الكاتب الذي لم يلعن الشيطان
(...)» آنئذ، شعر بدبيب الأسف يزحف على كيانه. لماذا غرز فيها كل سهام الغضب تلك، وتركها مضرجة في دموعها؟ تطلع إلى قسماتها البريئة في أسى. ما أظلم الرجال! أي غبي هذا الذي يسيء إلى هذا المخلوق اللطيف..! كيف نسي أنها رفيقة العمر وأم لأبنائه.. كيف؟
تسللت يده إلى أناملها الناعمة، لكنها سحبتها منه، ثم هرعت إلى المطبخ باكية.. إذ ذاك اعتصره الندم، فأطرق هامسا: الله يلعن« ...
ما كاد الكاتب يتم عبارته الأخيرة.. حتى مرق من رأس القلم، وفي لمح البصر دخان أفعواني بلون الحبر. دار الدخان وانفتل أمام ناظريه كعاصفة صغيرة، ثم التأم شيئا فشيئا فوق المائدة، حتى أضحى بهيئة كائن غريب.. وفجأة، قصف أذنيه بصوت كالرعد:
– لن تفعلها بي مرة أخرى..!
رمى الكاتب بالقلم وزحزح الكرسي بجسده إلى الخلف صارخا هو الآخر في ذهول:
– بـ.. بسم الله.. الرحمـ....ـن.. الر..ر..ر..رحيم! مـ..مممن.. ممن أنت؟؟!!
قهقه الكائن الدخاني بصوت مرعب:
– تخاف مني، ولا تتردد في الإساءة إلي؟
ارتجفت شفتا الكاتب وتحشرجت الكلمات في فمه، وهو يتأمل الجسم الكالح الذي ينتصب فوق المائدة، فقال جزعا:
– من.. تكون.. أنا.. لا.. أعرفك!
قال الكائن الغريب مشيرا إلى آخر سطر من القصة:
– أنا الذي كنت ستكتب اسمه هنا..
فكر الكاتب برهة والاستغراب يقضم روحه، ثم ما لبث أن صاح مرعوبا مرة أخرى:
– ماذا؟ الشيطان؟ أعوذ بالله من...
وما إن سمع الشيطان كلامه، حتى بادر بمقاطعته محذرا:
– إياك! إياك أن تفعل! إياك أن تتفوه بتلك العبارة!
إثر ذلك كبح الكاتب لسانه، وقد ناء صدره بوجيب قلبه. ولكن، لم كل هذا الذعر؟ فقد يستطيع إجلاءه متى أراد. يكفي أن ينطق بالكلمات السحرية. استجمع أنفاسه بعدما اطمأن إلى سلطته وهو يحدق في غرابة شكل المخلوق. فلأستمتع بهذه اللحظة الثمينة التي لم يظفر بها أحد قبلي. هكذا قال لنفسه، ثم أشعل سيجارة. سره أن يمتلك زمام الأمر، فقال بهدوء:
– جميل.. أنت الشيطان إذن!
حرك الشيطان رأسه الصغير ذا القرنين المستفزتين إيجابا، فوضع الكاتب رجله اليمنى على اليسرى..
– الشيطان يقف أمامي! أراه ويراني.. ما أسعدني! والآن، بربك قل لي ماذا تريد مني؟
قال الشيطان بتوسل:
– بربك أنت الذي ماذا تريد مني؟ ماذا فعلت بك يا أخي حتى تقحمني في كل قصصك، ولا تذكرني إلا ملعونا؟!
أفرد الكاتب ذراعيه مبتسما، ثم قال ببداهة:
– لأنك الشيطان ببساطة.. ألست موقد الفتنة، ومذكي المصائب جميعها؟!
عقب الشيطان حانقا:
– لا يا صاح! غلط في غلط!
تساءل الكاتب:
– كيف أيها المارد؟
أجاب الشيطان:
– حسنا، فلنأخذ على سبيل المثال ما كتبته قبل برهة؛ بطل القصة خانته زوجته، ولما علم بذلك غضب وحاول معاقبتها، ولكي تجد للنص مخرجا ارتأيت أن تجعله يلعنني لتفض النازلة.. فبالله عليك ما دخلي أنا في كل هذا؟؟؟
خيمت ملامح الجدية على وجه الكاتب، وقال موضحا:
– أولا، أنا لم أذكر ذلك؛ قلت فقط إن البطل من خيل إليه ذلك لأنه شكوك بطبعه، ومثل تلك الوساوس لا تكون سوى من بديع الشياطين.. والكل يوقن بذلك.. فهل جانبت الصواب في قولي؟؟
أجاب الشيطان في خبث:
– نعم أيها الكاتب الكبير، لقد حدت عن الحق وضللت سواء السبيل.
تفجرت مراجل الحيرة في نفس الكاتب فانتفض قائلا:
– ماذا تقصد ؟؟
ابتسم الشيطان قائلا:
– ألم تقل في قصتك إن الزوجة سحبت من البطل يدها لما حاول تقبيلها؟؟
– أجل!
– وقلت أيضا أنها هرعت باكية إلى المطبخ ..
– بالتأكيد!!
رد الشيطان بحزم:
– أنصت يا عزيزي، أنت لا تدرك أمرا بالغة أهميته؛ تلك الحركات التي ندت عن الزوجة، دليل دامغ أنها فعلا أتت شيئا نكرا، ولذلك لم تستطع أن ترى الزوج المسكين يحاول استرضاءها وهي الآثمة والمجرمة في حقه. هن كذلك! ثق بي!
تساءل الكاتب والحيرة تمتشقه:
– كيف؟ كيف ذلك؟
وفي تلك اللحظة، دلفت زوجة الكاتب إلى الغرفة، ثم وضعت فنجان القهوة أمامه، وهي تقول مداعبة:
– ما بك يا حبيبي تتكلم لوحدك هكذا؟ قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم!
وما إن نطقت بعبارتها حتى تبخر المخلوق الأسود من فوق المائدة، فاستدار الكاتب نحوها هاويا على خذها بصفعة قوية. اندلقت القهوة على الورقة، وتراجعت المسكينة إلى الوراء في ذعر ويدها على خذها. هزها من تلابيبها وهو يصيح:
– لماذا طردته؟ لماذا؟ ماذا فعل لك؟
تسمرت الزوجة في مكانها وجلة. كانت سحابة الصمت التي رانت على الأشياء كافية لينتبه الكاتب إلى ما اقترفت يداه. أسبل جفنيه، وطفق يستعيد شريط ما حدث.. آنئذ، شعر بدبيب الأسف يزحف على كيانه. لماذا غرز فيها كل سهام الغضب تلك، وتركها مضرجة في دموعها؟ تطلع إلى قسماتها البريئة في أسى. ما أظلم الرجال! أي غبي هذا الذي يسيء إلى هذا المخلوق اللطيف.. كيف نسي أنها رفيقة العمر وأم لأبنائه.. كيف؟
تسللت يده إلى أناملها الناعمة، لكنها سحبتها منه، ثم هرعت إلى المطبخ باكية..