الاثنين ١٤ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٩
بقلم رشيد سكري

اللغة العَربيّة... هذه العَجائبيَّة

لم يهدأ أوَار حرب قذرة، على اللغة العربية، تشنها جهات مجهولة وغير معروفة. جهات تنفذ أجندات على حساب اللغة العربية العريقة ؛ عراقة التاريخ الإنساني. إن الانتصار للدّارجي والعامّي، على حساب اللغة الأم، هو دفع المجتمع في أتون تقوقع وتحجّر وانغلاق مَقيت. فما كان لهؤلاء، إلا أن يعلنوا ولاءهم السّافر للضحالة، و فك ارتباطهم الهش مع التاريخ والتراث للبلاد العربية، الذي شيد على مدى قرون خلت.

فالحرب الإعلاميّة، التي بحوزتهم، كانت واجهة و سلاحا فتاكا. وبمجرد لفت الانتباه إلى هذه القضية، حتى بزغت وجوه تطالعنا في الإعلام السّمعي و البصري، تدافع عن مشروع وهمي، لا يمتلك الشرعية الثقافية و لا حتى السياسية. لاعتقادهم أن الانتصار سيكون حليفهم ؛ وبضربة مروحة سيتغير مشهدنا الثقافي المغربي، وستتبدل خريطتنا اللغوية.
فهيهات! هيهات!

إن اللغة العربية ؛ هذه العجائبية، أكبرُ من ذلك بكثير. فهي ليل لا صبح له، بل بحر لا ساحل له.

إن الحروب، التي أرست دعائم العربيّة، أسست لتقعيد بـُني بالإسمنت المُسلـَّح. فلـُهـْوة هذا الوغى ؛ لغات سابقة عن العربية ؛ كالآشورية والكلدانية و اللغة المصرية القديمة وغيرها... فالانتصار بات حليفا محلفا للغة العربية. فخوفا ووجلا على سليقة يعشقها القاصي قبل الداني، من أن تذهب برمية نرد على طاولة الندماء، قام المقعدون، ولم يقعدوا على وثير الأرائك في مكاتبَ تدمع مكيفاتها. بل جابوا فيافيَ و فلاة، بأقدام حافية و بحوزتهم تين يابس ولبن، بحثا عن حفنة من كلام يضيفونه إلى لسانهم، ويغذي سليقتهم بما يضمن تواصلهم المادي والمعنوي. فمهما حاولنا أن نبحث عن رواد هذه الفترة، فإننا سنجد، لا محالة، حسب المرحوم طه أحمد إبراهيم، في كتابه"تاريخ النقد الأدبي عند العرب"، ابن سلام الجمحي الذي كان له الفضل كل الفضل في جمع شعر متناثر شرقا وغربا من شبه جزيرة العرب. فما كان لكتابه،"طبقات الشعراء"، إلا أن تهتز له، أوائل القرن الثالث الهجري، الساحة الثقافية العربية، وتعتبر حدثا استثنائيا. ومنه كان له كبير الأثر في تعزيز مشهد اللغة العربية، بكلام موزون و مقفى يدل على معنى. ولا هدف من وراء ذلك، سوى استبانة أبعادها الإيقاعية و الدلالية والجمالية أيضا، تيسيرا للتشبث الجامد، للناطقين و غير الناطقين، بأهداب هذا الانتماء الرحب الوفير للغة العربية.

ـ 2 ـ

إن اللغة العربية لغة الجُموع؛ لغة تمجدُ الذات، نكفي أن نذكر، في هذا المقام، المثنى والتثنية، على إيقاع شعر معلقة امرئ القيس؛ الملك الضليل من الطويل:

قفا نبك من ذكرى حبيب و منزل
بسقط اللوى بين الدخول فحومل

إن استحضار الآخر، في بعدها التواصلي، دليل على تمجيدها للمثنى الفاعل في التركيب اللغوي ؛ فالمثنى تثنية و ثنائية يفيد نظريات اكتشفت، مؤخرا، في حقل التلقي الأدبي. فكان لزاما على الخطاب أن يتمفصل بهدف التعبير الصادق عن الجوهر و الكينونة. غير أن الجموع السّالمة المعافاة، يروق وقعها على طبلة الأذن، ولا ينفر منها سوى جاحد عنيد و منكر في جحوده. هي هكذا سليمة من حيث إنها تجمع بين الجمع و المفرد، وصورة هذا الأخير، لا تتغير و لا تتبدل رغم تبدل المنازل و الأمكنة. علاوة على أنه يصبح المفرد جسرا واقيا يمر عبره، الذين عبروا و لم يعودوا. فعندما نقول:

قرأ العرّافُ صحنَ الفنجان
قرأ العرّافون صحنَ الفنجان

نمر من المفرد إلى الجمع بإضافة الواو و النون إلى مفرده ؛ فإن هذه النقلة في الدرجة لا يستقيم عودها إلا بالتعريج على علم يدرس تحولات الكلم في العربية، ألا وهو سيد العلوم، وبمثابة جهازها العصبي، الذي ينقل الشحنات الكهربائية في كل أنحاء الجسد؛ علم الصّرف.

فما كان لهؤلاء أن يدركوا أن حقل اللغة العربية كله ألغام، تتستر خلف بناء يصمد أمام عوادي الزمان. فهاكموا ـ أيها المتنطعون ـ علم الصرف الذي يدرس الأبنية العربية، وهيئاتها في إطار الدرس اللغوي المجيد. إلا أن بعض الصرفين يوسعون من حقول ألغامهم، فيحددون علم الصرف؛ كل ما له صلة بالكلمة أو الجملة، شريطة أن تغير ـ أي الصلة ـ تركيب الكلمة في مبناها و معناها. كم كنتم أشداء و جبابرة عندما تجرأتم أن تنشئوا جسورا و قناطرَ بين ما هو صرفي و ما هو نحوي ؛ ليبقى جسد اللغة العربية واقفا شامخا شموخ أبي الهول.

فعلم الصرف، دائما، كالشهدة التي تملؤها النحلة المطنانة بالمن و السلوى. فرائحته عطرة تجلب الموسيقيين و عشاق الطرب الأصيل، عندما أعلن المايسترو أن يدخل، دخول الفاتحين المنتصرين، على علم الأصوات، مادامت اللغة العربية و سائر اللغات عبارة عن عناصر صوتية، تتركب توزيعاتها بحسب الجهاز الصوتي للإنسان. فما كانت لشرعية الوجود أن تعن للفاتحين، حتى ظهر علم الصواتة، الذي يدرس الأصوات في مدها و جزرها.

فغير بعيد عن الكلمة تنبثق الجملة، و ينبثق معها الإطار الذي تنتظم بداخله ؛ علم النحو. فعلم الصرف و علم النحو وجهان لعملة واحدة، وإحدى الركائز التي تشد عضد اللغة العربية، وتقيها من النخر و السوس، و تبعدها عن هرطقات جاهلين و غافلين. فالواحد يكمل الآخر خصوصا في مواضيع كالإبدال و الإعلال، فلا تعرف مواقع النجوم و السُّعود و المجرات إلا إذا كنت فلكيّا متمرسا.

فعندما تقول مثلا: عمر مشروبٌ لبنـُه

فإنك لن تدرك موقع كلمة"لبنـُه"إلا إذا أدركت الصيغة الصرفية لكلمة"مشروب"، فشرعية التداخل، بل التلاحم حاضرة بين علم النحو و الصرف في العربيّة، فضلا عن رائحة شيء مجهول تظهر و تختفي في بناء الجملة مثل الفنك أو ثعلب الصحراء. فعلم الصرف، إذن، يدرس الثابت، بينما علم النحو يدرس المتنقل. فبين الثابت و المتنقل مياه كثيرة جرت تحت الجسر.

ـ 3 ـ

بعيدا عن الجموع السالمة، نمر بالقرب من الجموع المتكسرة. فتطير شظاياها كالمرايا، خصوصا عندما ندرك أن شيئا ما يعتمل بداخل هذا الضرب من الجموع تسهل تكسيرها، تفردها في ذواتها... و على أشكالها تقع كطيور العقعق المهاجرة... إن لتكسير صورة المفرد في الجمع لوقعا شديدا على السَّامع، بل يدرك مباشرة حجم هذا الجمع ؛ أهو جمع قلة أم جمع كثرة؟

فعندما تقول:"هي ذي الأنهر التي تقطع أوصال بلادي"يكفيك الكلام أن عددها قليل محسوب على أنامل اليد. في حين إذا قلت:"أرسلنا رسلا مبشرين و منذرين"، فهو دليل على الكثرة، بما فيها نوع من إصرار الكافرين على الجحود و النكران. أما صيغ منتهى الجموع ؛ فإنها ظاهرة و طاهرة من كل الشوائب، التي قد تدنس هذا جسد النوراني؛ جسد اللغة العربية ؛ إنها أكسير حياتها، تطهرها من زوائد و طفيليات، التي تعلق بدورتها الدموية، وتلعب دور الكلي في جسد الإنسان. فلا يستقيم لا التنوين و لا الكسر على جسدها المدهون بالبريانطين، إلا بعدما تنضاف رافعة الغموض، أو مزيلة الإبهام ؛ لتنقشع الرؤية أمام قارئ حصيف، قد يلف عينيه رذاذ.

ولكي لا تبقى اللغة العربية تنتظر من يأخذ بيدها، حسب تعبير جبران خليل جبران، وهي جالسة القرفصاء على قارعة الطريق، انفتحت على لغات أخرى عن طريق الاقتراض. فجعلت من هذا الأخير، غربالا نعيميّا ـ نسبة إلى ميخائيل نعيمة ـ ذا عيون دقيقة و مصفاة حقيقية، توصل إلى خزانين مزودين بأحدث الوسائل التقنية. فمن بين هذه المفردات من يستحم بأحد هذه الأخزنة ؛ فيأخذ أصباغها وألوانها، ويتأقلم مع أوردتها و شعابها؛ ليصبح بعد ذلك معربا.

ومنها من ينتظر ببطن الخزان، يتدور في مائه النمير و مغاسله ومصافيه؛ حتى تنكشف هويته، وتُنتزع أزلامه، ليصيرا دخيلا محافظا على ثوابته في لغته الأم.

إن الدخيل و المعرب، في اللغة العربية، وسيلة من وسائل تمطيط حجمها، وأخذ أحياز جديدة في بنائها اللغوي، ففي تأقلم المفردات المقترضة أكبر دليل على تسامح و انفتاح، يتم عبر جسد اللغة العربية، ومن خلالها تصبح المفردة تتنفس و تتكلم عربيّا مثل الأرض، خاضعة و مستسلمة للأوزان الصرفية العربية، وأحوال لسانها. وعلى غرار هذا النسق المعرفي و الثقافي، استطاعت اللغة العربية أن تستوعب ثقافات و علوما شتى لأمم سابقة أو مجاورة. وأن تظل وفية لهذا المعجم الدخيل، دون إكراه أو اضطهاد أو ترهيب أو توجيل. فضلا عن ذلك، تمكنت الكلمة المقترضة من أن تعيش في مائها ـ أي ماء اللغة العربية ـ العذب النمير بسلم و سلام؛ تسبح و تتنفس الأكسجين الذائب في مياهها.

ـ 4 ـ

غير بعيد عن المفردة في اللغة العربية، نجد العجب العجاب من خلال تركيبة بنياتها السياقية، المتضمنة لمعنيين أو أكثر في الكلمة الواحدة، تجمع ما بين الماء و النار أو بين الليل و النهار، فلا ينبلج صبح أو تظهر بعض خيوطه، حتى ينقلب الصبح ليلا، ولا تدري أأنت تحت رحمة الليل أم النهار؟

فهاكموا التضاد في اللغة العربيَّة.

يسكن الكلم الصَّهدَ و القر، بل الشيء و ضده في جسدها، فلا يصيبها لا بالحمى و لا بالوجع ولا بصداع الرأس. تقف أمام مثيلاتها بهمة و شأن كبيرين، إمضاؤها بحد السَّيف من الجانبين، كرمح شاعر جاهلي ألفته فيافي البيداء و وحوشها، ولا يستكين أبدا إلا عند فرسه اللاغب النافر المنجرد. فالتضاد في العربية يطلق على المفردة الحمَّالة لمعنيين متضادين غير منسجمين، فالفاصل بينهما ؛ المعنى المراد من الجملة استنادا إلى القرائن اللفظية و المعنوية.

فعندما ينصح الوالد ولده في رسالة، وهو بعيد عنه في بلاد الغربة، يقول فيها:
"أي بُني:

... إنك في بلاد الغربة، لا أهل لك و لا حَميّة، فأنت مسْجُورٌ، دائما و أبدا، بالشوق والحنين الدافقين لوطن تنفست هواءَه الرَّطب تحت عرائشه الظليلة. وكي تعيش ـ أي بُني ـ في وئام و تواد و رحمة، فما على نفسك إلا أن تكون مسْجُورة من كل حقد و ضغينة ؛ فأدّبها بالعلم والمعرفة. فتلك بلاد الغربة... يا بُني."

فكلمة"مسْجُور"دالة على الفارغ و الممتلئ بحسب السّياق، الذي وردت فيه. ناهيك عن مفردات لها أوزان صرفية عربية تليق بالمذكر كما المؤنث. يتوحد المذكر بالمؤنث في جسد الكلمة الواحدة، وهي خصيصة تتفرد بها العربيّة عن سائر اللغات الأخرى.

لقد استطال بنا الحديث في حارة اللغة العربية، فهل لهذه الأخيرة وجه تطالع به الناطقين بها؟ أكيد أن للغة العربية وجه مشرق، يكفي أن تخرج سليمة و معافاة ؛ فهي شكل من أشكال التداوي و العلاج حسب عبد الفتاح كيليطو. تطمئن ما بداخلك ؛ لأنها تعود بك إلى جذور و أصول لطالما تجاهلتها عن قصد أو عن غير قصد.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى