الأحد ١٤ تموز (يوليو) ٢٠١٩
بقلم رشيد سكري

الكتابة النسائيَّة بين الخفاء والتـَّجلي

ـ 1 ـ

للكتابة النسائية طابعٌ متميز. فبالرغم من التحايل على الذات والموضوع، يظل أدبُ المرأة ذا خصوصية، تجعله متفردا في رؤيته للعالم. وبه فهو يطل ـ أي الأدبُ ـ على عوالمِ المرأة الحميمية في مواجهتها الدأوب، لمتطلبات الحياة الاجتماعية ؛ المادية والمعنوية. فالنظرة ذات البعد الفيزيولوجي، عند المرأة، غالبا ما تـُبوصل، وتـُبئـِّر النشاط الإبداعي من خلال سبر أغوار التجربة في الحياة. وفي هذا المضمار، كانت لجسد المرأة حظوةُ أسْنى في مساحة الإبداع، وذلك عبر التفافها على إيقاعاتها الأنثوية. إلا أن ما يطرأ على تضاريس الجسد من تبدلات و تغيرات فيزيولوجية و نتوءات حالمة، كانت ولازالت مادة دسمة في أدبها؛ للإثارة ولفت انتباه القارئ إلى عالمها القرمزي الفاتن، وما تشيده من عوالمَ ساحرة ٍ.

غير أن المتخيل الإبداعي، في الكتابة النسائية، تجاوز هذه الرؤية الموضعية المحدودة للجسد، بل تخطاها ليلامسَ جوانبَ أكثر إثارة في سيرورتها الإبداعيَّة. بالمقابل كانت هناك صحوة المتخيل عند المرأة المبدعة، خصوصا، مع موجات التحرر التي اجتاحت الأدب العالمي وتخلصه التدريجي من أدب الوصاية، سيما وقد أدرك المتخيلَ وعيٌ خطيرٌ بأهمية التطوير والإبدال نحو منافسة حقيقية، واقتحام لا مشروط لعوالمَ ثقافيَّةٍ كانت حِكرا على الرجل. فمهما كان الابداع الذي يدمر الواقع، بنفس خشن الملمس، تجيء ثقافة الذكورة حاملة طاقة كلها حيويَّة، من أجل تغيير الأماكن و الأدوار. حيث أضحت اللغة مادة لينة ومطواعة، تصف عوالم الجنسين معا بحميمية و إخلاص. إلا أن القاسم المشترك بين ما هو ذكوري و ما هو نسويٌّ، يظل بؤرة حمئة يتقاسمها الوازعُ الإنسانيُّ على حد سواء، فضلا عن طموحه ـ أي الوازع الإنساني ـ نحو مكاشفة الواقع، ورفع الستار عن حياة ظلت ملتبسة وغامضة.

ـ 2 ـ

فمن خلال مبدعات مغربيات وعربيات، اللواتي بدأن مسيرتهن الإبداعية على إيقاع الثورة على أقنوم الجسد، في غمار ذلك، يتضح مدى إصرارهن الكبير على قلب الطاولة على الجمود الفني والجمالي في الكتابة النسائية. علاوة على بحثهن الجامد والمستمر عن ضفاف أثيلة، تتحقق فيها ذواتهن العطشى إلى التميز والانفراد. فمهما كان الحديث، عن التجربة الإبداعيَّة، بما هي تظهر تلك الخصوصية والتفرد، لا على مستوى الذات فحسب، بل حتى على مستوى الموضوع، فإن المتغيرات الجسدية عند المرأة تظل الوتر الحساس و السَّمفونيَّة الطروب، التي يعزفها الإبداع النسائي ؛ مما يبعدها كل عن إدانتها للواقع الذي تعيشه. ففي سنة 1999 نشرت الكاتبة المغربية زهرة زيراوي نصا قصصيا في مجلة الثقافة المغربية، والتي كان يديرها آنذاك الكاتب المغربي عبد الحميد عقار، يحمل عنوانا ؛"دورة تكاد تكتمل". تقول فيه:

"مدفوعا أخرج من رحم أمّي...
أن أهبط أصوات مختلفة تتصاعد من حولي... ربي يعاونك
تتعلق يداي ست مرات في اليوم بزجاج بارد... حبل السُّرة لم يعد، الآن، يقينا...".

فالخروج من رحم، يراصفه ألم و مخاض ؛ طقوس تعيشها المرأة لوحدها. فهي كائن راكم تجربة الألم و المعاناة و المكابدة عبر مسيرة عمرية طويلة، بعيدة كل البُعد عن أن يكون الرجل مشاركا لها في ذلك. فمن خلال نص زهرة زيراوي، يتضح أن هذه الأخيرة دخلت مناطق لا تتسع دوائرُها إلا للإبداع النسائي فقط. فمن الطبيعي أيضا أن يكون لهذا العمل تداعيات جمَّة لا على مستوى الإبداع فحسب، بل أيضا على مستوى بحثها الحثيث عن الحرية الذاتية، التي تدافع عنها المرأة في كتاباتها الإبداعيَّة. إن الهروبَ إلى الخصوصية الإبداعية، عند المرأة، شطحٌ من شطحاتها في منتصف النهار، حيث وفرت المجال الأرحب لبلورة تجربتها في الكتابة، بعيدة عن أعين الرجل ؛ الذي أصبح إبداعه، من منظورها، أسير الإدانة الشديدة للواقع و الاحتجاج عليه فقط. غير أن هذا الاختيار الواعي، الذي سلكه الإبداع النسويُّ، لم يعد حبيس تلك الرؤية الضيقة لتفاعلها اللامشروط مع الذات، وإنما استطاعت من أن توسع من رؤيتها للعالم بنفس جديد، دون التفريط قيد أنملة في خصوصيتها الأنثوية. فما كانت لواعج الشوق و الأحاسيس الفياضة للأنثى إلا مجالا خصبا لهذا التميز والانفرادية، علاوة على مسحة الشعور بالأمومة، كأحد الأعمدة والمنصات، التي تبني عليها صرح الإبداع عند المرأة. ففي سنة 2008 نشرت الكاتبة القطرية دلال خليفة مجموعتها القصصية"الخيل و فضاءات البنفسج"، تحكي الكاتبة في القصة، التي تحمل عنوان المجموعة نفسَه، عن علاقتها الحميمية بالمزرعة، التي أهديت لها من طرف الأب ؛ حيث إن الأفراس ترتع في ربوعها و مروجها بين أشنـَّة و غياض غدير. ولعل في سرْد دلال ما يجعلنا نحس و نشعر، فعلا، أننا نودع معها جزءا من ذاكرتها، التي تختزن لحظات حنين ممزوج بوجع و ألم دفينين. على اعتبار أن فك ارتباطها براشد، زوجها السابق، سيقابله تنازل نهائيٌّ عن المزرعة وخيولها. علاوة على تقمصها صفة الأمومة لمختلف الأفراس، ودربتها معها، التي نشأت و ترعرعت في رحاب هذا البستان الفسيح و شبَّت بين عرائشه الظليلة. تقول دلال خليفة في"الخيل وفضاءات البنفسج":"وهذه أحلامُ، ألطف الأفراس لديَّ، كثيرا ما تستأجر في المناسبات ليركبها الأطفال... لو سمعت يوما أن أحد الملائكة قد هبط إلى الأرض و تحول إلى فرس لظننت أنه أحلام. السن لها احترامها حتى إن كان المسن حصانا ؛ لو تعلمين يا نور كم أكن من التقدير لهذه الفرس... إنها جدة كل هذه الخيول تقريبا... هل تصدقين أنني أشعر أنها جدتي أنا أيضا؟"

فيض الإحساس و شعور الأنثى بالألم، يصاحبه لظى الفراق، كل ذلك يُترجمُ إلى لغة تنساب مضاءة، كنبع يسرق ضوءَ القمر. فلدلال أوصاف تطفح أنوثة من خلال مقاربة برؤية متخيل الكتابة النسائية، علاوة على مغامرتها في الإدانة الشديدة لجشع الرجال والوصاية المزعومة، التي يحاولون إجبار المرأة على الخضوع لها في استسلام ووداعة ؛ لأنه، في نظرهم، أضحى قدرا ماضيا و صامتا كأبي الهول.

غير أن الكاتبة السورية غادة السَمان، في باكورتها القصصية الأولى"عيناك قدري"، قد سلكت طريقا آخرَ، قانت فيه بين رؤيتين، بل بين جنازتين تنشدان هزيمة نكراء َ للمرأة أمام مجتمع عربي لا يؤمن و لا ينصت إلا لنبض الفحولة و الذكورة المتنمِّرة. تصور في"عيناك قدري"ضياع أنوثتها في أتون مبهمة و غامضة و سديمية، و في ظل مستقبل يتشظى أمامها ويذوب كالثلج. فضلا عن تسليعها في مزاد زواج فاشل لا يحترم ناصيتها الأنثوية، وميولها العاطفي و الجسدي. ومما زاد في تعميق جرح هذا الموقف هو توظيفها لعنصر السخرية اللاذعة من عقلية القبيلة والعشيرة السائدة في مجتمع عربي متزمت، لا يؤمن بتكافؤ الفرص و الحظ بين الرجل والمرأة. تقول غادة السمان في قصة"رجل في الزقاق"، والتي ترجمت إلى اللغة الأنجليزية:"لا فرق لدى أبي سواء نجحت أم رسبت. درست أم أهملت... المهم انتظار الرجل الذي يخلصه مني، من مصيبته الرابعة المغروسة أمام النافذة... مني أنا". ولعل ما يزيد في انخساف القرح، هو تلك الرؤية التي انطبعت على الجنس الآخر، باعتباره سَجََّانا و جلادا للجسد، وجهان لعملة واحدة، سواء كان الآخرُ أبا أو زوجا أو أخا أو عمّا. حيث يعمل هؤلاء جميعهم على تحنيط المرأة، وجعلها مومياء من زمن مصري قديم و بائد، تقول الكاتبة:"لو كان لي بعض حريتي لأدركت منذ زمن طويل أن أحمد الذي سحرني بشاربيه الرفيعين، رجل متزوج وشبه أمِّي. وأن هوايته تحنيط النساء. و لجنبت الفرحة البلهاءَ يوم جاءت أمه تخطبني زوجة ثالثة، بعد أن سحرته غمزاتي، وإشاراتي السخيفة عند هذه النافذة". فمن الشجاعة أن تستنهض الكاتبة هممَها، وتستعيد بعضا من جبروتها كأنثى، كي تعود إلى الحياة من جديد.

وترمي وراءها عقودا من التخلف و التحنيط، الذي شل قدراتها و طاقاتها الحيوية. وتسير على درب الحرية و العلم، مراصفة الرجل في تقلد مناصب حساسة كانت حِكرا على الرجاجيل، وتخلق منها شيئا آخر. فلم تعد ذلك الكائن الذي احترف ثقافة البكاء على الطلل و الإذعان لجبروت الواقع، تقول السَمان في القصة نفسها:"انفجر البركان... انسكب المطر... هدرت السيولُ... انهض و الشرر يتطاير من مسامي و شعري وأناملي... نظرات أبي المذعورة تستوقفني قبل أن أخرج من الغرفة صارخة"لن أتزوج من هذا الرجل... أريد أن أتمم دراستي... أحمد يتضاءل أمامي... يتضاءل... يستحيل إلى قزم... يتسلل من دارنا مع أمه، وأنا أردد بلذة محمومة: أريد... أريد... للمرة الأولى أتجرأ على أن ألفظ كلمة"أريد...".

إن لهذه الثورة، في وجه هذه الثوابت البالية، التي رسمها المجتمع العربي بعامة والمجتمع الدمشقي بخاصة منذ القديم، لجُرءة ً تكسر من خلالها أغلالا و أصفادا ظلت تعمل على إقصائها الدائم و المستمر من بناء مجتمع متكافئ وديمقراطي، يؤمن بقوة الحرية و العلم. ومنه فإن الكاتبة غادة السمان سلكت سمتا مليئا بالحفر، و طويلا من النضال، معلنة انضمامها إلى طابور من الكاتبات العربيات، اللواتي احترفن تعرية الواقع العربي من طابوهات، التي اعتبرنها مجرد قناعات تخفي غابات من تسلط و استبداد وسلب الحرية، و في مقدمتهن ليلى بعلبكي و كوليت خوري و ليلى العثمان، وفاتحة مورشيد وخديجة مروازي و مليكة الصوطي... و غيرهن كثيرات.

وأخيرا، يطول بنا الحديث عن تجربة المرأة في الكتابة و الإبداع، ويَبْقى لِبَانُ الحكي مُلقى على غريب التخييل، وعلى طاقة مفعمة حيوية بالحلم و الاستيهام. إلا أن الكتابة النسائيَّة تبقى إحدى اللبنات الأساسية، التي يشد عندها اكتمال صرح الإبداع في تجلياته الإنسانيَّة الرَّفيعة، فمن دون رقة و لمسة جنون و حنين و حب كالبلسم الشافي، لا نستطيع أن نعلن عن عبير المرأة كعبير ورد في الكتابة. فمهما حاول الرَّجلُ فرض سطوته على مجالات الإبداع، يظل عاجزا، بل تتكسر مراياه عند هذه الأنامل المتمردة... التي احترفت سرقة القمر... فمن دون هذا الأخير لن نعرف للإبداع معنى و لا مغزى.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى