النظام، اللانظام الجديد
بالأمس القريب، إبان الحرب على غزة عام 2008، كانت مواقع التواصل الإجتماعي تأسس لنظام/لانظام ثقافي جديد. أفرغ الشباب في مصر وتونس وغيرها من بلدان المنطقة،غضبهم وقلة حيلتهم على صفحات الفيسبوك. وأنزل كثير منهم أغانيهم الغاضبة وأشعارهم على اليوتوب. كان العالم الإفتراضي هناك كما هنا، هو الإسفنجة الممتصة للصدمات، و الرحم الحاضنة للأفكار و لعقل جماعي يمارس من خلاله الفرد، كل فرد، حقه، ربما لأول مرة في التاريخ، في أن يتصدر و يقود وينتج. إن عملية انتاج المواطن و الجمهور للمعلومة، هي التي تتدخل اليوم لتأسس لنظام/لانظام اجتماعي وسياسي أجد. والتدخل هنا ليس بالضرو رة مؤامرتيا، كما يحلوا لنا نحن مستضعفوا التاريخ المعاصر أن نقول كلما اختلفت علينا الايام، ولكنه نتيجة طبيعية لانكماش العالم إلى قرية كونية صغيرة سمواتها المفتوحة، لا تخضع الأفراد لسقف، وتتوحد فيها المفاهيم و الرموز.
فالحراك السياسي في المنطقة اليوم، ليس إلا هزات ارتدادية لزلزال أعظم، ضرب وعي الفرد المدجن بنفسه وبمقدرته في أن يصنع “ذاتيا” التغيير. فهده الصحوة الشعبية ، في طبيعتها على الأقل، ليست سياسية وإنما هي ثورة نفسية غدتها وهيجتها ثورة أعظم في تقنيات التواصل التي منحت لنا، كأفراد، ونحن على ما نحن عليه من انعدام ثقة وغضب ظاهر ومستتر، منحتنا المتنفس و المفزع عند الأزمات. ولأن حيثيات الواقع المحيطة هشة ومؤاتية، كان هينا على هدا الحراك الإفتراضي أن يتحول إلى سلوك جماعي في الواقع ثم أن يمتد تلقائيا في كل الاتجاهات.
إن مصطلح القرية الكونية الشهير الذي ظهر في كتابات مارشال ماكلهان مند اوائل الستينيات من القرن الماضي، قد جعل من التقنية ومن وسائل التواصل الحديثة، المجهول الأبرز في معادلة وجود القرية و كونيتها. التقنية بالنسبة إليه كفيلة بأن تجعل من العالم، كلا واحدا متجانسا،يعمل أفراده بشكل جماعي على خلق معرفة تشاركية. وتحدث من خلاله دمقرطة للمعلومة وتساو للأدوار لخلق ثروة غير مسبوقة في التاريخ. راهن ماكلهان على ان التقنية والتواصل ستجعل الشعوب و القبائل المتفرقة، أمة واحدة يسكن اهلها قرية صغيرة اسمها الارض. والحق أنه وعلى امتداد تاريخ بشريتنا الطويل،اللهم ادا استثنينا الناجين من الطوفان العظيم داخل فلك سيدنا نوح عليه السلام، فإنه لم يبلغ بنو البشر يوما هدا القرب ،و لا اقول التقارب، بين الافراد و المجموعات كما بلغوه في عقدنا هدا بفضل بسبب التقنية.
لا اقول التقارب لأن انكماش العالم لايعني بالضرورة تناغمه بل من شأنه كما تنبئ عالم الانثروبولوجيا الشهير جورج ماركوس عام 1992 ان يؤدي، على الأغلب، إلى زيادة الاحتكاك بين مظاهر كانت تنتمي إلى عوالم تبعد الاف الاميال عن بعضها البعض.
ولعل ابرز مثال على ان ما قاله ماركوس فيه بعض من صحة، ماحدث عندما نشرت صحيفة دانماركية الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للنبي صلى الله عليه وسلم. الصحيفة الناطقة بالدانماركية و الموزعة محليا على متلق ومستهلك دانمركي محلي، والخاضعة لقانون وخط تحريري دانمركي محلي، نسيت أوربما تناست انها تسكن الشارع المقابل في قرية 21 في المئة، أو يزيد، من سكانها مسلمون، علاقتهم بالمقدس وتعريفهم للحريات يختلف عن جيرانهم في الأحياء الشمالية و الغربية.
أيا تكن المؤاخدات على آليات الصياغة الحديثة للعالم، فإنها لا تغير من واقع وجودها و عظم تأثيرها شيئا.ولعل اهم هده الميكانزمات، في تقديري، إعلامي و تواصلي. و كلا المجالين بالمنطقة العربية هو
أضعف من ضعيف وعيا وممارسة وبحثا. ولست أقصد هنا الإعلام و التواصل بمعناه المؤسساتي التقليدي، ولكن المقصود هوهدا التحول العميق الدي تعرفه نظريات ونمادج التواصل داخل العالم الإفتراضي والتي افرزت نخبا موازية ورأيا عاما افتراضي يتأثرويؤثر بينيا وبشكل أفقي على بعضه البعض، يدوب فيه الفرد تلقائيا داخل الجموع ويستمد شرعيته من فكرة المصداقية التي يمثلها الفرد في مقابل مصداقية المؤسسة (الانظمة، الاحزاب، وسائل الإعلام..) التي اثبتت، من وجهة نظرهم، خيبات الامل المتتالية انعدامها. الشيء الدي يفسرعدم تفاعل بعض هده الحركات الاحتجاجية مع فكرة الإصلاح، لأن الهبة أو الثورة أو الاحتجاج هي الوسيلة و الغاية على حد سواء ومحاولة من الفرد انتزاع حقه في التصدر و الانتاج و القيادة لأنه المالك الوحيد، ظرفيا على الأقل، لهده المصداقية. مصداقية الفرد هده زكاها وكرسها ان وسائل الاعلام التقليدي، التي نظرت في الماضي القريب بتعالي وريبة على إعلام المواطن باعتباره هاويا وغير مهني، اصبحت اليوم أعتى المحطات التلفزيونية، مثلا، تستعيض عن تقاريرها المنمقة بفيديوهات مصورة بهواتف نقالة، ارسلها افراد وشهود عيان حتى تضفي على خطابها المزيد من المصداقية الشعبية.
لا شك أن هده التفاعل و الاحتكاك بين المعرفة التي تنتجها المؤسسات وتلك التي ينتجها الافراد، ستفرز أنماط غير مسبوقة في الوعي و الفكر والممارسة داخل المجتمع الانساني عموما. المتفائلون يستبشرون بعهد من الحكامة الشعبية المتيقضة التي لا تساوم على حرياتها المكتسبة الجديدة. والمتشائمون يخشون من ان تتحول حالة النظام/اللانظام الثقافي والاجتماعي والسياسي الجديد إلى حالة فوضى ثقافية و اجتماعية و سياسية تأتي على الأخضر واليابس. وقد يكون الطرفان على صواب.