المكياج اللغوي.. تفرد أم تضليل؟
تساؤل لطالما شغل بال الكثيرين من المهتمين بشؤون الثقافة واللغة.. لماذا تشهد الثقافة صداً عنها..؟! هل الخلل في الطرف الأول (المُلقِن) من حيث طريقة طرحه للمادة التثقيفية أم في نوعية المادة المطروحة؟ أم أن الخلل في الطرف الآخر (المُتَلقي) من حيث البيئة المحيطة به (مشجعة أو هادمة) أم في المناهل المتاحة له..؟!
في حقيقة الأمر إن عرّجنا في هذه العجالة على الخلل الناتج من قبل الطرف الأول (المُلقِن).. لأمكننا القول إن الثقافة ــ كما هو معلوم للجميع ــ ليست في انتقاء الموضوعات المعقدة ولا الكلمات المنمقة بل بتقديمها بأسلوب سلس وسهل. فدور اللغة (أي لغة) هو "وسيلة" لإكساب واكتساب معلومة تتراكم مع مثيلاتها بمرور الزمن لتشكل بنية ثقافية يذخر ويفخر بها صاحبها، ولئن اختلفت مناهل الثقافة تلك (كتب، صحف، مجلات، إذاعات، قنوات تلفزيونية، صفحات نت، ووسائل تواصل اجتماعي. الخ) عن بعضها البعض باستخدام هذه الوسيلة بشيء كان لزاماً على وسائل الإعلام بفئاتها (المقروءة والمسموعة والمرئية) ألا تتخلى أبداً عن جوهرية هذه الوسيلة (اللغة) كونها تعتبر في وقتنا الحاضر على أقل تقدير إلى جانب وسائل التواصل الاجتماعي أسرع الطرق وأيسرها وصولاً لنيل المعرفة (المبدئية) باعتبار أنها في متناول الجميع. لكن ما نراه ونسمعه ونقرأه بات بعيدا بعض الشيء عن ذلك الالتزام بعد أن بدا للجميع ترفع بعض الإعلاميين عن تلك السلاسة اللغوية وذاك اليسر اللفظي حتى أصبحوا متفردين بقصد في برجهم اللغوي.
لا أعرف إن كان يسعى بعضهم إلى إيهام القارئ بذخيرتهم اللغوية من خلال استخدام ألفاظٍ مبهمة وعبارات غامضة في محاولة منهم لإغراق القارئ في دوامة التجميل اللغوي أو سعياً منهم إلى التفرد بأسلوب عن أقرانهم.. وكأنهم نسوا أو تناسوا أن الدور الأول لكتاباتهم وبرامجهم هو توصيل فكرة ما إلى ذهنية القارئ والمشاهد والمستمع العادي والعمل على ترسيخها بدلاً من تضليلها وتشويشها وإدخال الشكوك في قدرات متابعيهم الذهنية.. هل يقصد الإعلاميون من وراء هذا.. ابتكار طراز آخر من التثقيف أم أنهم أرادوا تخصيص الثقافة أيضاً..؟ هل تناسوا أن طريقة طرح الفكرة واستخدام العبارات السهلة هي الركن الأساس في عملية التعلم والتعليم كونها حلقة الوصل والرابط المباشر للفهم بين المعلم والمتعلم؟. بالطبع لا أحد يستطيع أن ينكر جزالة مفردات لغتنا العربية وبلاغة أسلوبها وتميزها عن باقي اللغات الأخرى بذلك لكنها تبقى أيضاً لغة سلسة مفهومة على مدار العصور.. ولعل هذا ما نلمسه واقعاً في قراءتنا لأشعار الجاهلية الأولى.
أضم صوتي إلى أصوات كثيرين من المهتمين ممن طرقوا أبواب هذه المشكلة من قبل معرباً عن بالغ خوفي من تفاقم هذا الخلل التثقيفي وأقول إن جمالية الكتابة وفائدة الثقافة ليستا باختيار الألفاظ الرنانة بل بتقديمهما في أسلوب بسيط يصل إلى متابع عادي لا يحتاج إلى قاموس لفهم مفردات أي تصنع أو تجميل لغوي فيهما. أرجع وأقول إن وسائل الإعلام أولاً وأخيراً تخاطب العامة.. فلِمَ هذه الأنفة من بعض عامليها في استسهال الألفاظ؟ هل أصبح المكياج اللغوي أسلوباً يتطلعون إليه أم أن براثن العولمة والأنانية معاً اجتاحت عقولهم؟