النزعَة الذّاتِيَّة عند رِواد مَدْرَسَة الإحياء والبعث
أحمد شوقي في سينيته أنموذجا [1]
كانت الحملة الفرنسية سنة 1798م أولَ احتكاكٍ واسعٍ مباشرٍ بين مصر والحضارة الأوروبيّة بعد عزلةٍ طويلةٍ قد فرضها العثمانيون على البلاد العربيّة، وسميّت هذه المرحلة بعصر النهضة؛ ذلك لأنّ الأدب العربي نهض في موضوعاته وأساليبه الفنيّة في هذا العصر، فصار أدباً قويًّا مزدهراً يختلف في شكله ومضمونه عن الأدب في العصر العثماني المتهالك، وخلال هذه النّهضة تمّ الاتّصال بالحضارة الأوروبيّة المزدهرة من جهةٍ، وبالتراث العربيّ في عهد قوته من جهةٍ أخرى. وتحقّق ذلك من خلال: البعوث التعليميّة، والرحلات، والصحافة، والمستشرقون، والهجرة، والمكتبات، والترجمة، والطباعة، والمسرح والإذاعة. وقد كان لاتصال الأدب العربيّ بالأدب الغربيّ أثرًا واضحًا في الأدب بعامّة، وفي الشعر بخاصّة، إذ اتضح أثر الاحتكاك الأدبيّ في الشعر بجلاء من خلال: [2] اختفاء بعض الأغراض القديمة: كالمدح والهجاء، وغلب الطابع الوطني على الفخر. وارتبط الشعر بحياة الجماهير ومشاكلها، وظهور الشعر المسرحيّ وتأثّره بالمفاهيم الجديدة كالتجربة الشعريّة والوحدة الفنيّة أو العضويّة للقصيدة، وتطوّر بناء القصيدة، وامتدّ التجديد ليشمل الأوزان والقوافي، والتحرّر من قيود الصنعة والمحسنات المتكلّفة.
نتيجة لما سبق ظهرت المدرسة الكلاسيكيّة الجديدة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي في العالم العربيّ، وسميت بــــ "مدرسة الإحياء والبعث" أو "المدرسة الاتباعية". ويعدّ الشاعر: محمد سامي البارودي رائد هذه المدرسة، وكان (أحمد شوقي، وابراهيم ناجي، وحافظ ابراهيم) من أهمّ الشعراء فيها.
فقد كان شعرهم مرآةً لأحداث عصرهم، وقضايا وطنهم، ومشكلاته السياسيّة والاجتماعيّة ولذلك لقي رواجاً كبيراً؛ إذ نسجوا شعرهم على منوال القدماء في اختيار ألفاظهم فجاءت فصيحةً جزلة، وتمسّكوا بأحكام الصياغة، والأساليب البلاغيّة الشائعة في التراث الشعري القديم، واقتبسوا من هذه الأساليب وضمنوها شعرهم، وحافظوا بذلك على الديباجة العربيّة الأصيلة ورونق لفظها، وجرسها الموسيقيّ.
وفي هذا السياق عبّر الكثير من النّقاد عن إسهامات شوقي في الشعر العربي الحديث، والنقلة النوعية التي أحدثها، "جاء شوقي فوجد البناء مستوياً على عوده، فأكمل في البناء... بل أقول لولا شوقي ما كانت، ولا ظهر نجم في سماء الشعر" [3]. والقارئ لشعر شوقي يخيّل إليه أنه لم يبق لحنٌ أو لم تبق قصيدةٌ في العربيّة إلّا وشدّ رحاله ليستمع إليها، يقول شوقي ضيف: "وكان شوقي موكّلاً بشعراء العربيّة الممتازين في موسيقاهم جميعًا، فهو يتعقّبهم، يريد أن يشبع أذنه من أصواتهم ... فتارةً يعارض ابن زيدون في نونيته، وتارةً يعارض البوصيري في بردته، وتارةً يعارض الحصري في داليته [4]"؛ فَلِعُلِوّ كعبه.. واهتمامه بمعجم الأوائل الشعريّ حقّ له أن يلقّب بأمير الشعراء [5] وأمير المعارضين.
لقد ألبس شوقي شعره ثوب الجدّة والحداثة. ورغم أنّه حمل لواء المحافظين، إلّا أنّ النزعة الذّاتيّة تتجلّى لديه في أبهى الصور في سينيّته والتي عارض فيها سينية البحتري، حيث قال عن البحتري أنه: "تكفّل لكسرى بإيوانه، حتى زال عن الأرض إلى ديوانه، وسنيته المشهورة في وصفه ليست دونه وهو تحت كسرى في رصّه وصفه، وهي تريك حسن قيام الشعر على الآثار، وكيف تتجدد الديار في بيوته بعد الاندثار...، فكنت كلّما مررت بحجرٍ أو طفت بأثرٍ، تمثّلت بأبياتها، واسترحت من موائل العبر إلى آياتها، وأنشدت فيما بيني وبين نفسي:
وَعَظَ البُحتُرِيَّ إيوانُ كِسرى
وَشَفَتني القُصورُ مِن عَبدِ شَمسِ
ثم جعلتُ أروض القول على هذا الردي، وأعالجه على هذا الوزن، حتى نظمت هذه القافية المهلهلة وأتممت هذه الريضة [6]".
ومطلع سينية شوقي:
اِختِلافُ النَهارِ وَاللَيلِ يُنسي اُذكُرا لِيَ الصِبا وَأَيّامَ أُنسي [7]
حاكى بها سينية البحتري ومطلعها:
صُنْتُ نَفْسِي عًمَّا يُدَنَّسُ نًفْسِي وَتَرَفَّعْتُ عَنْ جَدَا كُلِ جِبْسٍ [8]
لقد أراد الحوفي أن يثبت غرض الحبّ والنسيب في شعر شوقي في كتابه "وحي النسيب"، إذ قال: "الشاعر أدق الناس شعوراً وأصدقهم حساً، وأنبلهم عاطفة، ...، وشوقي شاعر مطبوع من صغره فنانٌ في شعره، ولقد كان حساساً غاية الحس يقظ العواطف، ذكي الفؤاد، فهل أحب المرأة؟ هذا ما أريد أن أثبته [9]". وهنا تضم الباحثة صوتها إلى صوت أحمد الحوفي من حيث إثبات النزعة الذاتيّة في شعر شوقي، فإن كانت دراسة الحوفي اتّخذ النسيب أنموذجًا، فهذه الدراسة اتّخذت من سينية شوقي أنموذجاً لذلك الهدف، فهل حقًّا كان شوقي -على منهجه الكلاسيكي- يتمتع بنزعةٍ ذاتيّةٍ في شعره عامّة، وفي سينيته خاصّة؟ هذا ما ستحاول الباحثة إثباته من خلال الدراسة الدلاليّة لسينيته.
تعد تجربة شوقي في سينيّته المعنونة بــ "غربة وحنين" من أكثر التجارب الشعريّة الحديثة التصاقًا بالإنسان العربيّ المغترب أو المبعد قهراً عن أرضه؛ والقارئ لسينية شوقي يرى بوضوح لحن الغربة الصاعد في توتره من بيتٍ لآخر، فتارةً يعلو، وتارة يخبو، ليهب من جديد ناراً لاهبة. ففي عام 1914م اندلعت الحرب العالميّة الأولى وظهرت ويلاتها على مصر والبلاد العربية – فتمكنت انجلترا من بسط سيطرتها الكاملة على مصر، فقام السلطان حسين الذي عرف بولائه لإنجلترا بنفي شوقي من البلاد، اختار شوقي الأندلس منفىً له ولعائلته، ركب البحر مغادراً وطنه الذي أحبه، وكان ذلك في الخامس من أغسطس عام 1915م [10].وصل إلى مدينة برشلونة في إسبانيا، أقام في ضاحية من ضواحي برشلونة، فيما تحيط بها غابات الصنوبر ومشاهد الطبيعة الأخاذة [11]. وعلى الرغم من إعجاب شوقي بهذا الجمال؛ لكن الغربة كانت تعكر إعجابه، وكان لصوت البواخر وقعًا بداخله فيزيد حنينه إلى الوطن، ويعمّق شعوره بالغربة، لهذا خاطب السفينة بأن ترأف بحاله وتحمله معها إلى وطنه، فهو على استعداد أن يجعل من نفسه وقوداً لها، فوطنه أفضل من جنة الخلد – حسب رأيه – فيقول:
وَطَني لَو شُغِلتُ بِالخُلدِ عَنهُ نازَعَتني إِلَيهِ في الخُلدِ نَفسي [12]
مكث شوقي في منفاه خمس سنوات، بعدما عرف معنى الألم والحسرة على فقدان الوطن، والأهل، والأصدقاء، مما خلف طعماً مريراً في قلبه كطعم العلقم، فتفجرت ينابيع الحنين إلى وطنه، وعانى من نوبات الشوق إلى الوطن، فراح يَتشبثُ بمصرَ في سينيته، التي بثّ فيها الشعور المرير بالغربة والحنين. إنّ الإحساس المأساوي بالغربة ترك في نفسه غصّةً، مما جعله ينحو منحىً خاصًّا، فراح يفتّش عن ذاته الغارقة في لوعة الحب والحنين. فمن خلال تحديد الأفكار الجزئية؛ تبيّن تلك النّزعة الذّاتيّة، ذلك لأنّها تصبّ في فكرةٍ عامةٍ واحدةٍ كما في المخطط التالي:
لقد تحدّث شوقي عن نفسه قليلاً في بداية القصيدة، ثم اندفع في الحديث عن شوقه إلى مصر، وتفجعه لما تقاسي من عاديات الخطوب، وصوّر الجيزة بأنّها لا تزال في أثواب الحداد على رمسيس، وأنّ السواقي ترسل على ذكره الدموع والأنين، وتكلم عن أبي الهول والأهرام، ولكن ما لبث أن عاوده القلق على مصر، فأخذ يزفر مجدّدًا بالحنين إلى الوطن، فقال [13]:
يا فُؤادي لِكُلِّ أَمرٍ قَرارٌ
فيهِ يَبدو وَيَنجَلي بَعدَ لَبسِ
ولقد تبادر إلى ذهني قول زكي مبارك: "وأين هذا القرار، يا بلبل النيل، هاته، هاته، وخذ من أرواحنا ما تشاء [14]". لقد جاءت أبيات شوقي مفعّمةً بلغة الذات؛ لأنّ غربته ذاتيّة، وحنينه ذاتي؛ إذ أنطق قصيدته بما فيها من: معانٍ، وصورٍ، وألفاظ، وإيقاع، لوعةً وحسرةً وحنينًا، يقول [15]:
وسلا مصرَ : هل سلا القلبُ عنها أَو أَسا جُرحَه الزمان المؤسّي؟
كلما مرّت الليالي عليه رقَّ ، والعهدُ في الليالي تقسِّي
مُستَطارٌ إذا البواخِرُ رنَّتْ أَولَ الليلِ، أَو عَوَتْ بعد جَرْس
راهبٌ في الضلوع للسفنِ فَطْن كلما ثُرْنَ شاعَهن بنَقس
ومن هنا فقد كانت سينية شوقي أقرب إلى الشعر الوجداني الذاتي؛ ذلك لأنّ دوران التجربة حول الذات، وانطلاق الصورة الفنيّة من الوجدان، من أقرب السمات الفنيّة التي عُرف بها الشعر الوجداني، "ومن ميل إلى الصورة الخيالية والتجسيم والألفاظ الشعرية المحملة بدلالاتٍ شعورية غير مقيدّة بمعانٍ مادية محدودة [16]".
إنّ ما يميّز شوقي في سينيته بروز ملامح شخصيّته من خلال تعبيره الفنيّ عن عواطفه وانفعالاته بشيءٍ من الاستقلال الذاتي، لذلك فإن الذاتيّة جزءًا أو سمة من سمات الوجدانية [17]. وهذا يخالف ما طُبع وفق المنهج الكلاسيكي أو مدرسة الإحياء والبعث التي يتبعها شوقي؛ لذا فإنّ المتأمّل لشعر شوقي في أندلسياته يجد بوضوح مذكيَّات النزعة الذاتية لديه جمّة وفيرة؛ إذ ينساق فيها وراء عواطفه المتأجّجة في صدره وتعدّ تلك المعاني المستخلصة من سينيّته مثالاً واضحًا على النزعة الذاتيّة لدى أمير الشعراء، وهو أحد أهم الشعراء في مدرسة الإحياء والبعث.
فالسينيّة صوتٌ مسكوبٌ من نداءاتٍ حارّةٍ متتابعةٍ، وهذه النداءات موجهة إلى روح الإنسان وعقله، ولعلّ تلك التلقائيّة التي تمتّعت بها أبياته، وتلك الحرارة النّابعة من ألفاظها ومعانيها، كفيلتان بنقل الشحنة العاطفية إلى القارئ. ويبدو جليًّا تمكّن شوقي من أدواته الدلاليّة المشعّة من ألفاظه؛ ممّا ساهم من تفجير أقصى طاقة يحتويها اللفظ تعبيرًا عن نزعته الذاتيّة.
ومن هنا فإنّ النفي الذي تعرض له شوقي جعله يعيش حياة الغربة، بكلّ ما تحتويها من آلامٍ وحرقةٍ، وذلك أثّر على شعره، فأنتج شعرًا مختلفًا عن سابقه، ممتلئًا بالعواطف الجيّاشة التي تبعث في النّفس الحنين الصادق إلى الوطن، فكانت تلك الفترة مرحلةَ تحوّلٍ في حياة شوقي خلاف ما عهدناه عند الإحيائيين.
الباحثة الفلسطينيّة ميّادة الصعيدي: حاصلة على درجة الماستر في الأدب والنقد بمعدل امتياز مع مرتبة الشرف الأولى، لها ثلاثة كتبٍ قيد الطباعة، كما ونشرت العديد من الدراسات النقديّة الموثّقة، ومنها قيد النشر.