الأربعاء ٢ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٣
بقلم خالد حربي

انجازات علمية أفادت العالم أجمع

انتهيت في دراسات وتحقيقات وترجمات سابقة إلى أن أبا بكر محمد بن زكريا الرازي (250 – 313هـ - 864 – 925م) أبرز أطباء الحضارة الإسلامية، وطبيب المسلمين بدون منازع، وأبا الطب العربي، وجالينوس العرب، بل وحجة للطب في العالم منذ زمانه القرن الثالث الهجري وحتى القرن الثامن عشر للميلاد، ففي خلال هذه القرون الممتدة كانت مؤلفات الرازي الطبية والعلاجية تشكل أساساً مهماً من أسس تعليم طلاب الطب في جميع أنحاء العالم، وذلك إنما يرجع إلى الإسهامات الطبية والصيدلانية والبحثية والتعليمية الأكاديمية الرائدة التي قدمها الرزاي، وعبرت بحق عن روح الإسلام وحضارته إبان عصورها المزدهرة، وعملت على تقدم علم الطب، وأفادت منها الإنسانية بصورة لا يستطيع أن ينكرها مُنكر.

تضمنت أعمالي المنشورة في الرازي كثيراً من إنجازاته وابتكاراته تلك التي شكلت لديّ (حزمة) من المبادئ والآراء والأفكار والنظريات الرازية التي لم تكتشف من قبل، فتم اكتشافها باعتبارها إضافات جديدة في بناء مذهب الرازي، وحجم الطب العربي الإسلامي ككل. وقد أفدت إفادات جمة بتلك الدراسات والتحقيقات في منهجي لتحقيق " الحاوي في الطب " كأعم وأهم وأضخم موسوعة طبية في الطب العربي الإسلامي، بل في تاريخ الطب الإنساني كله. ولعل هذا ما يفسر استمرار العمل في تحقيق الحاوي من سنة 1995 وحتى سمة2012.

فالحاوى أول موسوعة طبية لكافة المعلومات والعلوم الطبية المعروفة حتى وفاة الرازي في بداية القرن العاشر الميلادي، جمع فيها الرازي كل الخبرة الإكلينيكية التي عرفها في مرضاه وفي نزلاء البيمارستانات (المستشفيات)، وهذا التأليف كان فتحا جديدا في تاريخ تعليم الطب. ويعتبر كتاب الحاوي أضخم كتاب عربي وصل إلينا كاملا وهو مازال ضخما غنيا بالمعلومات الطبية لم يسبر غوره، ولم يدرس بدق وتأصيل لكثرة ما تضمنه من أسماء الأدوية وصيدلية تركيبها وأسماء الأطباء من العرب وغير العرب الذين أخذ من مؤلفاتهم في هذا الكتاب، ولضخامة الكتاب بهذا الشكل لم يقرضه طبيب من الذين أعقبوا الرازي وكل ما فعله الممارسون من بعده أن تداولوا صورا مختصرة منه.

وقد اشتهر الحاوي بذكر عدد كبير من الحالات السريرية التي تجاوز عددها المائة حالة، وهو موسوعة طبية اشتملت علي كل ما وصل إليه الطب إلى وقت الرازي ففيه أعطى لكل مرض وجهة النظر اليونانية والسريانية والهندية والفارسية، والعربية ثم يضيف ملاحظاته الإكلينيكية ثم يعبر عن ذلك برأي نهائي, ولذلك اعتبر الحاوي من الكتابات الهامة في مجال الطب التي أثرت تأثيرا بالغا علي الفكر العلمي في الغرب، إذ ينظر إليه عادة علي انه اعظم كتب الطب قاطبة حتى نهاية العصور الحديثة.

وذكر علماء الغرب أن كتاب الحاوي في الطب هو أعم موسوعة في الطب اليوناني العربي وأهم أعمال الرازي فجاء أوسع واثقل كتاب ترجم إلى اللاتينية وطبع في أوروبا، وظل عمدة الدراسات الطبية الغربية علي مدار قرون طويلة.

ومازال الحاوي عمدة أيضا في كل دراسات تاريخ العلم بعامة وتاريخ الطب بخاصة علي المستويين العربي والغربي ومع ذلك يعترف جميع المشتغلين بتاريخ العلم علي مستوى العالم أن الحاوي لم يحقق حتى الآن تحقيقا علميا دقيقا، فمازال الكتاب بكرا لم يعمل به الباحثون باهتمام وشمول ودقة، وهذا ما دعاني إلى تحقيقه ونشره ضمن مشروعي التراثي المنصب علي تحقيق ونشر مؤلفات الرازي المخطوطة ذلك الذي بدأ عام 1994 ومازال مستمرا.

الواقع أن مؤلفات الرازى تطلعنا على أن صاحبها قد قدم إسهامات طبية جليلة أفادت الإنسانية جمعاء. فالرازى أول من وصف مرض الجدرى والحصبة. وأول من ابتكر خيوط الجراحة المسماه "بالقصاب".وتنسب إليه عملية خياطة الجروح البطنية بأوتار العود. ويعتبر الرازى أول من اهتم بالجراحة كفرع من الطب قائم بذاته، ففى الحاوى وصف لعمليات جراحية تكاد لا تختلف عن وصف مثيلتها فى العصر الحديث وهو أيضاً أول من وصف عملية استخراج الماء من العيون. واستعمل فى علاج العيون حبات "الإسفيداج"، ونصح الرازى بضرورة بناء على المستشفى بعيداً عن أماكن تعفن المواد العضوية.

وقد كشف الرازى طرقاً جديدة فى العلاج، فهو أول من استعمل الأنابيب التى يمر فيها الصديد والقيح والإفرازات السامة. كما استطاع أن يميز بين النزيف الشريانى والنزيف الوريدى، واستعمل الضغط بالأصبع وبالرباط فى حالة النزيف الشريانى.واستخدم الرازى أدوية ما زال الطب الحديث يعول عليها حتى وقتنا الحاضر. فلقد استخدم الأفيون فى حالات السعال الشديدة والجافة. وتقول كتب الفارماكولوجى الحديثة إن الأفيون يحتوى على العديد من القلويات أو شبه القلويات كالمورفين والكودائين، والنوسكابين تستخدم فى إيقاف السُعال الجاف خاصة الكودائين، وهى جميعها تعمل على تثبيط مركز السعال فى الدماغ وبذلك تخفف من نوباته وحدته. وتُعطى هذه الأدوية كما أعطاها الرازى وخاصة فى حالات مرضى القلوب لكى تخفف عن القلب الإرهاق الذى يسببه السعال له. كما استخدم الرازى طريقة التبخير فى العلاج، وهى لاتزال تستخدم حتى يومنا هذا، وذلك بوضع الزيوت الطيارة فى الماء الساخن لكى يستنشقه المريض، فتعمل الأبخرة المتصاعدة على توسيع القصبات الهوائية، وبالطبع تتوسع المجارى التنفسية لأنها تؤثر على عملية مرور الهواء دخولاً وخروجاً فى حالتى الشهيق والزفير، وفى نفس الوقت فإن للزيـوت الطيارة تاثيراً مخدراً موضعياً، وهكذا تزيل الإزعاج الذى يحمى به المزكوم.

ولقد أسهم الرازى فى مجال التشخيص بقواعد لها أهميتها حتى الآن، منها: المراقبة المستمرة للمريض. والاختبار العلاجى، وهو أن يُعطى العليل علاجاً مراقباً أثره، وموجهاً للتشخيص وفقاً لهذا الأثر. ومنها أهمية ودقة استجواب المريض، فينبغى للطبيب أن لايدع مساءلة المريض عن كل ما يمكن أن يتولد عن علته من داخل ومن خارج، ثم يقضى بالأقوى. ومنها أيضاً العناية بفحص المريض فحصاً شاملاً على اعتبار أن الجسم وحدة واحدة متماسكة الأعضاء إذا اختل واحد منها "تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمى".

واعتمدت نظرية الرازى الأساسية فى التشخيص على التساؤل عن الفرق بين الأمراض. فمن الإسهامات الأصيلة التى قدمها الرازى للطب، تفرقته بين الأمراض المتشابهة الأعراض، وهـذا ما يطلـق عليه الآن التشخيص التفريقى Diff Diagnosis،والذى يعتمد على علم الطبيب وخبرته وطول ممارسته وذكائه وقوة ملاحظاته. وقد توفر كل ذلك فى الرازى.

وبالجملة قدم الرازى إسهامات طبية وعلاجية رائدة عملت على تقدم علم الطب وأفادت منها الإنسانية بصورة لا ولم يستطع أحد أن ينكرها. فالرازى حجة الطب فى العالم منذ زمانه وحتى العصور الحديثة، وذلك باعتراف الغربيين أنفسهم!

ووضع أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن الجزار مؤلفات كثيرة ومهمة فى الطب منها:
كتاب فى علاج الأمراض ويعرف بزاد المسافر مجلدان. كتاب فى الأدوية المفردة. كتاب فى الأدوية المركبة ويعرف بالبغية. كتاب العدة لطول المدة وهو أكبر كتاب له فى الطب. كتاب طب الفقراء. رسالة فى إبدال الأدوية. كتاب فى الفرق بين العلل التى تشتبه أسبابها وتختلف أعراضها. مجربات فى الطب. مقالة فى الجذام وأسبابه. كتاب الخواص. كتاب المختبرات. كتاب فى نعت الأسباب المولدة للوباء فى مصر وطريق الحيلة فى دفع ذلك وعلاج ما يتخوف منه. رسالة فى المقعدة وأوجاعها. كتاب البلغة فى حفظ الصحة. كتاب الفصول فى سائر العلوم والبلاغات.

عرف الغرب ابن الجزار أو Algazirah كما كان يدعوه الغربيون، وأفادوا من مؤلفاته التى ترجم منها قسطنطين الإفريقي كتاب زاد المسافر تحت عنوان Kiaticum Peregrinantis، وبعد هذه الترجمة كان فى صقلية ترجمة يونانية بعنوان Ephodia.

واشتهر كتاب " كامل الصناعة " لعلى بن العباس فى اللاتينية " بالكتاب الملكي " وهو من أهم وأشهر كتب الطب التى ظهرت فى القرن الرابع الهجرى. وضعه على بن العباس موسعا بعشرين مقالة فى علوم الطب النظرية والعلمية، وبوبه تبويبا حسنا، فجاء أفضل من كتاب المنصوري للرازي الكتاب المدرسي المعتمد آنذاك. وقد لزم طلاب العلم درس الكتاب حتى ظهور " القانون " لابن سينا ", والملكي فى العمل أبلغ، والقانون فى العلم أثبت.

وتحتوى مقالات الكتاب العشرين على أبحاث وفصول مهمة فى الجراحة والتشريح والعلاجات والأمور الطبيعية والبيئية وأثر الأدوية وتأثيرها، نباتية كانت أم معدنية، بالإضافة إلى أثر السموم فى القوى الطبيعية المدبرة للبدن. وفى قسم التشريح نرى على بن العباس يقدم تعريفا ووصفا صائبا لكل من الأوردة والشرايين ووظائف القلب والتنفس والجهاز الهضمي، الى جانب وصف للحواس وكيفية تأدية وظائفها، كما أشار الى أهمية ممارسة الرياضة من حيث أنها تنتج حصانة الجسم عن طريق تقوية الأعضاء وصلابتها.

والكتاب يوضح بشكل جلّي أن الأطباء المسلمين قد حددوا قوى الأدوية بثلاث ذكرها على بن العباس فى كتابه، وأصبحت مرجعا للأطباء اللاحقين وهى: 1-القوى الأول وهى الأمزجة. 2-القوى الثانية وهى: المنضجة واللينة والمصلبة والمسددة والفتاحة والجلابة والمكثفة والمفتحة لأفواه العروق والناقصة للحم والجاذبة والمسكنة للوجع. 3-القوى الثالثة وهى: المفتتة للحصى والمدرة للبول والطمث والمعينة على نفث ما فى الصدر والمولدة للمنى واللبن. ومن أراد معرفة ذلك فينبغى أن يكون عارفا بالقوانين التى بها يمتحن كل واحد من الأدوية المفردة، ويستدل على مزاجه وقوته ومنفعته فى البدن.

واعتمد على بن العباس فى ممارسته الطبية على تقديم الصحة، واعتبر الوقاية خيرا من العلاج وأن الطبيعة لا تقل مقدرة فى إصلاح البدن عن الطبيب، كما أن القوة الجسدية ضرورة للمريض. وهو يعتبر أول ما قال بصعوبة شفاء المريض بالسل الرئوي وذلك بسبب حركة الرئة, وعلى أساس أن العضو المريض يحتاج الى السكون والذى لا يتوافر فى الرئة الدائمة الحركة بفعل التنفس.

من كل ما سبق يتبين لنا أهمية كتاب كامل الصناعة لعلى بن العباس ومدى أثره فى العصور اللاحقة فقد تأثر به الأطباء اللاحقين فى العصور المختلفة، وامتد هذا الأثر الى الغرب فى بداية العصور الحديثة. فقد كان هذا الكتاب من الكتب الدراسية الأساسية فى كليات الطب الأوربية, إلى جانب كتاب الحاوى للرازي والقانون لابن سينا والتصريف لأبي القاسم الزهراوى والتيسير لابن زهر, حتى القرن السادس عشر. وتجدر الإشارة إلى أن قسطنطين الأفريقي (ت 1087 م) اللص الوقح – هكذا يدعى فى تاريخ العلم – ترجم كتاب كامل الصناعة الى اللغة اللاتينية ونشره باسمه، وبقى الكتاب يدرس على طلاب الطب الأوربيين حتى سنة 1127 م حين ظهرت ترجمة أخرى للكتاب قام بها " الياس اصطفيان الأنطاكي " ذكر فيها أسم مؤلف الكتاب الحقيقي على بن العباس.

ويعد الزهراوى(أبو القاسم خلف بن العباس) أكبر جراحى العرب ومن كبار الجراحين العالميين,كان طبيبا فاضلا خبيرا بالأدوية المفردة والمركبة، جيد العلاج. وله تصانيف مشهورة فى صناعة الطب وأفضلها كتابه الكبير المعروف بالزهراوي، وكتاب التصريف لمن عجز عن التأليف وهو أكبر تصانيفه وأشهرها، وهو كتاب تام فى معناه ,و ينقسم الى ثلاثة أقسام: قسم طبي وثاني صيدلاني وثالث جراحى وهو أهمها، لأن الزهراوي أقام به الجراحة علما مستقلا بعد أن كانت تسمى عند العرب (صناعة اليد) يقول الزهراوي: " لما أكملت لكم يا بنى هذا الكتاب الذى هو جزء العلم فى الطب بكماله، بلغت فيه من وضوحه وبيانه، ورأيت أن أكمله لكم بهذه المقالة التى هى جزء العمل باليد لأن العمل باليد مخسة فى بلادنا, وفى زماننا معدوم البتة حتى كاد أن يندرس علمه وينقطع أثره.. ولأن صناعة الطب طويلة فينبغى لصاحبها أن يرتاض قبل ذلك فى علم التشريح, وعلى ذلك نرى الزهراوي فى هذا الكتاب يعلم تلاميذه كيفية خياطة الجروح من الداخل بحيث لا يترك أثرا فى الخارج وذلك عن طريق استعماله لابرتين وخيط واحد مثبت بهما، كما استعمل خيوط مأخوذة من أمعاء القطط فى جراحة الأمعاء.

ويعتبر الزهراوي، أول من ربط الشرايين، وأول من وصف النزيف واستعداد بعض الأجسام له (هيموفيليا)، وأول من أجرى عملية استئصال حصى المثانة فى النساء عن طريق المهبل، واكتشف مرآة خاصة بالمهبل، وآلة لتوسيع الرحم للعمليات، وأجرى عملية تفتيت الحصاة فى المثانة، وبحث فى التهاب المفاصل.

والزهراوي هو أول من نجح فى عملية شق القصبة الهوائية Trachomi وقد أجرى هذه العملية على خادمه. كما نجح فى إيقاف نزيف الدم بربط الشرايين الكبيرة وهذا فتح علمي كبير أدعى تحقيقه لأول مرة الجراح الفرنسي الشهير امبرواز باري عام 1552، على حين أن الزهراوي قد حققه وعلمه تلاميذه قبل ذلك بستمائة سنة.

وإذا كانت الأبحاث الطبية الحديثة قد أثبتت أن مادة الصفراء تساعد على إيقاف تكاثر البكتريا، فإن الزهراوي قد توصل الى ذلك فى زمانه، فكان يعقم ويطهر الآلات المستعملة فى العمليات الجراحية بنقعها فى الصفراء، ويأتي اهتمام الزهراوي بتعقيم الآلات وتطهيرها من كثرة استعمالها فى التشريح موضوع اهتمامه الرئيس، يدلنا على ذلك كتابه " التصريف لمن عجز عن التأليف " الذى يتبين منه أنه شرّح الجثث بنفسه، وقدم وصفا دقيقا لإجراء العمليات الجراحية المختلفة.

وقد أوصى طبيبنا فى جميع العمليات الجراحية التى تجرى فى النصف السفلى من الإنسان بأن يرفع الحوض والأرجل قبل كل شئ. وهذه طريقة اقتبستها أوربا مباشرة عنه واستعملتها كثيرا حتى قرننا هذا، ولكنها نحلت – زورا وبهتانا – للجراح الألماني ترند لنبورغ وعرفت باسمه دونما ذكر للجراح المسلم العظيم، وقبل برسيفال بوت بسبعمائة سنة عنى الزهراوي أيضا بالتهاب المفاصل وبالسل الذى يصيب فقرات الظهر والذى سمي فيما بعد باسم الطبيب الإنجليزي بوت، فقيل (الداء البوتي).

ومع ذلك لم يستطع الغربيون إغفال الدور الريادي للزهراوي فى علم الجراحة – فضلا عن نبوغه فى أمراض العين والأنف والأذن والحنجرة وأمراض المسالك البولية والتناسلية – فأطلقوا عليه لقب "أبو الجراحة".

ويعد كتاب "القانون فى الطب" للشيخ الرئيس ابن سينا من أهم موسوعات الطب العربي الإسلامي، يشتمل على خمسة أجزاء خصص الجزء الأول منها للأمور الكلية فهو يتناول حدود الطب وموضوعاته والأركان والأمزجة والأخلاط وماهية العضو وأقسامه والعظام بالعضلات وتصنيف الأمراض وأسبابها بصفة عامة والطرائق العامة للعلاج كالمسهلات والحمامات.. الخ. وخصص الجزء الثاني للمفردات الطبية وينقسم الى قسمين: الأول يدرس ماهية الدواء وصفاته ومفعول كل من الأدوية على كل عضو من أعضاء الجسم, ويسرد الثاني المفردات مرتبة ترتيبا أبجديا. وخصص الجزء الثالث لأمراض كل جزء من الجسم من الرأس إلى القدم. أما الجزء الرابع فيتناول الأمراض التى لا تقتصر على عضو واحد كالحميات وبعض المسائل الأخرى كالأورام والبثور والجزام والكسر والجبر والزينة.

وفى الجزء الخامس دراسة فى الأدوية المركبة. وترجم القانون فى الطب ترجمات كثيرة من العربية، وطبع فى نابولي سنة 1492 م وفى البندقية سنة 1544. وترجمه جيرارد الكريموني من اللغة العربية الى اللغة اللاتينية. ويقول الكريموني أنه قضى قرابة نصف قرن فى تعلم اللغة العربية والتوفر على ترجمة نفائس المكتبة العربية. وكان قانون الشيخ الرئيس أعظم كتاب لاقيت فى نقله مشقة وعناء، وبذلت فيه جهدا جبارا.

وقد ترجم أندريا الباجو القانون فى أوائل القرن السادس عشر الميلادي وتميزت هذه الترجمة عن غيرها بوضع الباجو قاموسا للمصطلحات الفنية التى كان يستعملها ابن سينا، ونشرت هذه الترجمة عام 1527 م. وترجم جان بول مونجوس القانون ترجمة دقيقة اعتمد عليها اساتذة الطب وطلابه فى العالم خلال فترة طويلة من العصور الوسطى. وجملة القول إن القانون فى الطب لابن سينا طبع باللاتينية أكثر من ستة عشر مرة فى ثلاثين سنة من القرن الخامس عشر الميلادي، وطبع عشرين مرة فى القرن السادس عشر الميلادي.

وفى القرن السادس الهجرى/الثانى عشر الميلادى يدخل أبو مروان بن أبى العلاء بن زهر فى صلات علمية مع الفيلسوف والطبيب الكبير ابن رشد الذى أثنى على ابن زهر وتفوقه الطبي، فألف له ابن زهر كتابه الأشهر "التيسير فى المداواة والتدبير"، ويبدو أن ابن رشد قد أمره بذلك على ما يذكر ابن زهر نفسه من "إنه مأمور فى تأليفه". وقد أدت أهمية موضوعات الكتاب بابن رشد الى أن يصرح فى كتابه "الكليات" بأن أعظم طبيب بعد جالينوس هو ابن زهر صاحب كتاب "التيسير". فقد كانت له معالجات مختارة تدل على قوته فى صناعة الطب، وله نوادر فى تشخيص الأمراض ومعرفة آلام المرضى دون أن يسألهم عن أوجاعهم، إذ كان يقتصر أحيانا على فحص أحداق عيونهم، أو على جس نبضهم، أو على النظر الى قواريرهم.

واعتمد المنهج العلاجى عند ابن زهر جّل اعتماده على الغذاء، وكان يفضل – متأثرا بالرازي – الاعتماد أولا على الغذاء فى المعالجات قبل الأدوية المفردة. وقد ضمن أبو مروان بن زهر منهجه العلاجى هذا فى ثاني أهم كتبه وهو كتاب "الأغذية" الذى كان له أثر قوى فى تقدم الفن العلاجي فى العصور اللاحقة. هذا بالإضافة الى مؤلفاته الأخرى والتى لا تقل أهمية عن التيسير "والأغذية"، وإن كانت أقل شهرة، وهى: مقالة فى علل الكلى، كتاب الزينة.

وترجع أهمية كل هذه المؤلفات الى ما ضمّنه فيها صاحبها من إنجازات، فهو أول من قدم وصفا سريريا – متأثرا بالرازي – لالتهاب الجلد الخام، وللألتهابات الناشفة والانسكابية لكيس القلب. وهو أول من اكتشف جرثومية الجرب وسماها "صؤابة" وأول من ابتكر الحقنة الشرجية المغذية، والغذاء الصناعي لمختلف حالات شلل عضلات المعدة. كما يعتبر أول من استعمل أنبوبة مجوفة من القصدير لتغذية المصابين بعسر البلع، وقدم وصفا كاملا لسرطان المعدة... الى غير ذلك من الإنجازات الطبية والعلاجية التى جعلت صاحبها أشهر وأكبر أعلام الطب العربي الاسلامى فى الأندلس، وعملت على تطور وتقدم علم الطب فى العصور اللاحقة حتى وصلت الى الغرب الذى عرفه باسم Avenzorar، وعده أعظم من ابن سينا، ولا يعدله فى الشرق سوى الرازي، والأثنان قد قدما من المآثر ما أفادت الإنسانية جمعاء.

وفى القاهرة نال ابن النفيس شهرة عظيمة كطبيب حتى أن بعض المؤرخين يذكرون أنه لم يكن فى الطب على وجه الأرض مثله، ولا جاء بعد ابن سينا مثله، وكان فى العلاج أعظم من ابن سينا. وبلغ ابن النفيس من العمر قرابة ثمانين سنة وتوفى يوم الجمعة الحادي والعشرين من ذى القعدة سنة 687 هـ بالقاهرة بعد مرض دام ستة أيام. وقد أشار عليه بعض زملائه الأطباء فى مرضه الذى توفى به بأن علاجه يستلزم تناول شئ من الخمر، فرفض وقال: لا القى الله تعالى وفى بطنى شئ من الخمر. وهكذا كان الإسلام وراء سلوك العلماء, وفى ذلك رد على بعض المؤلفين والمستشرقين الذين يعتقدون أن تقدم الطب عند المسلمين كان نتيجة لفصل العلم عن الدين.

ومن أهم مؤلفات ابن النفيس الطبية: شرح تشريح القانون، شرح كليات القانون، المهذب، مقالة فى النبض، شرح تقدمة المعرفة لأبقراط، شرح تشريح جالينوس، شرح مسائل حنين ابن اسحق، شرح فصول ابقراط.

ومن أشهر كتب ابن النفيس الطبية كتاب الموجز, يقول عنه حاجى خليفة: هو موجز فى الصورة ولكنه كامل فى الصناعة. وهذا الكتاب أراد فيه ابن النفيس أن يوجز ما ذكره ابن سينا فى كتاب (القانون) لكنه لم يتعرض فيه لموضوعات التشريح التى أفرد لها كتابا آخر. وتوجد من هذا الكتاب عشرات النسخ المخطوطة فى مكتبات العالم وفى دار الكتب المصرية وحدها توجد 13 مخطوطة للكتاب كتبت فى تواريخ مختلفة. وله شروح كثيرة منها: 1- شرح ابو اسحق إبراهيم بن محمد الحكيم السويدي المتوفى 690 هـ، 2- شرح سديد الدين الكازروني المتوفى 745 هـ، 3- شرح جمال الدين الأقصراني المتوفى 779 هـ، 4- شرح نفيس بن عوض الكرماني المتوفى 853 هـ. 5- شرح محمود بن أحمد الأمشاطي المتوفى 902 هـ، 6- شرح أحمد بن ابراهيم الحلبي المتوفى 971 هـ، 7- شرح قطب الدين الشيرازي، 8- شرح محمد الأيجي البليلي. وطبع الكتاب (طبعة حجر رديئة) بدلهى سنة 1332 هـ بعنوان: الموجز المحشى. كما طبع شرح الأقصرائي بالكنئو سنة 1294 هـ بعنوان: حل الموجز، وطبع شرح نفيس بن عوض بالهند سنة 1328هـ مع حاشية لمحمد بن عبد الحليم اللكنوري المتوفى 1285 هـ. ونقل الكتاب للغة التركية مرتين قام بإحداهما مصلح الدين بن شعبان المعروف بسروري (ت 869 هـ) وقام بالترجمة الأخرى أحمد بن كمال الطبيب بدار الشفاء بأدرنة. وترجم الى اللغة العبرية بعنوان (سفر هموجز) وإلى الإنجليزية بعنوان: المغنى فى شرح الموجز.

وفى عام 1924 قام الدكتور التطاوي وهو طبيب مصري شاب فى جامعة فريبيرج، كان يعمل على النصوص المخطوطة لتعليقات ابن النفيس على تشريح ابن سينا، وانتهى فى اطروحته الطبية الى أن ابن النفيس قد قدم لأول مرة وصفا دقيقا للدورة الدموية الصغرى أو الرئوية قبل أن يعلن ذلك مايكل سيرفيتوس (1556) ورينالدو كولومبو (1559) بقرابة ثلاثة قرون.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى