بناطيل ممزقة
عاد إلى بيته بعد أن كدّه الاعياء والطوى، سار بشعره الأغبر وبنطاله الممزق ماراً بشارع لا ترى فيه سوى البناطيل الممزقة والفساتين المختصرة، استعاد نشاطه وشعر بسعادة كبيرة حين انتبه إلى الأنظار المتجهة نحوه، لقد تحقق حلمه حين أصبح مثلهم وأزيلت الفروق التي كانت تفصل بينه وبينهم، فالجميع يرتدي بناطيل ممزقة، لكنه أدرك فيما بعد أنه يقف على الضفة المقابلة لضفة أصحاب البناطيل الممزقة ...
النافذة
بعد السنوات الطويلة التي أمضاها في الغربة، عاد والشوق يهزه لرؤية بيته المطل على نهر دجلة، ورؤية النخلة الشامخة التي كان يتكئ على جذعها ويقرأ قصص ( رماد الأقاويل )(1) و( البئر )(2) ويتغنى بقوافي ( سعاد )(3)، لقد اشتاق لطعم التمر المحشوبالجوز وإلى مضيف جده حيث كان يلتقي بأحبته ويتبادل الحديث الممتع معهم، وعندما وصل وجد أثاث البيت قد اكتسى بالغبار، بيوت العناكب في كل مكان، أكواب مكسورة وأوراق مبعثرة وكراسي ملقاة على الأرضية، وكان الظلام يخيم في المكان عدا شعاع من الضوء ينفذ من ثقب صغير في الجدار، لكنه اطمئن حين وجد النخلة تزهوبارتفاعها الباهر، نظف البيت وأصلح الجدران ومسح الغبار عن صورة جده الذي كان يرتدي عقالاً وعباءة، وفتح النافذة المطلة على النهر، عندها لم يستطع أن يتمالك نفسه، أسرع نحوالشاطئ ليغرف من مائه العذب، توجه نحومضيف جده، تلذذ بطعم القهوة العربية ثم شعر بأنه يحلق في الهواء، استرجع ذكرياته بشكل سريع، تفصد العرق من جبينه وارتجفت أطرافه، صارع ألمه واندفع نحوالنافذة، ليرى الشمس وهي تحتضر خلف التلال الواطئة ...
الهامش :*
(1) رماد الأقاويل : مجموعة قصصية للقاص العراقي فرج ياسين .(2) البئر : مجموعة قصصية للقاص العراقي جمال نوري .(3) سعاد : ديوان الشاعر العراقي رشدي عطية .
لوحة
تطلعتُ إلى اللوحة المعلقة على جدار بيت قديم هُدم جزء كبير منه وما زالوا يهدمون الجزء المتبقي منه، سماء زرقاء قاتمة يعتليها هلال حوله ثلاث نجوم، وفي الأسفل رسم مسجد بجواره بيت عُلّق على جداره (سبع عيون) يتكيء على الجدار رهط من الرجال يتناولون الطعام وفي جوارهم شيخ يجتمع حوله فتية تبدوعلى وجوههم سعادة كبيرة وهم يستمعون بلهفة إلى حديث الشيخ، يمر من أمامهم شاب عظيم البنية يمتطي صهوة فرس شهباء .. وما هي إلا لحظات حتى امتدت ذراع آلة الحفر لتهدم ما تبقى من الجدار، فسقطت اللوحة فهرعت لأجمع اشلاءها ومضيت وذهني منشغل بالتفكير : هل سأستطيع أن اعيدها كما كانت ؟ ...
لقاء
خمس سنوات مضت ولم يرها، يكاد لهيب الشوق أن يحرق فؤاده، أراد أن يضغط على نفسه لكي لا يرتكب عملاً أحمقاً ويذهب إليها، لكنه بعد طول انتظار ونفاد الصبر ذهب إليها، بدأ في طريقه إليها يتذكر ملامحها الساحرة فوجهها يبدوكالقمر ليلة البدر وعيناها كدرتين مكنونتين، ورائحتها التي تفوح منها فتنشر عبير النخيل والصنوبر، وفور وصوله هرع ليبحث عنها، لكنه لم يجد سوى عجوز شعثاء غبراء يبدوعلى وجهها أثر الكد والحزن والتعذيب، فكر في نفسه : هل يعقل أن تكون هي ؟ لا لا مستحيل . توجه إليها بنظرات مكتئبة مندهشة وسألها : من انتِ ؟، فأجابت والدمع ينهمر من عينيها : أنا حبيبتك بغداد !...