القيم والتربية.
1 – القيم ملازمة للتربية منذ القدم:
في البداية لنتفق مع روبول اوليفي. على أن " القيم لم تختف أبدا من الميدان التربوي لسبب بسيط يتلخص في القول بأنه لا وجود للتربية بغير قيم. إن التعلم معناه النزوع إلى الأحسن سواء تعلق هذا التعلم بأدب السلوك أو الموسيقى أو أدب العلوم أو التأهيل المهني"2. حيث يوضح هاته الفكرة الأخيرة بقوله" إننا نتعلم كيف نفكر أحسن، ننجز أحسن، يجب ألا نتهيب من كلمتي: أحسن وأجود، ففي التربية لا يمكننا أن نتخلى عنهما.3"
2 – القيم التربوية هي نتاج السياسة التربوية.
فكما يذهب إلى ذلك داينو "فإنن نتاج السياسة التربوية دائما ما يكون عبارة عن مجموعة من التصريحات بالنوايا تتعلق بتوجهات أو قيم، يراد تنميتها وتشجيعها لدى الناشئة، وغالبا ما تكون متضمنة في الخطب السياسة، والوثائق الرسمية أو شبه الرسمية، وأحيانا نجدها مشتتة في مؤلفات رجال السياسة، من نقابيين ومتحزبين. ولهذا فلمعرفة الأولويات والاختيارات التي تنطوي عليها السياسة التربوية يتطلب تجميع تلك التصريحات وتحليل مضامينها".4
3 - ما هي السلطة التي تحدد السياسة التربوية؟
يجيبنا الأستاذ لويس فاندفلد على هذا السؤال بقوله إن مقترحي السياسة التعليمية، غالبا ما يكونوا غير محددين. وهم عادة يتكونون من الأحزاب السياسية، والجمعيات الثقافية والدينية، والنقابات؛ أي كل القوى الضاغطة بما فيها التي لا تعبر عن آرائها بصفة منتظمة. إلا أنه، ودائما حسب نفس الكاتب، فإن مهمة اتخاذ القرار السياسي في ميدان التربية والتعليم، غالبا ما يبقى حكرا على السلطة السياسية التي تمثل المجتمع المدني، والتي تتبنى، إما بمحض إرادتها أو بطريقة مفروضة، القيم التي يدافع عنها المجتمع المدني وذلك حسب طبيعتها.5
وهذا ما يؤكده داينوا، حين يذهب إلى أن السياسة التربوية يضعها النظام السياسي الذي يعمل أو يتحاشى (تبعا لطبيعته) إشراك المواطنين، أو الجماعات التي تمثلهم، والتي تعنيها قضايا التربية بشكل مباشر، وخصوصا المدرسون، والمتعلمون، ....6
4 – ما هي العناصر التي تعتمد عليه السلطات السياسية في اختيار القيم التي سيتم نقلها إلى المجتمع عن طريق التربية؟
1.4 – عامل الثقافة السائدة في المجتمع.
تعريف الثقافة:
يذهب تيلور Tylor إلى أن الثقافة (في مفهومها الحضاري) تتمثل في: " كل معقد يشمل المعارف، المعتقدات، الفن، الأخلاق، القيم، القوانين، التقاليد، والتقنيات، والعادات.... التي يكتسبها الشخص كعضو في الجماعة التي ينتمي إليها."7
العلاقة بين التربية والثقافة8:
فإذا كانت التربية ما هي إلا تعبير ضمني للتفاعل الحاصل بين الإنسان مع محيطه وثقافته، دون أن يؤدي ذلك بالضرورة بهذه التربية إلى أن تكون نتيجة بسيطة للثقافة السائدة، فإن دولاندشير يرى أن جميع الأنظمة التربوية كيفما كان نوعها، لا يمكن أن تحيد عن ثلاثة افتراضات ممكنة، وذلك حسب تأثرها بنوعية الثقافات التي تحتضنها وهي حسب قوله:9
أ ـ في ثقافة ديناميكية:
فالتربية في هذا النوع من الثقافة، تلقن الأفراد ثقافة آبائهم وأجدادهم من اجل إدماجهم في المجتمع، إلا انه في نفس الوقت توفر لهم إمكانية انتقاد وتجاوز هاته الثقافة، وإمكانية تغييرها لتستجيب لمتطلبات الفرد في حياته اليومية، مما ينتج عنه تحويل الثقافة الأصلية إلى ثقافة جديدة، ويوضح لنا الكاتب هاته العلاقة بالخطاطة التالية:
1-2-3-تفسير الخطاطة:
1. إن الثقافة تخلق التربية؛
2. إن التربية تؤهل الأجيال الشابة لثقافة الأجيال السابقة؛
3. الأجيال الشابة تحول الثقافة الأصيلة إلى ثقافة جديدة.
أما في ثقافة ستاتيكية خالصة، فإن الرسم سيصبح أكثر بساطة.
ب. في ثقافة ستاتيكية:
في هذا النوع نجذ أن التربية وليدة الثقافة السائدة، كما أنها تؤدي ـ أي التربية ـ وبصورة كلية إلى الثقافة الأصلية، ويوضح دولاندشير هاته الفرضية الثانية بالخطاطة التالية:
1-2- تفسير الخطاطة :
1. إن الثقافة تخلق التربية
2. التربية تعيد بكيفية كاملة إلى الثقافة الأصلية.
ج. في ثقافة ذات طابع مزدوج :
حيث يتعايش ما هو تابت مع ما هو متحرك، نجد أن التربية والتعليم تأخذ أوضاعا متعددة وقد حصرها الكاتب في ثلاثة أوضاع بينها بالخطاطة التالية:
تفسير الخطاطة:
1. (أ) . أن التربية في جزء منها تعبير عن الثقافة الحالية؛
(بـ). وفي الجزء الآخر هي تعبير عن ثقافة ماضوية.
2. (ا ). التربية تهيئ للاندماج في ثقافة آنية.
(ب) . كما تهيئ للاندماج في ثقافة ماضوية.
3 . لكن التربية تهيئ الفرد لاكتساب ثقافة جديدة.
وينهي دولاندشي، فرضياته هاته باستنتاج مفاده: أن الفرضية الثالثة هي التي تتناسب أكثر وضعية الدول المصنعة، حيث أن المجتمعات وكذلك الأفراد في هاته الدول يمزجون، بكيفية جد مختلفة، بين روح النكوص والثبات والتطور. وأن هذه الإختلافية تشكل في نفس الوقت تفسيرا وتبريرا لتعددية القيم.
2.4 – الايدولوجيا السائدة في المجتمع.
أنه ما دامت الإيديولوجيا هي منظومة من الأفكار والثمثلات والصور الخاصة بجماعة معينة و بفترة تاريخية معينة، فإن الطبقة السائدة في المجتمع هي التي تفرض على باقي الجماعات الأخرى قيم إيديولوجية الجماعة التي تنتمي إليها، وذلك عن طريق رسم صورة لعالم "جديد"، وتستند هاته الصورة إلى تفسيرها للعالم كله، هذا التفسير الذي تدعي له حقيقة مطلقة ويستمد منه الإنسان معايير وقواعد للسلوك في حياته اليومية، ...، مثلما أنها تزوده (الصورة) "بالمعرفة" واليقين عن مغزى حياته ومعناها وتمنحه طمأنينة تشكل الحياة وتشييد صرحها. هنا يقع مغزى الإيديولوجية وتكمن أهميتها بالنسبة للحياة العملية.10
3.4 – قيم المستفيد الأكبر من النظام التربوي؟
فكل نظام تربوي كيفما كان نوعه لابد أن ينطلق من سؤال أساسي مفاده : لمن تعود الفائدة الكبرى في العملية التربوية؟ أو بعبارة أخرى من الذي يجني تمار العملية التعليمية؟ ونفس السؤال يطرحه لنا داينوا بطريقة أخرى وذلك على الشكل: من المستفيد الأكبر من النظام التربوي؟ هل هو:11
– الجنس البشري؟ أي الإنسانية جمعاء
– المجتمع الذي وضع له هذا النظام التعليمي؟
– الفرد الذي يستفيد من هذا التعليم؟
– جماعة ( طبقة، فئة، أقلية..) معينة من المجتمع؟
وقد حدد داينو الجماعة في:
– طبقة اجتماعية محددة،
– جماعة محلية،
– جماعة ضاغطة ( جمعية، نقابة..)،
– جماعة سياسية، أو عرقية،
– جماعة خاصة (شركة مؤسسة اقتصادية..).
وحتى تحقق الأنظمة التربوية المشروع السياسي للسلطة الحاكمة، والمتمثل في الحفاظ على قيم المستفيدين من هذا النظام التعليمي الذي وضعته، فإنها تتعامل مع التطورات التي يعرفها المجتمع انطلاقا من استراتيجيات مختلفة، نلخصها مع سكيلبيك12 على الشكل التالي:
– مسايرة التيار
– الحفاظ على ما هو صالح
– نفي التغيير، وعدم مسايرة التطور
– الاهتمام بالمستقبل.
وهكذا تتغير درجة المركزية13 في الميدان التربوي مع تغير الإستراتيجية المتبعة في التربية، فالتمركز يكون دائما قويا حين تختار التربية نفي التغيير وعدم مسايرة التطور، كما تقل هاته المركزية كلما قبلت التربية بمسايرة التغيير والانشغال بالمستقبل.
5 - كيف تحدد العناصر السابقة نوعية القيم المنقولة عبر التربية؟
من هنا فالقيم التي تمررها التربية والتعليم عن طريق وسائلها من برامج ومناهج ومقررات وكتب ومواد... يتم وفقا للاستراتيجية التي تبنتها السلطة السياسية، من حيث رغبتها في التغيير، أو استمرار المجتمع على ما هو عليه، وهاته الاستراتيجية المتبناة هي التي تفرض نوع ومصدر وكمية القيم التي تعمل المدرسة على غرسها في الناشئة، وذلك حسب أربع حالات نعرضها مع داينو على الشكل التالي:
– الحالة الأولى: وفيها تعمل المدرسة على نقل أقل ما يمكن من القيم إلى التلميذ. وتتمثل هاته القيم في الحد الأدنى الذي يحتاجه التوازن الاجتماعي للمتعلم دون أن تفرض عليه نسق قيمي معين
– الحالة الثانية: وفيها تعمل المدرسة على نقل مجموعة قليلة من القيم الأساسية؛
– الحالة الثالثة: وفيها تنقل المدرسة أكبر عدد ممكن من القيم، مع نسق قيمي محدد مسبقا
– الحالة الرابعة: وتكون فيها كل القيم المنقولة منظمة على شكل مذهب أو عقيدة14
خلاصة:
لنتذكر من هذا العرض أن:
1. القيم لم تغب قط عن ميدان التربية، بل ظلت مرتبطة بهذا الميدان منذ أن وجد الإنسان على هذه البسيطة.
2. القيم هي النتاج الإجمالي للسياسة التربوية كما يذهب إلى ذلك داينوا.
3. السلطة السياسية هي السلطة الوحيدة التي لها الحق في تحديد السياسة التربوية.
4. نوع الثقافة السائدة في المجتمع هي التي تحدد نوع الإنسان الذي تسعى التربية إلى تكوينه، وبالتالي نوع القيم التي يتم نقلها إلى هذا الإنسان.
5. إيديولوجية الطبقة الحاكمة هي التي تشحن بها البرامج والمناهج التعليمية.
6. يختلف المستفيدين من الأنظمة التربوية والتعليمية حسب طبيعة الأنظمة السياسية، ففي الدول المتخلفة غالبا ما يكون المستفيدون من النظام التربوي محصورا في أقلية معينة من المجتمع، في حين في الدول المتقدمة نجد أن الإنسانية جمعاء هي التي تستفيد من هذه الأنظمة؛
7. تختلف كمية ونوعية القيم التي تنقلها المدارس حسب نوع الاستراتيجية التي تبنتها السلطة السياسية.