الثلاثاء ٥ آذار (مارس) ٢٠١٩
حكايات أقطاب اللغة خطفًا:
بقلم كريم مرزة الأسدي

المبرد، ثعلب، ابن السكيت

بيتٌ من الآدابِ أصبح نصفهُ
خرباً وباقي نصفه فسيخربُ
ماتَ المبردُُ وانقضتْ أيامهُ
ومع المبردِ سوف يذهب ثعلبُ
وأرى لكم أن تكتبوا ألفاظـــهُ
إذ كانت الألفاظ فيمــا تكتبُ

لا نريد الخوض في المسائل النحوية، والخلاف الدقيق بين المدرستين، وإبداء وجهة نظرنا الخاصة فيما دهبوا إليه أصحابهما، وفلسفة التوجهات الخلافية والتوافقية بينهما تركناها لكتابي (نشأة النحو العربي ومسيرته الكوفية / مقارنة بين النحو البصري والنحو الكوفي) مع وجهة نظرنا ورأينا والترجيح المأمول ما في عقلنا حول العقول؛ وإنما الآن كعادتنا في بقية الحلقات نروم إلقاء نظرة على جهود عباقرة العرب وأفذاذهم وتفانيهم في سبيل إعلاء رفعة لغتنا الجميلة، لأن اللغة هي وجه الأمة المعبر عن حضارتها وثقافتها وشموخها! فالموضوع ثقافي بنفحات علمية نحوية لكي لا يتجشم العناء القارئ الكريم، وبتصرف غير قليل.

لما عاد المازني شيخ البصريين بعد أن سأله الخليفة الواثق عن سرِّ(رجلاً) في غناء جاريته، ظهر شيخ الكوفيين أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الملقب (ابن السكيت)، كان معلماً للصبيان في قرية (دورق) بخوزستان، ويرجح بروكلمان أنه آرامي الأصل، والرجل درس على الفرّاء، وأبي عمرو الشيباني، وابن الأعرابي من الكوفيين، كما أخذ عن الأصمعي وابن عبيد الأترم من البصريي، وألتقط اللغة من أفواه الأعراب (1). وكانت مصنفاته الكثيرة مضرب المثل في الجودة والإتقان والثقة، وقيل ما عبر على جسر بغداد كتاب في اللغة مثل (إصلاح المنطق)، وعرف عنه إمام بنحو الكوفيين، وعلم القرآن واللغة والشعر، راوية ثقة، وقد عدو علم الكوفيين منتهياً إليه وإلى ثعلب(2)، وقال عنه ثعلب:

"أجمع أصحابنا أنه لم يكن بعد ابن الإعرابي أعلم باللغة من ابن السكيت"(3)، وكان المتوكل قد ألزمه تأديب ولده المعتز بالله، وبعد تأديب هذا غدر به المتوكل وقتله على سبب لا يعقله عاقل، وتناقله المؤرخون؛ إذ أمره"بشتم رجل من قريش، فلم يفعل، وأمر القرشي أن ينال منه، فنال منه، وأجابه يعقوب.

فلما أجابه، قال له المتوكل: أمرتك أن تفعل، فلم تفعل؛ فلما شتمك فعلت، وأمر بضربه، فحمل من عنده صريعاً مقتولاً (244 هـ / 858 م)، ووجه المتوكل من الغد إلى بني يعقوب عشرة آلاف درهم ديته"(4)، هذا هو قضاء وقدر ابن السكيت أمام المتوكل.

لماذا يشتم رجلاً لم يشتمه؟!

وما الحكمة في هذا الشتم المبتذل؟! لولا الأمر دّبر بليل - إن صحت رواية ابن الأنباري الكبير! - ولما نال هذا القرشي منه، من المروءة أن يرد عليه؛ بل يرد الصاع صاعين، لإمتناع ابن السكيت عن سبّه أولاً، ولرد الشتيمة بالمثل ثانياً، فما بال المتوكل يقتله صريعاً، وهو الذي أمره بتأديب (معتزه)، وأين.... وما جزاء الإحسان إلا الإحسان؟! وعلم ذلك وحسابه عند ربك، وهنالك رواية أخرى ينقلها (السيوطي) في (بغية وعاته) (5)، عكفنا عن نقلها لما تتضمن من دوافع طائفية، لا تصلح في هذا العصر المفترض أن نكون أكثر وعياً وإنسانية - إن صحت الرواية أيضاً -.

والحقيقة منذ عهد الواثق وقدوم المازني إلى بغداد كما ذكرنا، أحدث تحولاً هاماً في تاريخ المدرستين من حيث التنافس على بغداد وقصورها، وتحقيق الأمتيازات، فقد بدأت الكفة تميل الآن إلى جهة البصريين، وأصبحت ثقة بغداد تزداد بهم على حساب الكوفيين، وخصوصاً بعد وفاة ابن الإعرابي (231 هـ / 846م)، ومقتل ابن السكيت؛ إذ أخذ الخلفاء يستدعون البصريين للتحكيم في المسائل النحوية واللغوية، وممن استدعي (المبرد) البصري إلى (سر من رأى) سامراء حيث مقر الخلافة حين ذاك، ثم إلى بغداد من قبل صاحب شرطتها، ولكن اقتراب المازني في أرائه من الكوفيين، واقتربَ الكوفيون أيضاَ منه لكثرة مادار من مناظرات جعلت كلّ فريقٍ يتمعن ويتبصر ويعيد النظر في آراء الفريق الآخر (6).

والمبرد هوأبو العباس محمد بن يزيد ينتهي نسبه إلى الأزد من ثمالة (211 هـ - 285 هـ / 826 - 898م)، إمام البصريين في عصره، تلميذ أبي عثمان المازني وأخذ عن أبي عثمان الجاحظ،، وأبي حاتم السجستاني، وحضر مجالسه.

ونهل من علمه كبار علماء النحو واللغة والأدب، أمثال الزجاج والصولي ونفطويه وابن السراج والأخفش الأصغر وأبي الطيب الوشاء وابن المعتز العباسي وغيرهم.

تنافس هو وثعلب إمام الكوفيين الآتي ذكره في عصرهما، وقد سئل النحوي الشهير (أبو بكر بن السراج)، صاحب كتاب (الأصول في النحو)، أيهما أعلم المبرد أم ثعلب؟ فأجاب:"ما أقول في رجلين العالم بينهما."(7)

وللمبرد عدة مؤلفات أشهرها: (الكامل في اللغة والأدب)، وهو من أشهر كتب أدب العرب على مدى تاريخهم، عدد مجلداته وصلت ثمانية في بعض الطبعات، مدحه ابن الرومي بقصيدة طويلة (98) بيتاً:

أضحت الأزد وأضحى بينها
جبلاً وهي رعانٌ وريود
ويميناً إنك المرء الذي
حبه عندي سواء والسجود

والبحتري الأشهر في عصره والمتنفذ - وهو طبعاً من معاصريهما - داعيا لأخذ العلم منه، فهوالكوكب المسعود:

نال ما نال الأميرُ محمد
إلا بيُمن محمـد بـــــن يزيــدِ
وبنو ثمالةَ أنجمٌ مسعودة
فعليك ضوءُ الكوكب المسعودِ

واضح (محمد بن يزيد)، وهو من ثمالة، يعني به المبرد، ولابد أنه كان يدرّس الكثير من أبناء الملوك.

وأكرر مرة أخرى هذا المبرد الكبير هو الذي قبل يد دعبل، ونقل عنه رواية رائعة، باعتراف ابن المعتز العباسي؛ وهو أيضاٍ ابن خليفة وشاعر وناقد كبير عاصرهما.

وكان (ثعلب) الكوفي موازياً للمبرد في العلم والشهرة والمكانة، ثعلب أيضاً كنيته أبو العباس، وهو أحمد بن يحيى بن زيد بن سيار الشيباني إمام الكوفيين في النحو واللغة (200 هـ - 291هـ /815م - 903م)، ولد في بغداد ونشأ وتوفي فيها إبان خلافة المكتفي؛ ولكن مدرسته النحوية كوفية خالصة، والدكتور المخزومي يقول:"أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب ثالث ثلاثة قامت على أعمالم مدرسة الكوفة النحوية، وهو بغدادي المولد والمنشأ، وكان شيبانياً بالولاء"(8)، أما الآخران فهما الكسائي والفراء، وأخذ ثعلب عن محمد بن زياد الإعرابي، وعلي بن المغيرة الأثرم، ومسلمة بن عاصم، ومحمد بن سلام الجمحي وغيرهم.

وأخذ عنه أبو الحسن علي بن سليمان (الأخفش الأصغر)، وابن عرفة وابن الأنباري، وكان ثعلب ثقة ديناً مشهوراً بصدق اللهجة والمعرفة بالغريب، ورواية الشعر، قال عنه المبرد"أعلم الكوفيين ثعلب"(9)، مقدماً على الشيوخ وهو حدث، وعلى ما يبدو مما ذكر تستشف، إنه غير ميال للمناقشة والتحاور والمجادلة مع المبرد؛ ولكنه خطيب في المحاضرات بشكل عجيب، ربما بديهته، وكثرة معلوماته، لا تساعدانه على الرد السريع؛ ولكنه سريع الحفظ، خطيب من الطراز الأول، فهو يصلح للمحاضرات، لا الأخذ والرد السريع - والله أعلم-.

ةيحدث التاريخ: إنّ أبا جعفر أحمد ابن إسحاق البهلولي القاضي الأنباري و أخاه البهلول"دخلا مدينة السلام في سنة خمس وخمسين و مائتين، فدارا على الخلق يوم الجمعة، فوقفا على حلقة فيها رجل يتلهب ذكاءً، ويجيب على كلّ ما يسأل عنه من مسائل القرآن والنحو والغريب وابيات المعاني، فقلنا من هذا؟ فقالوا: أحمد بن يحيى ثعلب."(10)

إذاً كان ثعلب يتلهب ذكاءً؛ ولما مات المبرد، وقد أوردنا سنة وفاته قبل ثعلب، وقف رجل في حلقة ثعلب وأنشد:

بيتٌ من الآدابِ أصبح نصفهُ
خرباً وباقي نصفه فسيخربُ
ماتَ المبردُُ وانقضتْ أيامهُ
ومع المبردِ سوف يذهب ثعلبُ
وأرى لكم أن تكتبوا ألفاظهُ
إذ كانت الألفاظ فيمــا تكتبُ (11)

يتبين مدى أهمية اللغة إبان تطور الحضارة العربية، وعندما تزدهر الأمة تزدهر في جميع أتجاهاتها، ثم ركز على عجز البيت الثاني والتمييز بين الكلام المكتوب ولفظ الكلام المنطوق حيث يتجسد غفى هيئة نبرات وموجات وترددات وتعبيرات وإشارات وانفعالات، فالحق مع الشاعر؛ إذ يقول (إذ كانت الألفاظ فيما تكتب).

بالرغم من قوة حفظه المشهور - وأقصد ثعلباً- كان يأخذ الكلام على عدة وجوه، بارعاً في التعليل يذكر بلسانه:"كنت أصير إلى الرياشي لأسمع منه، فقال لي يوماً، وقد قـُرئ عليه:

ما تنقمُ الحربُ العوان مني
بازلُ عامين صغيرٌ سنـّي

كيف تقول: بازلُ أو بازلَ؟ فقلتُ: أتقول لي هذا قي العربية؟ إنما أقصدك لغير هذا، يروى بالرفع على الآستئناف، والنصب على الحال، والخفض على الأتباع فأستحيا وأمسك"(12).

وهذه الحادثة التي وقعت بين ثعلب الكوفي مدرسة، والرياشي البصري سبقت سنة (259 هـ / 871م)؛ لأن أبا القضل عباس الرياش، وكان أسود قتل في ثورة الزنج في السنة المذكورة سابقاً، وهو من جذام، له (كتاب الخيل) و (كتاب الأبل)، وهذا (ثعلب) كان مقتراً على نفسه، فجمع ثروة، وله عدة مؤلفات: المصون في النحو، معاني القرآن، اختلاف النحويين، معاني الشعر....نكتفي بهذا القدر الذي يعفيك من الضجر، ويريحني من السهر، ولله من قبل ومن بعد الأمر!!

المراجع والمصادر بلا أرقام الصفحات.

(1) راجع (نزهة الألباء..): ص، و (مراتب النحويين): ص، و (وفيات الأعيان): ج2 ص (بولاق)، (الدراسات اللغوية...) د. محمد حسين آل ياسين (مكتبة الحياة - 1980م - بيروت) كلها م. س من كتابنا (نشأة النحو العربي ومسيرته الكوفية / مقارنة بين النحو البصري والنحو الكوفي).
(2) راجع (آل ياسين): المصدر السابق.
(3) (مراتب النحويين): المصدر السابق.
(4) (نزهة الألباء): ص م , س.
(5) (بغية الوعاة):السيوطي عبد الرحمن مطبعة عيسى الحلبي 1965م - القاهرة.
(6)(المدرسة البغدادية): ص م. س.
(7) (إنباه الرواة)ج1 ص م. م.
(8) (مدرسة الكوفة..): د. مهدي المخزومي ط2 - 1958 - ط 2 - مصر.
(9) (نزهة الألباء): ص م. س.
(10) (طبقات النحويين واللغويين): ص م. س. ترجمة محمد بن قادم.
(11) (إنباه الرواة): ج 1 ص م. س.
(12) (بغية الوعاة): ج 1 م. س.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى