوف عند بعض البطولات التي قام بها الأبناء من خلال حكايات وأحداث لا تخلومن إقناع. [30]
ووجدت رؤی في هذه الفترة حاولت المزج بين مقروءاتها وأفكارها والأحداث الواقعية، وتمكنت من تقديم نصوص فيها الكثير من الأبعاد الفلسفية والوجودية والثورية الشاحنة للقراء، ولعل إشكالية هذه النصوص أن ما حدث فيها لم يأت عفوالخاطر، بل جاء نتيجة وعي مسبق وحسابات معلنة مما ترك ثمرات غير طيبات في أنحاء النص. [31]
وهناك قاصون صوروا عمق معاناة الإنسان الفلسطيني اللاجئ الذي وجد نفسه مكبلاً بقفص الاتهام حتى في أخص خصوصياته، لدرجة أنه صار يدافع عن أشياء ما كان يتاح من قبل أن يتخلص من أحد أبنائه نتيجة شظف العيش. [32]
إن رصد الحركات النضالية والبطولات الفردية والجماعية كان أحد أهم الموضوعات التي شغلت بال القاصين وهي التي تحقق هدفين رئيسيين: الأول توثيق ما يحدث ورصده بما يستحقه، والآخر بث روح الحماسة في قلوب الناس خلال تأكيد دور البطولة وجدواها. [33]
موضوعات قومية ووطنية أخرى )بور سعيد- الجزائر – ذكريات الاحتلال الفرنسي – السلطات المحلية(:
ولئن شغل الموضوع الفلسطيني حيزاً كبيراً من اهتمام القاصين يومذاك فإنه لم يكن الموضوع الوحيد، بل توقف القاصون عند سواه من الموضوعات، من مثل ما حدث في بور سعيد، مركزين على حالة البطولة التي قوبل بها قصف العدو، محاولين أن يصفوا حوادث بعينها حدثت آنئذ، إضافة إلى حرص عديدين علی أن يتخذوا مما حدث فرصة للتنبه لخطورة ما يجري وآثاره المستقبلية على الوطن، إن بقيت الحال على ماهي عليه، بخاصة أن ما حدث في بور سعيد قد أعاد الأمل وجدّد الهمم التي كادت تفتر. [34]
ويحاول بعض أبناء الوطن العربي حماية قراهم ومدنهم بحماس شديد مؤكدين أهمية دور الفرد، والدليل ما يحدث في بور سعيد، ورصد عديدون ما حدث في الجزائر فالحرب في الجزائر كانت بين طرف يحاول أن ينال استقلاله وطرف آخر يعتقد أن البلاد من ممتلكاته، ولا يعدم في إيجاد الحجج التي يختلقها لتوسيع ما يقوم به من بطش. [35]
ويعاود موضوع الاحتلال الفرنسي حضوره في هذه المرحلة وقد انقشع ظلامه إلا ذكرياته وأحداثه لا تزال حاضرة في ذاكرات الكثيرين، ببطشه وبالنضال ضدّه، بخاصة أن الموضوع الجزائري كان حاراً، ويساعد في فتح بوابة الذاكرة على ما حدث مع الشعب السوري، وقد قبض قاصون عديدون على نقاط ذات أبعاد إنسانية خاصة نظراً لطبيعتها المتفردة، من ذلك ما سجله صميم الشريف في رصده معاناة أحد الشباب من تعامل الآخرين معه، وما ذلك إلا لأنه ابن خائن عميل للفرنسيين، مؤكداً تعاضد تصرفات الناس وأن ما يفعله الآباء يؤثر في الأبناء، والعكس بالعكس أيضاً. [36]
وقد تناول قاصون آخرون بعض ما آلت إليه أحوال البلاد من حيث مطالب الشعب والمظاهرات التي كانت تعم البلاد آنئذ، وما راح يحدث في أنحائها مركزين على الإشارة إلى حالات القمع والاعتقال التي مارسها بعض حكامه ومتسلطيه في هذه المرحلة وفي مراحل سابقة، محاولين أن يرصدوا جانباً مهماً من جوانب المجتمع عبر علاقة أبناء الشعب مع القيادات والسلطات ومآل هذه العلاقة، مؤكدين أن الظلم مهما اشتد أواره لا بد أن ينتهي، مشيرين إلى ضرورة الاستفادة مما جرى كيلايتكرر ولايعاد. [37]
الجزيرة لها بلاءان ضابط الدرك الجديد وانحباس المطر، وبقدر ما كان ضابط الدرك الكهل متكبراً أمام الناس، كان آية في اللطف والكياسة مع الفرنسيين فكانت ترقياته تتالی بسرعة غريبة، وهذا الضابط الذي جاء من دير الزور يداً من قدام ويداً من وراء، أصبح بسرعة البرق من أصحاب الثروات الضخمة، فكل مخفر درك يعرف هذه الحكمة، ما لقيصر لقيصر ومالمخفر الدرك لمخفر الدرك. [38]
إن القاص في المقطع السابق يجعل الإدانة معطى للقارئ وإيحاء تقوله أحداث القصة، ويحاول الابتعاد عن المباشرة خلال تركيزه على حكايته، راوياً إياها بكثير من الحيادية على الرغم من أنه ينقل تفاصيل كثيرة تصب في بوتقة. [39]
إن هذه الأجواء قد خلقتها مجموعة الانقلابات التي حدثت يومذاك، وخلافات الأحزاب مما أنشأ حالة من التوتر والكراهية والمواقف المسبقة التي أرخت ظلالها مدة طويلة على المجتمع العربي السوري الذي لم يهنأ بالاستقلال بعد إلا ودُوهِم بمجموعة من الإجراءات القمعية وكتم الحريات ولعل ما يحز في النفس أن هذه الأحداث كانت تصدر عن أبناء الشعب أنفسهم، وهذا كان يزيد الأمور مأساوية. [40]
الوحدة :
يعدّ موضوع الوحدة من الموضوعات السياسية المهمة في هذه المرحلة إلا أن تجلياته القصيصة لم تشكل رصيداً كبيراً، برغم ما تركه من آثار على الواقع وما حدث بعد ذلك من انفصال، ولواستثنينا قصص أديب نحوي الذي اهتم كثيراً بهذا الموضوع لما وجدنا شيئاً يذكر يمكن أن يكون مواكبا لحدث ترك بصمات مهمات في سيرورة المجتمع، إذ شكل موضوع الوحدة بما له من أبعاد قومية فكرة محورية في قصص أديب نحوي، إضافة إلى الموضوع الفلسطيني وذلك عبر مسار تجربته الطويل، وكان يبدي حماسة في التعامل مع الموضوع تدفع المرء إلى الاستغراب من جهة، وإلى الاحترام من جهة أخرى نظراً لتصريحه بإيمانه القومي وتعويله عليه. [41]
وقد أبدى القاص تذمره الشديد من الانفصال والداعين له، معدّداً مزايا الوحدة، شاحذاً طاقاته الفكرية والروحية للإشارة إلى أهمية الوحدة في حياة الإنسان العربي. [42]
إن الهم السياسي بتجلياته الداخلية والخارجية بقي ذا حضور واسع في أرجاء القصة القصيرة السورية لأنه من الموضوعات ذات الحرارة المتجددة والصاخبة بالأحداث، فمجموع هذه الأحداث كان يترك تحولات تخص الفرد والمجتمع، لأنها ليست أحداثاً طارئة ولا مفتعلة بل هي نابعة من قلب المجتمع وأحد إفرازاته. [43]
الهم الاجتماعي والذاتي وتجلياتهما :
رصد بعض القاصين جوانب من معاناة العمال والفلاحين والأطفال و المرأة، وهذه النماذج غالباً ما كانت مادة ناضجة للوقوع في الظلم والحيف، وقد سُجّلت صور من معاناتهم إلا أن اللافت في المسألة هوآلية النظرة والتفكير والرؤيا التي باتت تبث في النصوص، لأن قراءات تراكمية قد راحت تظهر في القصص تنقل شيئاً من نبض الوضع الثقافي يومئذ، وليس هذا فحسب بل آلية إثارة بعض القضايا التي تخص المرأة مما كان غير مستحسن الإشارة إليه من قبل. [44]
هموم المرأة:
أثيرت المواضيع التي تخص المرأة وعلاقتها مع الرجل، وظهر في قص هذه المرحلة المرأة المعتدّة بنفسها، الواثقة بقدراتها، المحاولة فك الأغلال التي يحرص الرجل على أن يكبلها بها، وهذه المرأة لم تعبر عنها القصص التي كتبها الرجل بل عبرت هي عن هموم المرأة خلال قاصة تركت بصماتها الواسعة، والمقصودة هنا غادة السمان التي ثارت على كل القيود عبر قصصها بالفن أحياناً والمباشرة والحدة غالباً التي لا تعرف تراجعاً نتيجة لجملة القناعات المبنية على أن الصمت لم يعد يفيد ولا بد من رفع الصوت ليسمع الآخر الهموم والمعاناة، وليحسب حسابات للمرأة التي هضمت حقوقها الطويلة وغُيّبت لأسباب عديدة عن ساحة المشاركة والإنتاج والعمل ونُظر إليها نظرات فيها الكثير من الظلم دون أن ترتكب إثماً إلا لأنها أنثى. [45]
وتتابع القاصة غادة السمان الدخول في أعماق آلية علاقة الرجل بالمرأة من وجهة نظر تحاول النظر إلى الأشياء بطريقة مختلفة وتحت وطأة الحيرة وعدم اكتشاف بواطن الأشياء، وإن كان بدء النظر إليها بهذه الرؤية حمل في جوانبه ملامح جديدة في آلية التفكير والنظر والتعامل مع بعض التفاصيل التي كانت لا تحتمل أكثر من رأي لأن عديدين كانوا لا يناقشون كونها بديهية وأمراً في حكم المنتهي، فلا جدوی من مناقشته أوالتوقف عند مفرداته. [46]
إن الحديث عن قصص غادة السمان وتجربتها يمكن أن يتضمن الإشارة إلى العنف في الأفكار المثابرة والمباشرة والتطرف أحياناً، ويبدوأن مكانة غادة السمان في معظم تجلياتها لم تكن ذات طابع فني، وإنما نتيجة للأفكار التحررية التي أثارتها، وهذه الأفكار قد تكون ذات فاعلية في المجتمعات المتخلفة أكثر من فاعلية التعبير الفني. [47]
وثمة نماذج أخرى من معاناة المرأة تتعلق بكون بعض ما يحدث لها غير ناتج عن خطأ ارتكبته، بل نتيجة لذنب ارتكبه الآخر. [48]
إن مأساة المرأة هي هي وإن اختلف المكان، وتبقى ثلة من الرجال يهدفون إلى السيطرة على جسدها واغتصابها، وعلى الرغم من مرور الزمان إلا أن الصورة تتكرر. [49]
ويقدم القاص عادل أبوشنب صورة عن المرأة التي ملت الجلوس في المنزل وتريد أن تتنفس هواء الحياة العليل، وتطمح كيلا تعيد سيرة أمها بأن تحصل على شيء من الفحسة مع أن اعتراضات الأم المشبعة بقمع الأب تحاول أن تثنيها عما هي عازمة عليه. [50]
إن المرأة في مجمل علائقها قد أعلنت حضورها في قصص هذه المرحلة وهذا يحمل مؤشرات عن الحالة الفكرية السائدة وبدء التحسس لبعض القضايا، وهويعني أيضاً أن فن القصة القصيرة راح يفتح أمداءه على حالات أخرى وأجواء وظروف بدأت تشكل صورة ما في نسج المجتمع يومذاك. [51]
معاناة العمال والفلاحين:
إن موضوع البطالة والبحث عن عمل وما يكتنفه من مصاعب يبقی موضوعاً قابلا للورود في غير مرحلة، إلا أنه قد عُبّر عنه يومذاك بطريقة خاصة لأنه انسجم والمعطيات الفكرية المثارة في هذه المرحلة من مثل الضجر واليأس وفقدان الأمان. [52]
أما القاص وليد مدفعي فقد اختار وجهاًً آخر من وجوه العمل غير البطالة وغير عمل المرأة والحاجة الماسة إليه، إنه وجه لا يقل مأساوية عن هذين الوجهين والمعني به عمل الاطفال، ومعاناة أهلهم في تأمين حاجاتهم الضرورية عبر قصة “قدمان حافيتان” ... [53]
إن بعض القاصين أحياناً ينطقون باسم شخوصهم في رحلة صادقة للتعبير عن عمق معاناة أولئك الشخوص، ويبدومن الضروري أن يترك القاص شخوصه تعبر عن نفسها. [54]
وثمة جوانب أخرى في المعاناة الإنسانية منها معاناة الفلاحين من الملاّك الذين اعتادوا أن يعاملوهم معاملة المالك للمملوك دون أن يفكروا بكرامة الفلاحين، وقد التقط القاص ناشد سعيد حالة تتعلق بالفلاح والمرأة معاً، هذه المرأة التي لا تعني لدي عديدين سوی جسد يُشتهی، وتكون ثمنا لقضاء بعض الحاجات دون أدنی حساب لإنسانيتها أوكرامتها، أوكرامة أهلها وزوجها وأولادها. [55]
المكان والوطن والهجرة :
ومن الموضوعات الأخری التي يمكن للراصد أن يقبض على عدد منها، ما يتعلق بمفهوم المكان والوطن والهجرة وسوى ذلك من هموم بدأت تدق عالم القص، وراح عدد من القاصين يؤكدون أن الإحساس بأهمية الأشياء يرتبط بمجمل الظروف التي يعيشها المرء ودرجة المعاناة واختلاف المفاهيم والتصورات بحسب آليات العلاقة مع الأشياء. [56]
ويدعوعدد من القاصين إلى عدم هجرة أبناء المدينة مدينتهم، مشيرين إلى حججهم مباشرة، وهم يقدمون مفاهيم للمدينة يبدوا أن معظمها يعود إلى أشياء مستوردة وليست نابعة من حال المدن في البلاد العربية، بل إن قراءة الآداب الأخرى لها آثارها في الأشارات المذكورة وقد صار موضوع المدينة ثيمة رئيسية في قصص المرحلة التالية. [57]
وانتبه عدد من القاصين للأثر الذي يمكن أن يتركه المكان في بعض التصرفات من حيث كونه عاملاً مؤثراً وحاسماً فيما يمكن أن نقوم به من أعمال. [58]
لقد نجحت القصة القصيرة في هذه المرحلة إلى حد كبير في التعبير عن نبضها وقلقها وخصوصياتها، وقد تجلت أحداث كثيرة فيها، ونقلت خلال صور متنوعة بحيث إن المرء يستطيع تشكيل انطباعات كثيرة عن روح هذه المرحلة. [59]
تيارات القص :
إن المجموعات الصادرة في هذه المرحلة يتقاسمها تياران – رؤيتان إحداهما تنتمي إلى مرجعياتها وتفرز تقنياتها المعروفة التي كادت أن تتبلور منذ المرحلة السابقة، وهذه كتبت في ضوئها مجموعات عديدة لكتاب عرفوا في المرحلة السابقة، إضافة إلى كتاب عرفوا في هذه المرحلة. أما التيار الآخر وهوالذي ترك بصمة أوسع ليس فقط لأنه طرح مفاهيم جديدة في كتابة القصة، بل لأنه شكل كماً كبيراً، ولأنه أثار جدلاً وعبّر عن حساسية المرحلة وتقلباتها، كسر عدداً من الحواجز، وبعث الحياة في فن القصة هادفاً لدفعه إلى الأمام، وقد تهيأ له مجموعة من الكتاب الذين بدت ثقافتهم عالية في قصصهم، حملوا نبض المرحلة وعبروا عن حالة الانكفاء خير تعبير. [60]
ويمكن للمرء الوقوف عند بعض سمات هذا النمط الجديد، على الرغم من الاختلافات الموجودة في داخله من تجربة إلى أخرى.
وقد وجد عند هؤلاء القاصين مجموعة من الأمور الفكرية والاجتماعية دفعتهم للانكفاء والغوص في عوالم النفس الداخلية، ربما كنوع من التعبير عن خيبة أمل في واقع لم يحقق المطامح التي كان يسعی إليها الناس في الخمسينات، إذ وجد القاصون أن الشعارات والأحزاب والأفكار لم تجد ولم تقدم جديداً، لذا فإن المرء يلحظ عدداً من المعطيات التي ظهرت في قصص هؤلاء القاصين تبدوفيها تقنياتهم ممتزجة بموادها الأولية ومقولاتها الفكرية منها: [61]
– لجوء بعضهم إلى لغة شعرية تحاول أن تخلق علاقات جديدة بين الكلمات لأن التعبير المنطقي يسهم بنقل أشياء واقعية أما التعبير عن خيبات الأمل ، واللاشعور والحالات والنفسية والبطالة، وحالة فقدان الثقة والتوتر النفسي والقلق يحتاج إلى علاقات لغوية جديدة تخلق أجواءها الخاصة، وهذا بدا في تجارب )زكريا تامر – حيدر حيدر(. [62]
– استدعى الحديث عن حالات نفسية وعوالم لا شعورية والإحساس بعدم جدوى كثير من الأمور، استدعى كل ذلك إسقاطاً للحادثة المتتالية فخفّ وهج الحكائية، وصارت قصص كثيرة معنية بنقل جومعين أكثر من نقل أحداث متتالية، مقنعة، ومثل هذه الحالات تطلّبت الحديث عن شخصيات تمرّ عليها مجموعة من الحالات والأوضاع النفسية، ونجد هذا في قصص )وليد مدفعي- جورج سالم- محمد حيدر – زكريا تامر – وليد إخلاصي( [63]
– أعلن الترميز نفسه أحد التقنيات الرئيسة التي وسمت هذا النمط من القص، ما يشعر به المرء لا يمكن أن يعبّر عنه مباشرة، وإنما بإيجاد مجموعة من الحالات المعادلة، والرموز التي قد توحي به، لأنه هوغير واضح المعالم تماماً، هويتشكل أحياناً من خلال مجموعة إحساسات وضغوطات، وليس من خلال معطيات محسوبة ومكشوفة وواضحة، نعثر على هذا )ناشد سعيد – وليد إخلاصي- جورج سالم( . [64]
– نظراً للحالة المسيطرة فقد طغت رؤية كابوسية على الواقع وكان سؤال الجدوى حاضراً باستمرار، وأدى مثل هذا الوضع إلى وجود رؤية عبثية تسيطر على أجزاء كثيرة مما قيل صاحبها الكثير من فقدان الأمل بكل شيء لأن لا جدوی من شيء، نجد ذلك عند)وليد إخلاصي – ناشد سعيد – جورج سالم- محمد حيدر( . [65]
– إن عدم الاتكاء على الحادثة وعدم التعبير عن حالات ملموسة، أفرز مجموعة من المشاهد والمقاطع غير المترابطة التي تحتاج لصياغة جديدة كي يتم الخروج بقصة فنية مقنعة. تبدی ذلك في قصص معظم التجارب التي مثلت الحساسية الجديدة من الأسماء السابقة. [66]
– سعی القاصون نظراً لما عانوه لاستحداث تقنيات جديدة من مثل الأنسنة لعلهم يكتشفون أسرار الكون، وهذا كان يتيح لهم قول أفكار هم على ألسنة الأشياء والتحاور حول كل شيء مهما كان بديهياً لأن واقعاً هذه إفرازاته يحتاج إلى المساءلة، من مثل )وليد مدفعي – وليد إخلاصي(. [67]
– بدت آثار الثقافة الوجودية وسواها واضحة، ورافقها ضجر وضيق وتبرم من أشياء عديدة، وقد جرّت كل الأمور السابقة أحياناً بعض القصص إلى حالات تجريبية خاصة لم تثبت جدواها في المراحل اللاحقة )جورج سالم- ناشد سعيد(. [68]
– وللتقنيات والرؤى السابقة إفرازاتها علی صعيد الموضوعات التي سيتم تناولها، إذ لم تعد المواضيع الرئيسة التي يعبر عنها التيار الآخر الذي اختار طريق المحاكاة هي المواضيع التي سيعبر عنها هذا النمط، الذي التفت إلى موضوعات وأفكار فرضتها طبيعته، وأفرزها وعيه الذي توجه لتحليل المشاعر والغوص في أعماق الإنسان، وهذه الموضوعات لم يكن التطرق إليها وارداً فيما سبق أمام الانشغال بالاجتماعي والقومي والوطني. [69]
ظواهر فنية – فكرية:
إن الظواهر الفنية والفكرية تبدومترابطة في هذه المرحلة لأن التجديد لم يخص التقنيات فقط بل آليات التفكير في عدد من القضايا التي لها علاقه بالضجر واليأس وجدوی الحياة والانكفاء على النفس. [70]
ومن الصعوبة فصل التقنيات عن المضامين المقصودة، وهذا ما وسم عدداً كبيراً من قصص المرحلة التي استدعت خصوصية موضوعاتها وجدّتها التقنيات الجديدة التي برزت من مثل الترميز، واللغة الشعرية، والأنسنة، والتخفيف من أهمية الحادثة في القصة، وقد ساعد على ذلك قراءات متنوعة، منها ما يتعلق بالتيار الوجودي. [71]
وقد حمل عدد من القصص صوراً شتی للاحتجاج وجدوی الموت والحياة، ناقلة مختلف التفاصيل التي تمر مع القاص، وقد عبر ياسين رفاعية عن مسألة طرقها غيره تتعلق بالبطالة، لكن آلية معالجته تمثلت في أن شخوصه لم يشتكوا للآخر بل وصلت مع أحدهم الأمور في نهاية المطاف إلى التساؤل «الله ماذا فعلت لك.» [72]
وتصل الأحداث إلى منتهاها في بعض الحالات فيما يخص فقدان الأمل من بعض المواقف حين يصل الناس إلى حالات مأساوية تتعلق بالآباء الفاقدين لمولوديهم وأنهم لا يرغبون في التعويض لأنهم يكتشفون أن لا مكان للحب. [73]
وينقل لنا بعض القاصين مشاهد عديدة من حالات الضجر والقلق التي يعيشها الشباب حين يکتشفون أن لاهدف لهم . [74]
وهناك قصص عبّرت عن الضيق والتبرم من كل القيود التي تفرضها علينا مجموعة الظروف الحياتية، فبعض هذه القيود تشبه الأقمطة، لكن تعبير هذه القصص كان حاداً ولايخلومن مبالغة. [75]
وقد شكل القاص زكريا تامر ظاهرة متميزة في آلية تعامله مع اللغة وتعبيره عن الموضوعات التي سعى إليها فهويتحدث عن موضوع البطالة وحيرة الشخص وما الذي يعمله والآمال المتكسرة والناس الذين يجلسون في المقاهي يقضون أوقاتهم بصمت. [76]
وبعض القصص عبرت عن تعارض الوعي الفردي مع الوعي الجماعي وبدء كثيرين بالاعتراض على المسلمات الاجتماعية والفكرية، وهذا الاعتراض عادة لا يأتي من فراغ بل غالباً ما يتكىٔ على معطيات فكرية ما ... . [77]
في إحدى القصص يعترض أحد الشخوص على دعاء أمه وعلاقتها بالمسيح، مبينا أن دعاءها الطويل لم يغير من الأمور شيئاً، موضحاً اثر قراءاته الوجودية في قصصه. [78]
وأمام ما أحس به القاصون من تطورات جديدة، وما رأوه من أخطاء فقد تشجعوا لتناول موضوعات معينة مع الكثير من السخرية المبطنة في عدد من الأمور، وبات بعض القاصين ينقل حوارات ظاهرها لا يحمل شيئاً لكن باطنها يحمل الكثير الكثير من التعرية والجرأة والصراحة. [79]
وبلغ إحساس بعضهم بالضجر منتهاه كما ظهر في عدد من القصص، ومبعث القلق المرافق للضجر غالباً ما يكون غير معروف الأسباب. [80]
ولعل ظروفاً عديدة قد خلقت نصوصها الخاصة التي اجترحت تقنيات فيها الكثير من التميز فقد صار المرء يخاطب الجدران ويتلمس مواضع الحياة فيها ويشكولها همومه بعد فقدانه الأمل بالبوح للإنسان، وإن لم يأت هذا الفقدان معلناً دائماً!
ومن هنا فإن الأنسنة يمكن أن يقبض عليها المرء في غير قصة وبأسلوب فني لا يخلومن الرشاقة والإمتاع. [81]
وصار مباحاً ومتاحاً تقديم هموم فيها الكثير من الذاتية بحيث يمكن أن يعبر القاص عن مكنوناته في قصصه التي يكتبها إن أحس بحاجة لذلك، محاولا أن يلغي الكثير من الحواجز والممنوعات المسبقة، ولعل عدداً من القاصين أدرك أن القبض على الإنساني في الذاتي مهم جداً، لكن الأمانة تستدعي من المرء القول: إن عدداً من هذه القصص بقيت تدور في ذاتيتها الخاصة بكاتبها، ولم تنجح في خلق التواشج المطلوب مع المتلقي، لذا فإن إطلاق صفة أدب الضياع على قصص كثيرة من قصص هذه المرحلة لم يأت من خارجها ولا هونوع من المبالغة، بل هوضياع يعبر عن حال الضياع بتقنيات ضاع بعضها من القاصين، وبدا بعضها غير مضبوط ولا معروف المصائر. [82]
إن ربطنا الحديث بين التقنيات وبعض الموضوعات نابع من صعوبة الفصل بينهما، نتيجة لحالة التواشج بين التقنية والموضوع وهذا يحمل إشارات إلى مدى التواشج بين المؤسسات الفکرية والموضوعات والفنيات في عدد هائل من قصص المرحلة بخاصة أن الخيارات الفنية جاءت ضرورة أفرزتها المرحلة والقراءات والوعي والأفكار وسوی ذلك، وهويشير إلى حالة الترابط بين القاصين والزمان الذي عاشوا فيه ومن ثمة عبروا عنه. [83]
نتيجة البحث :
يمكن أن نختم الحديث عن هذه المرحلة بالإشارة إلى النقاط التالية التي تتعلق بمجل الفن القصصي الذي كتب ورؤاه وظروفه والتجارب التي كتبته: [84]
– تقاسمت هذه المرحلة رؤيتان تعبيريتان إحداهما اتخذت من المرجعية والواقعية طريقاً لها، والأخرى كانت حساسية جديدة شكلت هوية هذه المرحلة نتيجة لما أثارته من قضايا، وما لفتت إليه من موضوعات، وما استخدمته من تقنيات، وما طرحته من رؤى.
– انسحب عدد كبير من كتابة القصة قياساً للمرحلة السابقة بما أن الظروف الجديدة تستدعي مقدرات فنية هائلة، وحرصاً على المثابرة والمتابعة في ظروف بدا أنها لم تعد تولي القصة الاهتمام الذي أولته إياها في المرحلة السابقة.
– وجد جيل جديد من الكتاب بعث الحياة في دم القصة القصيرة السورية، وكانت بصماته قوية في سيرورتها وفي التجارب اللاحقة.
– وجدت أصوات نسائية ذات بصمة واضحة، استفاد بعضها من جرأته وحرارة طروحاته(غادة السمان)وقسم آخر راح يحفر آثاره بهدوء عبر مسيرة هذا الفن(ناديا خوست).
– بأن أثر الثقافات والقراءات في عدد كبير من القصص بحيث لم يعد الواقع هوالمرجعية الأهم، لأن المرجعيات الفكرية والنفسية باتت تنافسه، بل تكاد تعلن نفسها بديلاً له.
– إن الأهم الذي قدمته هذه المرحلة كامن في آلية التعبير عن موضوعات عديدة في ظل حضور قوي للفني الذي جعل طريقة المعالجة تختلف، واجتهد في إيجاد أسلوبياته الخاصة به لدى كل الأنماط التعبيرية، رافقه تراجع لقصص الوعظ والإثارة.
إن التغييرات التي حدثت في هذه المرحلة قصصياً استندت إلى حد كبير إلى تغيير في المواقف مما كان يحدث، وهذه المواقف لم تتغير لتتنافر مع ما سبق، وإنما إختلفت آلية الرؤيا التي أدت إلى تغير في الموقف، إضافة إلى ثقة القراء بالأنماط التعبيرية مما جعل أصحاب الإمكانات والمثابرين على المتابعة ومحاولة تقديم الجديد الجميل يأخذون مكانة كبيرة.
إن قارئ قصص هذه المرحلة قد يراوده تساؤل حول حجم التغييرات في الأنماط التعبيرية التي كانت سائدة.
وفي الإجابة يمكن القول:
إن القصة الواقعية بمفاهيمها المختلفة لم تغب عن الساحة بل كانت تشكل نصف المرآة الآخر، وما يلفت أن عديدين من الكتاب السابقين والجدد حاول إدخال تقنيات وتطويرات في الكتابة القصصية جعلتها أكثر فنية، أعمق رؤيا، وأدق مساراً؛ مما جعلها تخطونحوالأمام بثقة وضمن مساقاتها التعبيرية دون أن تفقد قصصيتها وخصائصها الجمالية والتقنية والمضمونية.
المصادر والمراجع
– أحمدعلي، الدکتور أسعد.1992 م . فن الحياة فن الکتابة في التعبير والبلاغة والعروض. الطبعة السادسة. دمشق: دارالکتاب.
– تيمور، محمود.لا تا.فن القصص دراسات في القصة والمسرح.لا ط.مصر: المطبعة النموذجية.
– جاسم الحسين، الدکتور أحمد.2001 م.القصة القصيرة السورية ونقدها في القرن العشرين.لا ط .دمشق: اتحاد الکتاب العرب.
– جواهرکلام، محمد. 1372 هـ.ش. نگاهی به داستان معاصر عرب. چاپ اول. تهران: چاپ ديبا.
– الخطيب، الدکتور حسام.1991 م.سبل المؤثرات الأجنبية وأشکالها في القصة السوريّة. الطبعة الخامسة. دمشق: مکتبة الأدب القصصي في سورية.
– الخطيب، حسام. 1998 م.القصة القصيرة في سورية )ريادات ونصوص مفصلية(. طبعة أولی. دمشق: منشورات دارعلاءالدين للنشر والتوزيع والترجمة.
– خفاجي، الدکتور محمد عبدالمنعم.لا تا. الأدب العربي الحديث.لا ط. القاهرة: مکتبة الکليات الأزهرية.
– عبدالحميد، شاکر. 2001 م.سيکولوجية الإبداع الفني في القصة القصيرة )العملية الإبداعية في القصة القصيرة(.لا ط. القاهرة: دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع.
– عبدالمعطي، فاروق.1994 م.يوسف إدريس بين القصة القصيرة والإبداع الأدبي.الطبعة الأولی. بيروت: دارالکتب العلمية.
– المصري،مروان ووعلاني ،محمدعلی.لا تا.الکاتبات السوريات )1892- 1987( . الطبعة الأولی. دمشق :الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع.
– ميرصادقی، جمال. 1366 هـ.ش.ادبيات داستانی )قصه، داستان کوتاه، رمان(.چاپ اول. تهران: انتشارات شفا.
– نجم ، الدکتور محمد يوسف. 1979 م .فن القصة . الطبعة السابعة. بيروت: دارالثقافة.
النساج ، سيد حامد.1977 م. القصة القصيرة.لا ط. القاهرة: دارالمعارف.
فاطمة خليلي: خریجة جامعة آزاد الإسلامية فرع علوم وتحقيقات طهران