اللغة العربية والنشاط الاقتصادي
" إذا أردتُ أن أبيعـــك بضاعتي يجب أن أتحدث لغتـك وإذا أردتَ أن تبيعني بضاعتــك فعليك أن تتحدث بالألمانيـة "
المستشار الألماني الأسبق ( ويلي براندت )
في أواخر الثلاثينيات من القرن التاسع عشر الميلادي ، نشبت في الولايات المتحدة الأمريكية حرب لغوية أطلق عليها " حرب المعاجم " ، وفيها استعرت حدة المنافسة التجارية في مجال اللغة وأسفرت في النهاية عن تأكيد استقلال الجمهورية الفتية ( أمريكا ) والحفاظ على هويتها من التأثر اللامحدود ببريطانيا العظمى !
وقد جرت هذه المنافسة التجارية بين اثنين من رواد صناعة المعجم الحديث للغة الإنجليزية : أحدهما ( وورسستر Worcester ) الذي كان ينتصر للنموذج الإنجليزي المحافظ ، ومن ثم للهيمنة الاقتصادية اللغوية لبريطانيا العظمى . والآخر هو ( وبسترWobster ) الذي أعلن أنه " بوصفنا أمة مستقلة فإن كرامتنا تدعونا لأن يكون لنا نظامنا الخاص في اللغة وفي الحكومة أيضا " ، ورأى أن الممارسة العامة للأمة الأمريكية هي التي يتعين أن تحدد وحدها اللغة الأمريكية الموحدة وقدم مذهبا سياسيا للديمقراطية اللغوية ، لم يقصد به فقط الاعتراض على سيطرة اللغة الإنجليزية المدرسية بل قصد به أيضا ترسيخ اللهجة الإنجليزية الأمريكية بوصفها اللغة القائدة للمستقبل . ثم بنى معجمه الذي راج باسمه حتى أصبح هذا الاسم مرادفـــا للمعجــم في الولايــات المتحــــدة ، شأنـه شأن روبير ( Robert ) في فرنسـا ، و دودن ( Duden ) في ألمانيا ولا يزال هذا المعجم يتنافس على السيطرة على سوق اللغة الإنجليزية حتى اليوم. [1]
وهكذا شكلت المنافسة التجارية عاملا حاسما في استتباب اللغة الإنجليزية الأمريكية، ونشرها حتى كادت تطغى على اللهجات التقليدية للغة الإنجليزية ، وقد ظلت العلاقة بين الاقتصاد واللغة تتنامى عالميا حتى غدت اللغة بالنسبة للنشاط الاقتصادي الحديث ركيزة محورية ، مثل النقود ، وتنشأ أهميتها من كونها عنصرا أساسيا من عناصر الاتصال الذي يعتمد عليه النشاط الاقتصادي اعتمادا كبيرا ، كما أن الاقتصاد قد أصبح دوره مهما في انتشار اللغة والإقبال . وكم أدى التوسع في النشاط الاقتصادي لأمة من الأمم إلى تمكين لغتها في بيئات جديدة لم يكن لأهلها عهد بها ، كما حدث مع العربية إبان ازدهارها في مناطق العالم المختلفة ، شرقا وغربا ، عبر المنافذ التجارية ، جنبا إلى جنب بضائع العرب ومنتجاتهم ، وكما يحدث مع الإنجليزية اليوم ، حيث يمثل النشاط الاقتصادي الحديث ، لا سيما في سوق منتجات التكنولوجيا والاتصال ، عاملا من أهم عوامل انتشارها ، وقد أضحت مصائر اللغات ( والشعوب ) رهنـا باقتصادياتها ، فكلما نشط اقتصاد لغة زاد انتشارها والإقبال عليها . ويبين " لينين " صلة اللغة بتشكيل الكيان الواحد للمجتمع عن طريق إسهامها في إيجاد السوق ، وتمكين الأمة من عمليات البيع والشراء والأخــذ والعطـاء ، قائلا : " اللغة هي الأداة الأساسية للتعامل الإنساني ، ووحدة اللغة وتطورها غير المحدود ، هو أحد الظروف الأكثر أهمية من أجل تعامل تجاري حر بالفعل ، وواسع النطاق ، على المستوى الذي تتطلبه الرأسمالية الحديثة ، ومن أجل التجميع الحر والعريض لكل السكان ، من مختلف الطبقات . وأخيرا من أجل إقامة ارتباط وثيق بين السوق وكل مالك ، كبيرا كان أو صغيرا ، بائعا أو مشتريا ". [2]
اللغة العربية بنت سوق :
توصف لغتنا العربية ، في التعبير الدارج ، بأنها " بنت سوق " ؛ حيث نشأت وترعرعت بين أحضان التجارة ، وهي الحرفة الرئيسة - بعد الرعي - التي كان العرب يلتمسون بها أسباب الرزق ، وكان لها أثر بالغ في مضاعفة أغراض اللغة العربية ، وتنمية ثروتها اللفظية والدلالية ، من خلال التعاملات التجارية التي كانت تجرى سواء بين القبائل في أرجاء الجزيرة العربية بعضها والبعض ، أو عن طريق احتكاكهم بالشعوب المجاورة لهم في قوافـــل رحلاتهم التجارية الموسمية ومنها رحلتا الشتاء والصيف . ومما يدل على توسع العرب في المسائل الاقتصادية ، كثرة ألفاظ اللغة العربية الدالة على المال ، فإن منها بضعة وعشرين اسما لكل منها معنى من المعاني الاقتصادية التي ترجع إلى الاستثمار وغيره ، منها : التلاد (المـال الموروث) والركاز (المال المدفون) والضمار (المال لا يرجى) والطارف( المال المستحدث ) ، والتالد ( المال القديم ) ونحو ذلك من أسماء النقود وأنواعها من الذهب والفضة. [3] كما كانت للعرب أسواق يعقدونها ، لا بغرض التجارة وتبايع السلــع وحدهـا بل كانت محفلا تعرض فيه أيضا فنـون القول ، على كل شكل ولون ، وتطرح القضايا والموضوعات الأدبية واللغوية للتناقش والتباحث ، على غرار ما يحدث في بعض المنتديات والصالونات الثقافية المعاصرة ، ويتسابق أهل اللغة من ثم في عرض حصيلتهم اللغوية والبلاغية – شعرا ونثرا – على النقاد والجمهور . وكانت هذه الأسواق تستغرق أشهر العام بصورة دورية ومتتابعة ، فيعقد سوق "دومة الجندل" في ربيع الأول ، وسوق " هجر " في ربيع الآخر ، وسوق " عمان " في جمادى الأولى ، وسوق " المشفر" في جمادى الآخرة ، وســــــوق " صحار " في رجب، وسوق " الشحر " في شعبان وسوق صنعاء في النصف الثاني من رمضان وسوق " عكاظ " – وكانت أكبر أسواق العرب وأجلها شأنا – في ذي القعدة ، وسوقا "ذي المجاز، ومجنة" قرب أيام موسم الحج ، في ذي الحجة ، وسوق " حجر " في المحرم . [4]
اللغة العربية والنشاط الاقتصادي الحديث :
لئن كانت هذه الأسواق ، وغيرها من أوجه النشاط التجاري والاقتصادي الذي شهدته الحياة العربية في مختلف البقاع ، وعلى مر العصور ، قد استخدمت فيها اللغة العربية على أنها الوسيلة الأساسية في ترويج وتبايع البضائع والسلع ، أي من خلال عمليات البيع والشراء فإن أهمية اللغة بصورة عامة ، قد زادت في النشاط الاقتصادي الحديث ، لتعدد صور ومجالات استخدامها تبعا لتعدد أدوات الاتصال التجاري بين الأفراد والشعوب ، حتى أصبحت هي الأخرى ينظر إليها باعتبارها سلعة ذات قيمة تبادلية تتزايد مبيعاتها في ظل الطلب المتنامي عليها ، غير أن لها ميزة تختلف بها عن باقي السلع ، وهي أن مخزونها أبدا لا ينفد .
ويخضع تحديد القيمة السوقية للغة ما ، في فترة ما ، للعوامل الاقتصادية ؛ فاللغة الصينية ، مثلا ، على الرغم من أنها لغة جماعة لغوية ضخمة ذات تراث ثقافي عميق، ولغة بلد ذي أهمية سياسية كبيرة في عالم اليوم ، ليست تحظى بطلب كبير عليها على مستوى العالم بوصفها لغة أجنبية ، لأن إمكان استغلالها الاقتصادي إمكان محدود . أما اللغة اليابانية – في المقابل – فقد ارتفعت قيمتها في السوق العالمية للغات الأجنبية خلال العقد الماضي ، وهو تطور لافت للنظر يكاد يشبه ارتفاع شأن الين في سوق العملات ، حيث إن اليابان قد أصبحت شريكا تجاريا مهما لبلاد كثيرة على مستوى كل القارات . [5] ونظرا لقيمتها الاستعمالية الكبيرة في السوق العالمية ، وسيطرتها على وسائل وبرمجيات التقنية الحديثة ؛ فإن اللغة الإنجليزية ما زالت تتربع على عرش اللغات الأكثر مبيعا في العالم ، في حين أن اللغة العربية ، وهي الأقدر والأجدر من حيث خصائصها وسماتها ، ما زالت تترنح تحت وطأة اقتصاد ضعيف لا يقيم لها وزنا في حساباته ، أو يقدم لها الدعم الواجب في نشاطاته .
فلم تجن اللغة العربية ، في ظل التحول الجارف الذي يشهده المجتمع المصري ، كنموذج للمجتمعات العربية ، إلى تنامي الاهتمام بالقطاع الخاص ؛ سوى بعض الجدل الذي صاحب هذا التحول حول المصطلح الأنسب لوصفه ، حتى استقر ، أو كاد ، على تسميته بالخصخصة على الرغم من أن معاجم اللغة العربية لم يثبت بها فعل هذا المصدر : خصخص ! ولكن هذا التجــادل اللغوي لم يعن أموال رجــال الأعمال والمستثمريــن في شئ ، فراحوا يستثمرون هذه الأموال في شتى المجــالات ما عدا اللغة ! غير أن التطور السريع الذي تشهده تقنية المعلومات وأدوات الاتصال ، فضلا عن نمو الوعي القومي بأهمية ملاحقة هذا التطور ، كل ذلك تطلب إعادة النظر إلى منظومة اللغة باعتبارها من أهم أدوات الإنتاج في هذا المجال ، وحظيت معالجة اللغة العربية من ثم بشيء من الاهتمام لم يتناسب بعد مع ثرائها وإمكاناتها .
ومن العبث أن نغفل أهمية العامل الاقتصادي في النهوض باللغــة العربية ، لأن ما يشغل العالم كله الآن هو في المقام الأول مشاكل اقتصادية ، وليس ثمة مجتمع يريد أن ينهض دون أن يحسن اقتصاده ، واللغة بوصفها ظاهرة اجتماعية تتأثر كما رأينا باقتصاديات المجتمعات المتحدثة بها ، ويمكن أن تكون اللغة العربية شأنها شأن اللغات الحضارية من عوامل تحسين الاقتصاد من خلال ما يسمى بالتصدير اللغوي للبرامج والتقنيات التي تعالج منظومتها . ويمكن القول : إن توجيه رأس المال نحو الاستثمار في مشاريع معالجة اللغة العربية له عائد كبير للمستثمر نفسه وللغة أيضا ، وذلك للأسباب الآتية :
1- قابلية هذه الاستثمارات للنمو ، نظرا لاتساع سوق اللغة العربية في المنطقة العربية، وتزايد الطلب على برامج المعالجة اللغوية .
2- تفاعل الثقافة العربية والإسلامية مع ثقافات العالم المختلفة عبر شبكة الإنترنت وتنامي رغبة المستخدم العربي في إثبات ذاته من خلال لغته العالمية ، وإقبال غير العرب على برامج تعلمها .
3- قدرة ومرونة اللغة العربية ، وهي السلعة في هذا الوضع ، على استيعاب التقنيات المختلفة ، لتعدد خصائصها ، وتفردها . مما يجعلها حقلا خصبا للدراسات التنظيرية اللغوية بصفة عامة ، مما يضمن رواجا لها في حركة البيع والشراء عند الطلب ، وتناميا في وسائل العرض .
وتتحدد مجالات الاستثمار اللغوي بقيمة رأس المال وقدرة المستثمر على سرعة الإنجاز والمنافسة التجارية ؛ وأهم هذه المجالات بناء المعاجم وصناعتها باستخدام الكمبيوتر ، فربح المعاجم كبير ودائم ، وكذلك برامج الترجمة الآلية من وإلى العربية ، وبرامج المعالجة الآلية للنحو ، والصرف فضلا عن برامج تعليمها للنشء وغير المتحدثين بها .
دور الأنشطة الاقتصادية في النهوض باللغة العربية :
إن أي نهوض باللغة العربية يرتبط - شئنا أم أبينا - بتقدم حالة الاقتصاد المصري والعربي ، وهذا يتطلب :
أولا – أن يغار رجال الأعمال العرب على لغتهم ، ولا يؤثروا عليها المشاريع ذات النفس القصير والربح السريع الوفير . ويقدموا من ثم على المشاريع التي تخدم اللغة لا سيما من خلال التقنيات الحديثة ، فالعرب أولى بلغتهم من الشركات وبيوت الخبرة الأجنبية التي يتفرق دم اللغة عليها فلا يحسنون التعامل مع منظومتها في ظل تقاعس أبنائها عنها ، واستغلال أموالهم في كل شئ ما عدا ما يخصها ، ومن الخزي أن تقوم بعض الدول الآسيوية الصغيرة التي تعرف هي الأخرى من أين يؤكل الكتف العربي ، بتصدير الدمى و" فوانيس رمضان " التي تنطق بلغتنا العربية ، فى حين يكتفي العرب بمجرد الطرب لها !
ثانيا - أن تعي الحكومات أن الاهتمام باللغة العربية هو من أوليات مسئولياتها ، أو في الأقل تعطيها من الرعاية والاهتمام ما تعطيه للأمور الترفيهية التي يعد التمسك بها على حساب الجوهر في بناء شخصية المواطن مدعاة لفقدان ثقة هذا المواطن بقدرة هذه الحكومات على الرقي به ، والإخلاص للمسئولية الجسيمة الملقاة على عاتقها تجاه شعبها ودينها ولغتها .
ثالثا – أن يدرك الشعب نفسه أن مستقبل الأجيال رهن برعاية اللغة والنهوض بها، وأن عبء النهوض لا يجب أن يلقى كله على جهة واحدة ، وإنما يشترك الجميع كل بأداء دوره المنوط به تحت رايـة النهوض بلغتهم ، ويمكن أن يضطلع الشعب العربي بالدور الرئيس تجاه اللغة بعد غياب أو تغييب الدور الفاعل والمؤثر للحكومات ورجال الأعمال .
ويذكر في هذا الصدد أن المشاركة الشعبية كانت ، وستظل ، هي الدافع الذي يحرك المجتمع نحو الصمود والنهوض ، وقد حدث هذا في مصر عندما كان الحماس الوطني والشعبي يلهب مشاعر الناس إزاء الاحتلال الغاشم ، وكم تغلبوا بفضل هذا الحماس على عقبات وعقبات ، ولكنهم لم يكتفوا بمجرد الحماس وإنما شاركوا بالفعل في صنع الأحداث والتغلب على الأزمات التي واجهت الوطن .
مشروع الجنيه :
في بداية الثلاثينيات ، كانت هناك رغبة شعبية عارمة في تحرير الاقتصاد المصري من براثن الاحتلال الأجنبي ، والنهوض بالصناعة الوطنية ، وأنشئت بغرض ذلك الجمعيات وتآلفت الجماعات . وكان ثمة شاب مصري [6] فكر في أسلوب غير تقليدي لتحقيق هذا الغرض ، وكل فكرة عظيمة لا شك كانت في الأصل فكرة بسيطة ، فدعا إلى اكتتاب عام من جميع أفراد الشعب ، حيث يشارك كل فرد بقرش واحد من دخله كحد أدنى لبناء وتعمير المصانع الوطنية ، ومنافسة المحتل .
ووجدت الفكرة صدى كبيرا لدى طوائف الشعب الواعية آنذاك وسرعان ما انتشرت وأيدتها الصحف الوطنية ودعت إليها تحت اسم " مشروع القرش " ووزع طابع خاص بالمشروع في ربوع مصر المختلفة . ونجح المشروع نجاحا ساحقا وتم بناء المصانع الوطنية وتخطت مصر بفضل المشاركة الشعبية أزمتها الاقتصادية في ذلك الوقت .
ولا شك أن اللغة العربية اليوم أولى بهذه المشاركة الشعبية ، وتلك الروح الوطنية المتأججة ، لأن وجودها أصبح مهددا في كثير من الميادين العملية وبخاصة في مجال التكنولوجيا الحديثة التي تفوقت فيها اللغات الأخرى بمراحل فى حين تقف اللغة العربية " محلك سر " ، مما قد يؤثر على استقرارها بين ذويها ويدع الفرصة للغات الأخرى لاحتلال مكانتها في نفوسهم لأن العربية في نظرهم ستكون لغة جامدة غير متطورة وغير قادرة على استيعاب تطبيقات العلم الحديث مثلما تستوعبها هذه اللغات المحتلة . وقد جاء تفوق هذه اللغات الأجنبية على اللغة العربية في مجالات التقنية الحديثة لا لمزية فيها لا تتوفر للغة العربية فاللغة العربية – فى اعتقادنا - تتفوق بمزاياها وخصائصها على جميع لغات العالم كما سبق ، ولكن لتوفر الإمكانات المادية والبشرية والعلمية اللازمة لانتشال هذه اللغات من بؤرة الجمود والتغلب على مشاكلها الذاتية في التجاوب مع معطيات العلم الحديث فضلا عن إخلاص أهل كل لغة للغتهم كإخلاص الإنجليز للإنجليزية واليابانيين لليابانية والصينيين للصينية والعبريين للعبرية وهكذا ، وهذا الإخلاص للغة يعكس مظهرا قويا من مظاهر التحضر الذي لا يمكن أن توصف به أمة لا تحترم لغتها ولا يبذل أفرادها كل ما في وسعهم من أجل النهوض بها وهو نهوض ينعكس لا شك على حاضرهم ومستقبل أبنائهم .
ولذلك يدعو كاتب هذه السطور كل عربي غيور على لغته وأمته من كتابها ومثقفيها أن يبادر إلى الإسهام فى "مشروع الجنيه" حيث يساهم كل مواطن بجنيه واحد من دخله كحد أدنى لدعم المشاريع الخاصة بالنهوض باللغة العربية، كمشاريع برامج تقنية اللغة العربية التي تحتاج إلى مبالغ طائلة، لا تستطيع الحكومات وحدها أن تفي بها في ظل الغفلة التي تعيشها كثير من الأنظمة السياسية السائدة عن رعاية واحتضان اللغة العربية وفي ظل التخلف الاقتصادي الجاثم على أنفاس معظم الشعوب العربية، وعزوف رجال الأعمال والمقتدرين عن الاضطلاع بكثير من هذه البرامج اللغوية.
ولا شك أن مشروعا كهذا سيكون بمثابة " الانتفاضة اللغوية الشعبية " التي تزلزل أركان التخلف اللغوي ، وتكون بداية لثورة لغوية إذا كتب لها النجاح فسوف تقتلع جذور الجمود الفكري والعلمي الذي تغط اللغة العربية في سباته وتعيش في رحابه وهو في الوقت ذاته نوع من المصالحة مع لغتنا العربية التي طالما ألهت مشاغل الحياة الناس عن القيام بدورهم الواجب تجاهها.
وخير جهة يمكن أن يثق الناس في قدرتها على تبني هذا المشروع وتجاوبها معه وحسن توجيهه هي الجهة المعنية الأولى باللغة في مصر ، أعني : مجمع اللغة العربية، وهو مدعو لأن يفتح أبوابه لتلك المشاركة الشعبية تنفيذا لهذا المشروع وفق خطة مدروسة وبعيدا عن التعقيدات الروتينية التي يعاني منها بوصفه جزءا من المنظومة الحكومية ، ولعله ينشئ المطبعة التي يتمكن من خلالها من تسليط الضوء على إنتاجه الغزير ، وإخراجه من أضابير الظلام إلى النور ، فتتفتح عيون الناس على وضع لغتهم في خريطة اللغات العالمية ، كما يمكن أن يمثل مثل هذا المشروع نواة لمشروع شعبي تتبناه جامعة الدول العربية وتعممه على مستوى العالم العربي كله .
إن مشروعا كهذا إذا تحقق ، فسيكون عائده المعنوي على العرب كبيرا ، حيث يعد مظهرا على توحدهم في مقوم من أهم المقومــات التي تجمع الشمل العربي وهو اللغة العربية ، وما أجل وأعظم أن يجتمع العرب جميعا على حب لغتنا الجميلة ، والتفاني قولا وعملا في خدمتها .