الثلاثاء ١٦ تموز (يوليو) ٢٠٢٤
بقلم محمد عبد الحليم غنيم

المرأة فى المنزل المقابل

قصة: آر. كي. نارايان

كان الناسك يرتجف دائمًا عندما ينظر من نافذته وذلك لأن المنزل فى الوجهة المقابلة من الشارع كانت تحتله امرأة فاحشة. في وقت متأخر من المساء، كان الرجال يأتون ويقرعون بابها - بعد الظهر أيضًا يحدث الشىء نفسه، إذا كان هناك احتفال أو عطلة. في بعض الأحيان، كانوا يتسكعون في حرم منزلها، يدخنون، ويمضغون التبغ، ويبصقون في الحوض - يرتكبون كل آثام العالم. وفقًا للنسك الذي كان يسعى جاهداً الالتزام به حاول الناسك أن يعيش حياة التقشف والتخلي عن الأسرة والممتلكات وكل وسائل الراحة. وجد هذا المسكن المكون من غرفة واحدة مع بضع أشجار جوز الهند وبئر في الفناء الخلفي مناسبا للغاية، وكان الشارع الضيق مليئًا بالأطفال: أحيانًا كان يدعو الأطفال ويجلسهم حوله ويعلمهم دروسًا أخلاقية بسيطة وآيات مقدسة. كان قد علق على الجدران بعض صور الآلهة مقطوعة من الكتب القديمة، وجعل الأطفال يركعون أمامها قبل أن يطلقهم بعيدا وقد فاز كل منهم قطعة من الحلوى.

اتبعت حياته اليومية نمطًا لا يتغير مثل الطائر. ينزوى عند حلول الغسق ويستلقى على الأرض العارية، تحت رأسه قطعة من الخشب كوسادة. يستيقظ في الرابعة من نومه قبل صياح الديك في ناصية الشارع، ويستحم في البئر، ويجلس على جلد الغزال للتأمل. في وقت لاحق يشعل موقد الفحم ويخبز بعض أرغفة الشباتي للإفطار والغداء ويطهو بعض الأنواع من الخضروات والأعشاب، متجنبا البطاطس والبصل والبامية وما شابه ذلك من الخضروات التي قد تحفز الشهوات الحقيرة.

حتى في أعمق حالة تأمل، لم يسعه سوى سماع صرير الباب عبر الشارع بينما غادر أحد العملاء بعد ليلة من الفجور.قمع بصرامة كل شهوات الفم وعاقب جسده بعشرات الطرق. إذا عن لك أن تسأله عن السبب، فسيكون في حيرة من أمره ولن يعرف كيف يشرح ذلك.

لقد كان نقيضًا للرياضي الذي نفخ عضلاته وشاهد صدره المتسع أمام المرآة.على العكس من ذلك،احتفظ ناسكنا بالسيطرة الدقيقة على نحافته وشعر بالرضا عن نفسه لمثل هذا الإنجاز. لقد كان يتبع تعليمات معلمه السابق دون أدنى شك ويأمل في تحقيق التحرر الروحي الكامل.

بعد ظهر أحد الأيام، عندما فتح النافذة لمسح الغبار من على حافة النافذة، لاحظها واقفة على عتبة بابها، تراقب الشارع. اندفع الدم إلى صدغيه، تأمل ملامح وجهها، ملامح محفورة لكنها غارقة في ثنايا من الدهون. ومع ذلك، كانت تمتلك، جسدا مغريا؛ كان ساعدها يشبهان الوسادة وربما يجذب هذا أولئك الذين يطوقون الذراعين من الرجال. وبمجرد أن يبدأ في التحليق حول جسدها، لن تعود نظرته إلى المرساة - والتي يجب أن تكون عادةً طرف أنف المرء، كما أوصاه معلمه وتعاليم اليوجا.

كانت وركاها ضخمتين، وكان فخذاها ممتلئين مثل سيقان الموز، كانت كلها مخلوقا شبيها بالفراش يمكن للزبون أن يسترخى عليه طوال الليل دون الحاجة إلى أية قطعة من الغطاء -"وحش فظيع! تجسيد للشر". شعر بالغضب فجأة. لماذا بحق السماء يقف مثل هذا المخلوق هناك ويدمر ورقة اللحاء الأخيرة: كانت كل المزايا التي اكتسبها بشق الأنفس تتسرب مثل الماء فى الغربال. من الصعب القول ما إذا كانت الذراعان والثديان أو الوركان هي التي أغرت الرجال وأفسدتهم... قال بصوت خافت:"ادخلى أيتها الشيطانة،لا تقفى هناك!"استدارت فجأة ودخلت وأغلقت الباب خلفها. شعر بالانتصار، رغم أن أمره وطاعتها كانا من قبيل الصدفة. أغلق النافذة بإحكام وتراجع إلى أبعد ركن من الغرفة، وجلس على جلد الغزال، وظل يردد:"أوم، أوما، راما، جاياراما": كان لصوت"رام"قوة خاصة به – ويقال إنه يحد من الأفكار الشاردة والانحرافات. كان لديه معرفة عميقة بالتعاويذ ومدى تأثيرها. كرر"سري راما..."، لكنها كانت بمثابة دواء مخفف وضعيف للحمى الشديدة. إنها لا تؤثر. وكرر"سري راما، جاياراما...."بحماسة يائسة، لكن التأثير لم يدم حتى لثانية واحدة. شردت أفكاره دون أن يلحظ، وسأل نفسه: من هو ذلك الرجل الذي كان يرتدي قميصًا منقوشًا و يضع قطعة قماش حريرية على كتفه، الذي نزل على الدرج الليلة الماضية عندما ذهبت إلى السوق؟ رأيته في مكان ما... أين؟ متى؟... آه، لقد كان الخياط العظيم في شارع السوق... مع الرجال والنساء العصريات يتجمعون حوله! ترزى محترف كان عضوًا في ناديين أو ثلاثة أندية... وكان يختلط بالمسؤولين ورجال الأعمال، - وهكذا قضى أمسيته، مسترخياً على الفراش البشري! ومع ذلك، سمح له الأشخاص العصريون بلمسهم بشريط قياسه! التلوث، لا شيء سوى التلوث ؛ الحياة الشريرة. صرخ في الغرفة المنعزلة،"راما! راما!"كأنما يصرخ فى شخص ضعيف السمع. في الوقت الحاضر أدرك أنه كان تمرينًا عديم الجدوى. بالطبع كان راما أفاتارًا مثاليًا، لكنه كان وديعًا ولطيفًا حتى إذا ما تم استفزازه إلى أبعد الحدود،عند ذلك كان يقتحم ويقضي على فاعل الشر دون أن يترك أثراً، حتى لو كان وحشًا مثل رافانا. على الرغم من ذلك، كان في العادة متسامحًا، لذا فإن تكرار اسمه لم يجلب سوى السلام والهدوء، لكن المناسبة الحالية تتطلب إجراءات صارمة. يجب أن تساعد تعويذة الإله سيفا. ألم يفتح عينه الثالثة ويحوّل إله المحبة إلى رماد،عندما وجه الأخير سهمه نحوه بمكر بينما كان يتأمل؟ تخيل ناسكنا الإله ذا الشعر المتلبد والعينين الناريتين، وتلى بصوت عالٍ:"أوم ناماسيفايا"، وكانت تلك القاعة المنعزلة تدوي بصوته الأجش.. توقفت أفكاره الثرثارة القذرة لبعض الوقت، لكنها الآن عادت إلى الحياة مرة أخرى وركضت خلف المرأة. لقد فتحت بابها على الأقل ست مرات في المساء.هل نامت معهم جميعًا في نفس الوقت؟ توقف ليضحك على هذه الفكرة، توقف ليضحك على هذه الفكرة، وأدرك أيضًا أن تأمله في الإله الصارم قد انتهى. قام بضرب صدغيه بقبضته، مما أدى إلى تألمه ولكن هذا زاد من تركيزه."أوم ناماسيفايا.."لاحظ جزء من عقله صرير باب المنزل المقابل. لقد كانت ثعبانًا التف حول الجميع لتدميرهم - كبارًا وصغارًا ومتوسطي العمر، وخياطين وطلابا (كان قد لاحظ قبل أيام قليلة طالبًا جامعيًا شابًا من نزل ألبرت ميشن يقف على بابها) وأيضا محامين وقضاة (لم لا؟)... لا عجب أن العالم أصبح مكتظًا بالسكان- مع مثل هذا الضغط من الاحتياجات الأساسية لكل فرد! يا إلهى"شيفا"،يجب القضاء على هذه المرأة. سيواجهها يومًا ما ويطلب منها المغادرة. يقول لها:"أيتها البائسة الخاطئة، التي تنشر المرض والقذارة مثل المجاري المفتوحة: فكرى في التلوث الذي انتشر حولك- من خياط في منتصف العمر إلى طالب بكالوريوس فى العلوم - أنت هنا لتدمير الإنسانية. توبى عن خطاياك، احلقى رأسك، غطِى خصرك العريض بقطعة قماش من الخيش، واجلسى عند بوابة المعبد وتوسلى أو تغطى بالسارى بعد الصلاة من أجل حياة أنظف على الأقل أثناء الولادة التالية..."وهكذا كان حواره مع نفسه، يفكر فى المرأة التى لم تفارق عقله طوال ليله البائس الفقير؛ وهو مستلق على الأرض العارية.

استيقظ قبل الفجر، اتخذ قراره. سيغادر على الفور، ويعبر بستان نالابا ويصل إلى الجانب الآخر من النهر. لم يكن بحاجة إلى سقف دائم. كان يكفيه أن يطوف ويستريح في أي معبد أو هيكل أو في ظل شجرة بانيان: يتذكر قصة قديمة كان قد سمعها من معلمه منذ فترة طويلة... تم إرسال عاهرة إلى الجنة عندما ماتت، بينما منتقدها، هو نفسه- المصلح الصالح وجد نفسه في الجحيم. وأوضح أنه بينما أخطأت العاهرة بجسدها فقط، كان منتقدها فاسدًا عقليًا، حيث كان مهووسًا بالعاهرة وأفعالها ولا يمكنه التأمل في أي شيء آخر.

قام ناسكنا بتعبئة صندوقه المصنوع من الخوص بممتلكاته القليلة- صورة نحاسية للإله، ومسبحة، وجلد غزال، ووعاء صغير من النحاس الأصفر. أمسك صندوقه في يده وخرج من المنزل وأغلق الباب خلفه برفق. في تلك الساعة وسط عتمة الشفق، تحركت شخصيات غامضة – بائع حليب يقود بقرته، وعمال يحملون العتلات والعصي، ونساء يحملن السلال وهن في طريقهن إلى السوق. بينما توقف لإلقاء نظرة أخيرة على المأوى الذي كان يغادره، سمع صرخة حزينة"سواميجي"من المنزل المقابل، ورأى المرأة تقترب منه ومعها صينية محملة بالفواكه والزهور. وضعتها عند قدميه وقالت بصوت منخفض وجل:

 أرجو أن تقبل نذري. هذا يوم ذكرى وفاة والدتي. في هذا اليوم أصلي وأطلب بركة القديسين.اغفر لي...

هجرته في هذه اللحظة كل السطور والكلمات التي كان يتدرب عليها من أجل المواجهة؛ نظر إلى شكلها المترهل، والهالات السوداء تحت عينيها، وشعر بالشفقة عليها. وبينما كانت تنحني للسجود، لاحظ أن شعرها كان مصبوغًا بشكل عشوائي وأن الفرق الموجود في المنتصف اتسع إلى رقعة صلعاء تتدلى من فوقها ضفيرة ذابلة من زهور الياسمين.لمس الصينية بطرف إصبعه كرمز للقبول، ونزل في الشارع دون أن ينبس ببنت شفة.

(تمت)

المؤلف: آر. كي. نارايان / R. K. Narayan (1906- 2001م)هو راسبورام كيشنازوامى آيار نارايانسوام أو آر. كى. نارايان. أشهر الروائيين الهنود الذين يكتبون باللغة الإنجليزية. ولد هذا الراوئي الكبير في 10 أكتوبر 1906 في مدراس أو تشيناي الحالية. كتب معظم قصصه في بلدة مالجويدى الخيالية بجنوب الهند. توفى عام 2001م.ولعل يتبادر الى الذهن السؤال التالى: هل قرأ يوسف إدريس هذه القصة فى نصها الأصلى قبل أن يكتب قصته المشهورة: أكان لا بد «يا لي لي» أن تضيئي النور؟ المنشورة ضمن مجموعته الشهيرة أيضا بيت من لحم. والإجابة القاطعة لا لأن يوسف إدريس نشر قصته عام 1971 م على حين نشر كاتبنا الهندى قصته عام 1985 م. ولا يمنع هذا من دراسة القصتين دراسة نقدية مقارنة.

القصة منشورة على موقع: https://xpressenglish.com/ وهذا رابط النشر: https://xpressenglish.com/our-stories/house-opposite


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى