النهي في حكم نهج البلاغة

المقدمة

إنَّ كلامَ اميرالمؤمنين(ع) جامعٌ للعُجبِ العُجاب، منحدرٌ عنهُ السيلُ والعُبابُ، بَل هو بحرٌ متلاتم التَّيار، متراكمُ الزَّخار، فهُوَ أعظمُ شأناً وأمنعُ جانباً وأجلُ قَدرَاً وأبعَدُ قعراً، ضلَّت العُقولُ، وتاهت الحلومُ، وقَصَرَت الخُطَباءُ، وعجُزَت الأدباءُ وكَلَّت الفُصَحاءُ وعَجُبَت البلغاءُ، وتَحَيُّرَت الحكماءُ، وتصاغَرَت العُضماءُ عن وصف شأنٍ من شأنهِ، أوادراكُ فضيلَة من فضائله.
أما بعد، في هذاالكلام أذكُرُ خُلاصَةً من النهي عِندَ عُلَماءالبلاغةِ ومعانيه المختلفه (الأصلي والمجازي) ثُمَّ أذكُرُ عدَةً من الحكم التي موجودةٌ فيها افعال النهي وأبحَثُ عن معانيها.

النَّهي:
النَّهي لُغَةً مِن "نَهي، يَنهي، نهياً" واصطلاحاً في علم النحو وَالبيان طلبُ الكَفِّ عن الفعل وطلبُ تركه استعلاءً مَعَ الالزامَ [1].
وبالعبارة الأُخري طَلَبُ الكَفِّ من عمَلٍ من جانِبِ شَخصٍ رفيع المقام من دونه ويُستَعمَلُ في غير طلب الكَفِّ أحياناً [2] وله صيغةٌ واحدةٌ، وهيَ المضارع بلا الناهيه: في قولِكَ حينَ ما تقولُ:"لاتَفْعَلْ" [3]
وبَعضُ العلماءِ يَعتَقِدونَ أنَّ للنَهيِ ثلاثُ صيَغٍ:
1-فعلٌ مُضارِعٌ مجزومٌ بلا الناهيه: نحو قولهُ تَعالي: " لاتَقْرِبوا الزِّني إنَّه كانَ فاحشةً وساءَ سَبيلا" [4].

2-في بابِ التَحذير: نحو:"إياكَ أن تَكذِبَ".

3- جملةٌ خَبَريَةٌ يُقصَدُ عنها النَّهي. نحو قوله تعالي:" وَيلٌ للمُطَفِفين" [5].

أما النحاةُ ذَكَروا التحذيرَ المفعولَ به لفعلِ الأمر المحذوف أو " المَفعول للمُضارع المحذوف، مثل: إيّاكَ والكِذْبَ، "إيّاكَ" المفعولٌ به لفعلِ"إحذَرْ" [6] أوالمفعول به لفعل أُحَذِّرُ" [7].

وإعلَم: أنَّ النهي طَلَبُ الكَفِّ عن الشيء، ممن هو أقَلُ شأناً مِن المتكلم، وهوَ حقيقَةٌ في التحريم كَما عليه الجمهور، فمتي ورَدَت صيغةُ النهي أَفادَت الحَظَرَ وَالتَحريمَ علي الفور. [8].

وقد وَقَعَ الخَلافُ بَينَ جُملَةِ مِنَ الأصوليين في أنَّ مَفادَ النهي هو طَلَبُ التركِِ الذي هو مجررَّد أمرٍ عدي أو طَلب الكفِّ عن الفعلِ الَّذي هوأمرٌ وجوديٌ [9]

قد تخرجُ هذه الصيغة عن أصل معناها إلي معانٍ أُخَر، تستفادُ مِن سياق الكلام وقرائن الأحوال.

1-كالدُّعاء: نحو قوله تعالي:" رَبَّنا لا تُؤاخِذنا إن نَسَينا أُو أَخطانا" [10]

2- والالتماس: كَقولُكَ لِمَن يساويكَ:أيُّها الأخ لا تتوانَ

3- والارشاد: كَقوله تعالي:"لا تسأَلوا عن أَشياءَ إنْ تُبْدَلَكُم تَسؤكُم [11]

4- والدوام: كقوله تعالي:"ولا تَحسَبَنَّ الله غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظالمون" [12].

5- وبيان العاقبة: نحو قوله تعالي:" لا تَحْسَبَنَّ الذينَ قُتِلوا في سبيل اللهِ أمواتاً بَل أحياءُ" [13].

6-والئيسئس: نحو قوله تعالي:"لا تعتذروا قد كفرتُمْ بعدَ أيمانَكُم" [14].

7- والتَّهنّي: نحو: ياليلة الأنسيِ لا تَنفَضي.

8- والتهديد: كقولكَ نحادمك: لا تُطِعْ أمري

9- والكراهة: نحو لاتَبتفِت وأنتَ في الصلاة

10- والتوبيخ: نحو لا تنهَ عن خُلقٍ وتأتي مثلَه.

11- والائتناس: نحو"لا تحزن إنَّ اللهَ معنا" [15].

12- والتحقير: كقوله:

دَع المكارمَ لا ترحل لِبُغيتها

واْقعُدْ فَإِنَّكَ أنت الطاعم الكاسي [16].

13- واستنهاض الهمه والتحريض: نحو:

لا تيأسوا أن تَستَرِدُّوا مجدكُم

فَلرُبَّ مَعتوبٍ هَوَي ثُمَّ اْرتَقي.

"لاتيأسوا" استُعِملَ لِتَحفيضِ المخاطب

14- والأهانة: كقوله تعالي:"أخسئوا فيها ولا تُكَلّمون" [17].

15- والتسوية: نحو"أولاتصبروا" [18].
"لاتصبروا" أُُستُعمِِلَ للتسويَه. [19].
وإعلَم أنَّ النهي كالأمر، فَيَكونَ استعلاء مع الأذي ودعاءُ مع الأعلي والتماساً مع النظير [20].

وإعلم أنَّ استعمال النهي في غير المعني الأصلي يُسْتَحْصَلُ من القرائن الموجودة في الجملة ويرجع هذا الاستنباط إلي الذوق المرهف والشعور الدقيق وأحياناً يُسْتَنْبَطُ من جملةٍ واحدةٍ معانٍ متعددةٌ والادراكُ والاستنباطُ من جملةٍ متفاوتٌ عند شَخصٍ وشَخصٍ آخَرْ والآن أذكُرُ عدَةً من الحكمِ وأشرَحَها:
إِذَا وَصَلَتْ إِلَيْكُمْ أَطْرَافُ النِّعَمِ فَلَا تُنَفِّرُوا أَقْصَاهَا بِقِلَّةِ الشُّكْر [21].
"لا تُنَفِروا" في هذه الحكمة أُستُعْمِلَت في الارشاد والهداية لاستفادةِ منَ النِّعَمِ علي النهج السليم.

كُنْ سَمْحاً وَ لَا تَكُنْ مُبَذِّراً وَ كُنْ مُقَدِّراً وَ لَا تَكُنْ مُقَتِّراً. [22].
"لاتَكُنْ" صيغةُ النهي التي أُستُعمِلَت في المعني الأصلي وهو طلب ترك الفعل.
مَنْ وَضَعَ نَفْسَهُ مَوَاضِعَ التُّهْمَةِ فَلَا يَلُومَنَّ مَنْ أَسَاءَ بِهِ الظَّنَّ [23].
"لايَلومَنَّ" صيغة النهي التي أُستعلمت لبيان العاقبة الذي يَضَعُ نَفسَهُ في مَواضِعِ التُّهَمَةِ وهي الندامة.

الرِّزْقُ رِزْقَانِ رِزْقٌ تَطْلُبُهُ وَ رِزْقٌ يَطْلُبُكَ فَإِنْ لَمْ تَأْتِهِ أَتَاكَ فَلَا تَحْمِلْ هَمَّ سَنَتِكَ عَلَى هَمِّ يَوْمِكَ كَفَاكَ كُلُّ يَوْمٍ مَا فِيهِ فَإِنْ تَكُنِ السَّنَةُ مِنْ عُمُرِكَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَيُؤْتِيكَ فِي كُلِّ غَدٍ جَدِيدٍ مَا قَسَمَ لَك‏ وَ إِنْ لَمْ تَكُنِ السَّنَةُ مِنْ عُمُرِكَ فَمَا تَصْنَعُ بِالْهَمِّ لمَا لَيْسَ لَكَ وَ لَنْ يَسْبِقَكَ إِلَى رِزْقِكَ طَالِبٌ وَ لَنْ يَغْلِبَكَ عَلَيْهِ غَالِبٌ وَ لَنْ يُبْطِئَ عَنْكَ مَا قَدْ قُدِرَ لَكَ [24].
"لاتَحمِل" صيغة النهي التي أُستُعمِلَت للارشاد.

لَا يُزْهِدَنَّكَ فِي الْمَعْرُوفِ مَنْ لَا يَشْكُرُهُ لَكَ فَقَدْ يَشْكُرُكَ عَلَيْهِ مَنْ لَا يَسْتَمْتِعُ بِشَيْ‏ءٍ مِنْهُ وَ قَدْ تُدْرِكُ مِنْ‏ شُكْرِ الشَّاكِرِ أَكْثَرَ مِمَّا أَضَاعَ الْكَافِرُ وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين [25].

"لَا يُزْهِدَنَّ" صيغة النهي التي أُسْتُعْملَت للارشادِ.
لَا تَقُلْ مَا لَا تَعْلَمْ بَلْ لَا تَقُلْ كُلَّ مَا تَعْلَمُ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ فَرَضَ عَلَى جَوَارِحِكَ كُلِّهَا فَرَائِضَ يَحْتَجُّ بِهَا عَلَيْكَ يَوْمَ الْقِيَامَة [26].

في هذه الحكمة "لا تَقُل" صيغة النهي التي أستُعمِلَت للكراهةِ مِن أن يقول الانسانُ ما لا تعلَمُ أو كُلَّ ما تعلَمُ.

لَا تَجْعَلَنَّ ذَرَبَ لِسَانِكَ عَلَى مَنْ أَنْطَقَكَ وَ بَلَاغَةَ قَوْلِكَ عَلَى مَنْ سَدَّدَكَ. [27].

"لا تَجعَلَنَّ" صيغة النهي التي أستُعمِلَت للارشاد

لَا تُخَلِّفَنَّ وَرَاءَكَ شَيْئاً مِنَ الدُّنْيَا فَإِنَّكَ تَخَلِّفُهُ لِأَحَدِ رَجُلَيْنِ إِمَّا رَجُلٍ عَمِلَ فِيه‏ بِطَاعَةِ اللَّهِ فَسَعِدَ بِمَا شَقِيتَ بِهِ وَ إِمَّا رَجُلٍ عَمِلَ فِيهِ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ (فَشَقِيَ بِمَا جَمَعْتَ لَهُ) فَكُنْتَ عَوْناً لَهُ عَلَى مَعْصِيَتِهِ وَ لَيْسَ أَحَدُ هَذَيْنِ حَقِيقاً أَنْ تُؤْثِرَهُ عَلَى نَفْسِكَ وَ يُرْوَى هَذَا الْكَلَامُ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ وَ هُوَ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الَّذِي فِي يَدَيْكَ مِنَ الدُّنْيَا قَدْ كَانَ لَهُ أَهْلٌ قَبْلَكَ وَ هُوَ صَائِرٌ إِلَى أَهْلٍ بَعْدَكَ وَ إِنَّمَا أَنْتَ جَامِعٌ لِأَحَدِ رَجُلَيْنِ رَجُلٍ عَمِلَ فِيمَا جَمَعْتَهُ بِطَاعَةِ اللَّهِ فَسَعِدَ بِمَا شَقِيتَ بِهِ أَوْ رَجُلٍ عَمِلَ فِيهِ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ فَشَقِيَ بِمَا جَمَعْتَ لَهُ وَ لَيْسَ أَحَدُ هَذَيْنِ أَهْلًا أَنْ تُؤْثِرَهُ عَلَى نَفْسِكَ وَ تَحْمِلَ لَهُ عَلَى ظَهْرِكَ فَارْجُ لِمَنْ مَضَى رَحْمَةَ اللَّهِ وَ لِمَنْ بَقِيَ رِزْقَ اللَّهِ [28].

"لا تُخَلِفَنَّ" في هذه الحكمة صيغة النهي التي أُستُعمِلَت للارشاد.

أَلَا حُرٌُ يَدَعُ هذِهِ اللُّمَاظَةَ لِأَهْلِهَا؟ إِنَّهُ لَيْسَ لِأَنْفُسِكُمْ ثَمَنٌ إِلَّا الْجَنَّةَ فَلَا تَبِيعُوهَا إلَّا بِهَا[29].
"لاتبيعوا" في هذه الحكمة صيغة النهي ومضمونها التأديب والارشاد.

يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ عَضُوضٌ يَعَضُّ الْمُوسِرُ فِيهِ عَلَى مَا فِي يَدَيْهِ وَ لَمْ يُؤْمَرْ بِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَ لا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ تَنْهَدُ فِيهِ الْأَشْرَارُ وَ تُسْتَذَلُّ فِيهِ الْأَخْيَارُ وَ يُبَايِعُ الْمُضْطَرُّونَ وَ قَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه واله عَنْ بَيْعِ الْمُضْطَرِّينَ [29].

"لا تنسوا" صيغة النهي التي أُستُعمِلَت في المعني الأصلي(طلبُ ترك الفعل).

كما أُشيرَ في استنباط مضامين صيغة النهي لا يُمكِنُ أن نَضَعَ لجملةٍ مضموناً واحداً فقط بل يُمكنُ أن يكونَ الادراك عن فعلٍ عند الاشخاص المختلفة مختلفاً.وجدیربالذکرأن أقول أکثرمضماین الحکم فی نهج البلاغه حول الارشاد والنصیحه.