بلاد ما أعلى السماء
إهداء إلي كل ذرة تراب تبكي و تنتحب و يخرج صوتها للأكوان، إلي كل قطرة دم صامدة أبية عزيزة، إلي شريان الجثامين الطاهرة، شريان التحدي المشفر النابض في أجساد النضال، المرسل لرسائل الكرامة لتنير قناديل الظلام في الليالي الحالكة و الكهوف المظلمة.
إلى آلات الحرب المغتصبة توقفي فلن يستطيع حقراؤك أن يسلبوا وطن وراءه نحن .. أهدي هذه القصة ( التي أرسلها مع الولدان المخلدون علي الأكواب و الأباريق الذهبية إلي كل المسجلين في لوحات شرف الاستشهاد في بلاد ما أعلي السماء القادمون من ثلاثية المجد العربي (فلسطين..العراق..لبنان ).....
السادسة إلا خمس ثوان استعدت الساعات والمنبهات وخطوط الطول لإعلان تمام السادسة صباحاً بتوقيت الشرق في بلاد ما بعد توقيت خط جرينتش بساعتين، بدأ أصغر عقرب يتقلب بانتظام و انسيابية ما بين الخطوط الصغيرة الفاصلة بين الخمس ثوان المتبقية علي السادسة.. و معه يتقلب جسد مجد علي مضجعه و كأن عقله الباطن ينتظر هذا التمام و ....... رن جرس المنبه تمام السادسة و أعلنت كل إشارات ضبط الوقت في بلاده تمام السادسة صباحاً.. انتفض مجد من بحار النوم التي كان يسبح فيها و التي أصبح الآن علي شواطئها ثم سرعان ما خرج منها ليقف علي الأرض.. وضع يده علي المنبه في سرعة فقد بلغ صوته عنان المنزل و حجراته و أسقفه و نوافذه.. فرد مجد يديه في حركات مد و ثني عشوائية.. شعر بنشاط متميز يدب في أوصاله، لقد أتي اليوم الذي انتظره سنوات و سنوات تذوق فيها الصبر المدقع و عذابات ليالي الحرمان و البعد و التنقل ما بين دساتير الحياة و قوانينها التي جعلت منه مادة يتم تطبيقها لها رقم و سنة صدور و طريقة تنفيذ.
"أخيرا جاء الصباح".. قالها مجد و هو ينظر لنفسه في المرآة بعدما انعكست الأشعة الافتتاحية للشمس علي بساتين وجهه فزادتها جمالاً و رونقاً، نظر إلي مكتبه رأي صورتها الفينوسية الجمال، رفع سماعة الهاتف.. ضغط أرقامها في تسلسل يحفظه جيداً.. جعل الجرس يرن كثيراً و في آخر رنة جاء صوتها خافتاً قليلاً.. "هلا من معي؟"... "أنا مجد يا زوجتي".. ضحكت ضحكة أنثوية خفيفة.. "هل جعلتني زوجتك بهذه السرعة ألا تستطيع الانتظار حتي حفل العرس في المساء".. بلهفة قال.. "لا أستطيع"، و انغمرا في ضحك جميل...
بدأت الشمس في التبختر وسط السماء ومن حولها الفضاء يعاكسها، كان الجو صيفي حار قليلاً لكن هواء البحر قد رطب كل حرارة و جعل من نسيمه العليل حديقة يطير فيها البشر بأرواحهم السعيدة و يرفرفون كما الطير الذي يحمل رزقه لصغاره فرحاً بما أعطاه الله .
كما العريس في يوم عرسه أعد مجد نفسه وسط أصدقائه و أقربائه.. الجميع يهنيء.. الجميع يأتي بالورود.. الجميع يساعد.. أغاني الأفراح تكلل شرفة المنزل الواسع .. و الشمس المتبخترة تنظر لهذا المشهد الجذاب و هي فرحة لكونها تقترب هي الأخرى من حبيبها البحر فبعد قليل سوف تغرب و تذهب إليه .. أضاءت الأنوار في منزل العروس، عكست ألوانها علي الزهور المحيطة بالبيت و علي فستان العروس الجميل الأبيض الناصع البادي كثوب أرسلته الملائكة من السماء ،منير و مضيء بلآلئه الفضية علي جسدها الذهبي..
خرج هو وسط زملائه في السيارة من خلفهم سيارات العائلة و العائلات المجاورة.. انتظرت هي قدوم عريسها مجد.. "اليوم عرس مجد و حنان أسعد يوم بحياتي".. قالها والد العروس و هو يوزع الحلوي و الشيكولاتة الأنيقة و المشروبات علي المعازيم.. الجميع يميناً و يساراً و أماماً و خلفاً يهنئون .. في انتظار موكب العريس المقترب ..
بين مشاعر العشق و الغرام و الحب و الهيام جاء مجد وضع يد عروسه في يده قائلاً .. لن نفترق أبدا..
ابتسامات متفرقة أحاطت بالموكب.. أيدي اتجهت نحو السماء تدعو لهما.. أصوات خفية لا يسمعها أحد آتية.. لا يشعر بها سوي الهمس.. و ما تحت الصوت ..
كان في يدها مجموعة ورود بيضاء زاهية فواحة الرائحة جرت بعيدا حتي تلقيها لمن تتلقفها من الصبايا و العذارى من خلفها عل الحظ يحالفهن.. عدت و عدوا معها .. واحد .. اثنان.. ثلاثة..
ما تحت الصوت اقترب فجأة علي حين غرة أصبح فوق الصوت بمراحل..اخترق حاجز كل الأصوات .. فجر المكان كما السارق الذي يتسلل لسرقة و يفرق و يقتل .. وقفت عقارب القلوب لبرهة لكنها لم تمت لتشاهد ما هو أبشع من الموت.. قذفتهم قوة تفجير القنبلة الغادرة بعيداً دفعة واحدة.. دفاتر اليوم تسجل ما يحدث وقفت الأقلام في نفس برهة وقوف العقارب..
و كتبت في دموع.. استشهدت عائلة مجد و عائلة العروس.. ذهب الجميع إلي أعلي.. إلي السماء.. في لحظات ما بين الحقيقة و الخيال.. لم ينجو سوي مجد.. سؤال واحد سأله للفراغ الذي حوله.. أين حنان؟.. زهرة قلبه.. حنان.. جعل ينادي.. حناااااان.. حنااااان..
قلب في المكان كله يمينا و يساراً سمع أنيناً من خلف بقايا شجرة كانت منذ قليل تضلل بيتها المتدمر.. خلف الشجرة .. بقايا أنثي.. بقايا أنين .. بقايا أنفاس.. بقايا حياة.. بقايا حب.. نهايات حلم.. نهايات قلب.. يد واحدة .. يمني هي أو يسري لا يدري.. معلقه في نصفها العلوي.. بقايا وجه كان ضوءا للقمر منذ ثوان.. امتدت اليد الباقية نحو الشجرة بكل طاقتها تكتب تتخذ من الدماء المتناثرة علي فستانها المتمزق حبراً..
دموع حارقة غزيرة سقطت من عين مجد.. احتضن بقاياها.. وهو يدري أنها ذاهبة للأبد.. إلي النهاية.. إلي الشهادة.. كتبت ( م ج د و ط ن ي) حروف متفرقة بطول ما تبقي من الشجرة.. لم يفهمها مجد .. توقف عقله ينظر لهذه الكينونة التي أمامه أنثاه..امرأته المتبقية.. ابتسمت ببقايا شفتين.. تشير إلي شيء ما آتٍ من بعيد.. عرس آخر ينتظرها بالأعلى.. موكب أروع.. موكب الشهادة.. و الحياة الأخرى.. وفجأة سكت الأنين.. و ارتخت اليد التي كانت مرتفعة.. توقفت الشفتين عن الابتسام.. تساقطت الدماء من بقايا الحروف المكتوبة.. و ذهبت حنان .. إلي الأبد.. إلي حيث لا رجعة فالقرارات العليا لا رجعة فيها .
أقسم بالله العظيم ألا أحيا بدونك.. و ألا أحيا بدون عزة وطني.. الصامد الأبي كما إبائك و صمودك و قلبك الرحيم.. هذه رسالتي الأخيرة علي هذه الأرض التي تمنيت أن أحيا فيها معك لكن لا حياة مع ذل بلا كرامة و أهلا بالحياة في عزة و صمود.. فالشهادة هي طريقي .. سألقاك قريبا يا حبيبتي
التوقيع
مجد وطني
(م ج د و ط ن ي)
انطلق.. حارب.. بالحجارة.. بالنيران.. بكلمة الله أكبر و لا اله إلا الله..بالإيمان.. طلقات غادرة اخترقت جسده.. سلّم نفسه لذلك العرس الملائكي في السماء الذي سيزفه إلي عروسه.. قُذفت القنابل عليه.. أصبح أشلاء.. تمزق جسده الدنيوي.. الذي لا يبغاه.. تركه يفعلون به ما يحلو لهم فماذا ستفعل الكلاب و الحيوانات ببقايا الجثامين التي بلا روح .. أخذ روحه معه إلي بلاد الشموخ.. إلي الخمر اللذة للشاربين.. إلي أنهار اللبن الذي لا يتغير طعمه.. إلي الحدائق الغناء.. إلي الأرائك.. إلي تلك البلاد الكائنة فيما وراء الكون و فيما أعلي السماء و فيما تحت عرش الرحمن..