إدلب.. أم المُدن المَنسيّة
محافظة سورية رافلة في شمال الوطن.. اسم من ذهب. تقع بين خطي طول 36.10 غرباً و37.15 شرقاً، وخطي عرض 35.10 جنوباً و36.15 شمالاً، وتعتبر البوابة السورية للوطن العربي على تركيا وأوروبا.
إدلب.. أيقونة جمال وُصفت بالخضراء لكثرة أشجارها وخاصة الزيتون منها، طبيعتها خلابة كطبيعة الوطن ـ يأتي ترتيبها الثامن من حيث المساحة على مستوى القطر والخامسة من حيث السكان والثانية من حيث النمو السكاني. هي دائماً من شمالها (الحدود التركية 129كم) إلى جنوبها (محافظة حماه 158كم) ومن غربها (محافظة اللاذقية 29كم) إلى أقصى شرقها (محافظة حلب 159كم) مشرقة كشمس الربيع، هادئة كبدر الصيف تمتد على رقعة جغرافية تقارب الــــ 6000كم2 لو اُستنطقت فيها الجلاميد لنطقت فناً وأدبا، ولو شربت من رحيقها القِفار لأصبحت فياف يُزهر فيها الورد والريحان.. هي أنشودة الفؤاد والعنادل، ودوحة للأفنان والبلدان، وقصيدة للعتابا والميجانا.
إدلب.. يد بيضاء قِيل في معاني تسميتها الكثير منها.. كبد القلب، وروح المكان، وهواء القلب، وإله الزراعة، ومكان تجميع الغلال وتسويقها (إدلــبو). تتزين جميع مدن محافظة إدلب وبلدانها بألوان العطاء ومفردات الطبيعة، ويمتار أهلها بالجود والكرم وحسن الضيافة، في غربها. غابات جبلية خلابة، وفي شمالها جبال جرداء وأخرى مكسية بأنواع متعددة من الأشجار، وفي شرقها مساحات شاسعة من سهوب وسهول زراعية تتلون مرات بحمرة دم وأخرى بصفرة، وفي جنوبها أراض زراعية خصبة وكروم متنوعة.
إدلب.. أسفار تاريخ أغرقتها الدهور الخوالي بما فيها من أحداث جِسام وهنّات عظام وحوادث أزمان بحلوها ومرها فأصبحت المحافظة بأكملها أشبه بمتحفٍ زاخر بالآثار واللقى، وحضنٍ دافئ لحضارات وشعوب عاشوا فيها فازدهرت أيامهم، مروا فيها فأثمرت دروبهم، تنعموا فيها فاغتنوا، سعدوا بغلالها فطاب لهم العيش في رحابها فأناخوا ركابهم وألجموا خيولهم فخفقت في أجوائها راياتهم لدهور طِوال فكان منهم ما كان حتى أشرقت عليها شمس الإسلام ناصعة البياض وعاشت تحت رايته بسلام وأمان.
إدلب.. ذكريات لا تُنسى ومعالم لا تُمحى، تناثرت في أرجائها لآلئ التاريخ واندثرت في ترابها لُقى الأمم حتى قيل إنها تحتضن ثلث آثار الوطن، على أرضها تعاقبت حضارات شتى بدءا من الألفية الثالثة قبل الميلاد وعلى أرضها أفلت شموسهم، فيها كانت الابلائية (مملكة إيبلا 3000ق.م)، والآرامية (2300 ق.م)، والحيثية (1180 ق.م)، والآشورية(609 ق.م)، والرومانية (64 ق.م)، والبيزنطية (636م) حتى جاءها الفتح الإسلامي بقيادة البطل المقدام خالد بن الوليد (638م) وأشرقت عليها شموس العصور الإسلامية المتلاحقة.
انفردت محافظة إدلب عن غيرها من المحافظات السورية بوجود عدد كبير من المدن المنسية على أرضها تجاوز عددها 500 موقعاً تنوع بين مدينة محفوظة بكاملها وأخرى لا تحتوي إلا على أطلال محدودة. فنُظمت لها المهرجانات وتعاقب عليها ورش التنقيب منذ ستينات القرن الماضي، حتى غدت المحافظة بمجملها برهاناً ساطعاً ودليلاً قاطعاً على صحة قول إن بعض البلاد تؤذي أهلها بفضل ما فيها من ذخائر وكنوز وأن الجمال يجني على أهله في أكثر الأحيان، فموقعها الاستراتيجي والمتميز على طريق الحرير جعلها على مر العصور والأزمان معبراً ومرتعاً للجيوش العابرة والغازية وممراً استراتيجياً للقوافل التجارية القادمة من الأناضول وأوروبا إلى الشرق وبالعكس.
في رحاب محافظة إدلب ترتفع الشامخات الراسخات (الزاوية، وباريشا، والأعلى، والوسطاني، والدويلي، وهضبة القصير)، وتجري الجاريات الدافقات (نهر العاصي ورافده نهر الأبيض، وينابيع عين الطاقة، والحويز، واللج وشاغوريت وعرّى، والعيدوسة، وعين البيضا، وحمامات الشيخ عيسى المعدنية الحارة، وعين الزرقا، وشق العجوز)، وتمتد السهول الخصبة (سهل الروج، سهل الغاب).
من جبال المحافظة.. جبل الزاوية الشامخ (أعلى قممه قمة النبي أيوب 940م) الممتد (40 كم طولاً) الشاهد الحاضر على خوالي الأيام وأفاعيل الزمان، المدافع المغوار عن ثرى الوطن.. أغدق عليه محبوه بعدة مسميات منها وأهمها الزاوية، والأربعين، وأريحا (اسم المدينة التي تتسلق سفحه الشمالي)، أعتبره المجاهدون أيام الزعيم إبراهيم هنانو (1869- 1935م)، ومصطفى حاج حسين (1881-1952م)، ونجيب عويد (1870-1961م) حصناً منيعاً وحضناً دافئاً لهم ساندهم على دحر جنود ودوريات الاحتلال الفرنسي (1920 ـ 1947م).
من أعلى جبل الزاوية (الأربعين) يمكن للناظر بعين التاريخ أن يتجول في أرجاء المحافظة ويتذكر أمسها الجميل متلهفاً بنظرة العاشق إلى أراض رحبة درجت عليها أمم وتعاقبت عليها أقوام اشتد فيها عودها يوماً ثم غمرها الزمان، فإذا ما نظر غرباً شاهد عن قرب "البارة" الغنية بمكنوناتها الأثرية كدير سوباط ومعاصر الزيتون والخمور وكنائسها البازلتية وقلعة أبي سفيان، ورويحة بسوقها الأثري وفيلاتها ذات الباحات الواسعة وعمود بنت الوزير وكنائسها، وسرجيلا بكنيستها وحمامها الشهير ومدافنها السطحية ذات النقوش ومعاصرها وأندورنها (دار ضيافة)، وجرادة وبرجها الطبقي الأثري ذي الخمس طوابق، وباعودة بمدفنها الهرمي، وشنشراح بكنائسها الستة ومدافنها ومعصرتها وبالقرب منها آثار ربيعة، ودير سنبل وبقايا قصورها وآثارها الآرامية، وإنب وتلها الاصطناعي الأثري، وبترسا، وبشلا، ونجليا، ووادي مرتحون. وإذا ما أطال النظر غرباً وأنحرف قليلاُ نحو الشمال الغربي كان له أن يرى المغارة بمدافنها الأثرية، وفريكة ومبانيها الجنائزية، وفركيا بلوحاتها الفسيفسائية الثلاث التي تحكي قصة ذئبة روما وأيضاً مقابرها الأثرية ذات المظلات الحجرية، والأندرين ومعاصرها الشهيرة، وتيرمانين وديرها المشهور، وكفر تعقاب وأبنيته المتنوعة بين كنائس وأديرة ودور سكن، والفاسوق بآثاره الوثنية وكنيستيه البيزنطيتين، وموقع بنصرة بمدافنه ومعاصره العديدة ومغاوره المحفورة بالصخر، ودركوش وجسرها الروماني على نهر العاصي، والقنية ومغاورها الأثرية المنحوتة، والغسانية ولوحتها الفسيفسائية، وقرق بيزة وكنيستها ومعصرتها الأثرية، والكفير بكنائسه الإحدى وعشرين، ودارقيتا بفللها الخمسة وخمسين ومعاصرها الأربعة عشر، وباقرحا بفللها الأربعة وأسواقها وكنائسها، وأرمناز.. مهد صناعة الزجاج منذ عهد الفنيقيين، وباعودا ومبانيها التجارية على الطريق الروماني بين حلب وأنطاكية، وحارم (دمشق الصغرى) وقلعتها الأثرية. وإسقاط وحماماتها ومزاراتها ومعاصرها وقساطلها الرومانية، وبحيرة العمق.
وإذا ما تابع المتمعن بنظراته باتجاه الشمال حتما ستتلاقى عيناه مع "قلب لوزة".. لؤلؤة جبل الأعلى وكنيستها الأثرية، وسرمدا وعمودها الشاهد على عظمتها (عواميد أربعة ارتفاع كل منها 16 متراً) وقلعتها ومدافنها وخرائب دير دنيال ومعبدها المحفور بالصخر، وباب الهوى (بوابة الوطن على تركيا وأوروبا) ذي القوس الحجري الذي يعود تاريخه إلى القرن السادس الميلادي، وإذا ما نظر شرقاً وجد عن قرب علو المقام في مملكة إبلا (إيبلا) وحاضنها تل مرديخ (أكبر تل أثري في سورية مساحته 56 هكتارا، وهو أهم المكتشفات الأثرية في سورية في القرن العشرين حيث تم فيه اكتشاف 16 ألف رُقُمَاً)، وعديلة الروح: النيرب بجامعها العباسي وتليّها الأثرين: اسفن الغربية والجنوبية، وسرمين ومسجدها القديم ذي القباب العشر وسوقها المحجر وحماماتها القديمة، وتل آفس الأثري وتفتناز.. منطقة الآلهة عند إيبلا حيث نصب الإله هدد. إله العاصفة والرياح، ونصب عشتار. إله الخصب والجمال عند الآراميين،
وإذا ما أطال الناظر في تجواله ذاك من أعلى جبل الأربعين لابد أن يخطفَ نظرَه مدنٌ وبلدات عامرة في المحافظة كإدلب المدينة، ومعرة النعمان، وجسر الشغور فيرى فيهم سحر الماضي العريق في كنائسهم الأثرية ومساجدهم القديمة، وحماماتهم الشعبية، ودورهم العربية القديمة، وخاناتهم، ورواقاتهم، وتكاياهم، وزقاقاتهم المحجرة.. ومقام أمير المؤمنين الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز (61-101 هـ 681-720م) في دير شرقي إلى الشرق من معرة النعمان..
ولئن عرفنا شيئاً عن ثراء محافظة إدلب التاريخي من خلال مدنها المنسية المنتشرة.. وعايشنا تراثها العريق وعاداتها العربية والإسلامية الموّرثة من جيل إلى آخر وما نتج عن ذلك من تجارب في فنون شعبية ومأكولات وتقاليد أعطت المحافظة عمقاً حضارياً وتاريخياً وهوية فريدة خاصة بها، لا بد لنا كمهتمين أن نشير أيضاً إلى ثرائها الأدبي والمعرفي من خلال أبنائها المبدعين. فلم تكن محافظة إدلب يوما من الأيام أمام المحافظات الكبرى في القطر إلا مصدرة للخبرات البشرية ومنتجة للخيرات الطبيعية شأنها شأن الريف والمدن الصغرى، فإذا ما سطع نجم أحد من أبنائها في مصلحة أو اختصاص وانتشرت شهرته وعلا شأنه أغرته أقرب مدينة كبيرة له وهيجت فيه حب السمو والانتشار فترك من أجلها مسقط رأسه واتجه إلى مدينة حلب في الشمال أو إلى العاصمة دمشق إذا كان ذلك الشخص أعلى صيتا وأرفع درجة فكما قيل كلما كبرت المدينة أكثر كلما استحوذت على نصيب أكبر من أصحاب الخبرات والمكاسب والشهرة، لكن رغم كل هذا النزيف البشري (هجرة الأدمغة) الذي عانت منه إدلب، ما زالت محافظة ولاّدة للإبداع وكان لأبنائها البارين الدور الكبير في النهضة الأدبية والعلمية التي شهدتها البلاد، فعلى أرضها تدفق الوجدان الأدبي والمعرفي عند كثير من أبنائها:
من المبدعين الراحلين أذكر منهم على سبيل الذكر لا الحصر:
حكيم الشعراء وشاعر الحكماء ابن معرة النعمان. الفيلسوف أبي العلاء المعري (973-1057م) رهين المحبسين، صاحب رسالة الغفران، وسقط الزند، واللزوميات، ورسالة الملائكة، وضوء السقط.
العلامة الطبيب الحكيم الحاذق والصيدلاني الضرير داود الأنطاكي (توفي في عام 1599م)، صاحب مؤلفات عدة في الطب وصناعة الدواء، وعلم الفلك وعلم المنطق والكلام.
الأديب الكبير حسيب الكيالي(1921-1993م) جاحظ الأدب العربي في القرن العشرين وتشيخوف العرب،
العلامة الأديب الدكتور عبد الرحمن رأفت الباشا (1920-1986م)
القاص الأديب عدنان الداعوق(1932-1986م)
المفتي العلامة محمد نافع الشامي (1907-1991)
الكاتب التلفزيوني رياض سفلو(1950- 1998م)
شاعر الظرفاء عبد الجبار كيالي (1924-2005)
القاص الأديب تاج الدين الموسى (1957- 2012م)
عميد الأدب العربي في إدلب الأستاذ الأديب والمربي الفاضل أحمد قطيع (1929-2017)
الشاعر بديع المعلم (1925- )
ومن المبدعين الأحياء أطال الله بأعمارهم أذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر القاص والشاعر نجيب الكيالي(1953م)، الكاتب الأديب خطيب بدلة (1952م)، الكاتب نجم الدين السمان (1959م)، الكاتب والسياسي رياض نعسان آغا (1947م)، المخرج المسرحي مروان فنري (1958)، الروائية ابتسام التريسي(1957)، القاص عبد الرحمن الحلاق، المؤرخ فايز قوصرة(1945م)، الشاعر ماجد الأسود، الشاعر عبد القادر الأسود (1948)، الأديب الناقد الدكتور فاروق إسليم (1953)، الشاعر نجدت سيجري (1930)، الباحث والمؤرخ عبد الحميد مشلح(1955)، الباحث التاريخي الطبي الدكتور محمد ياسر زكور (1953)، الشاعر محمد العلي (1964)، الشاعر أنس الدغيم (1979)، الإعلامي الدكتور أنور أصفري (1959)، الأديب الدكتور عبد الرزاق الدرباس (1965)، الأديبة الصحفية حميدة نعنع(1946)، وآخرين كُثر تطول القائمة بذكرهم وإبداعاتهم كان لهم ومازال دور بارز وبصمات جلية في تاريخ وحاضر أدبنا العربي العريق.