الاثنين ٦ أيلول (سبتمبر) ٢٠٢١
بقلم حسني التهامي

بنية الهايكو

الملخص:

يعد تجاور الصور الحسية ذا أهمية كبيرة في تشكيل بنية الهايكو، فمن خلاله تتولد المفارقة التي تؤدي إلى فجوة التوتر الشعري. يستخدم الشاعر أحيانا كلمة القطع "الكيرجي" في الهايكو الكلاسيكي، وما يعادلها من علامات ترقيم في الآداب الأخرى لتسهم في تشكيل عملية التجاور، عن طريق المزج بين صورتين متناقضتين وإحداث تناغم بينهما. اختلف الشعراء في استخدام علامة القطع في أوروبا والعالم العربي، فمنهم من رأي أهمية وجودها في القصيدة، حيث أنها تكسب النص لمحات جمالية وتمنح القارئ مساحة للتأمل الذهني والعمل على تفكيك بنية النص وإعادة تشكيلها من جديد، وهناك فريق آخر يرى أن تلك العلامات تمثل عبئا يعيق انسيابية النص. تنقسم بنية الهايكو إلى ثلاثة أنواع: البنية التناغمية، والمتباينة وأحادية المشهد، يمكن لشاعر الهايكو التعبير عن مشاعره وأحاسيسه بشكل غير مباشر عبر تجاور الصور الحسية في النص الشعري.

الكلمات المفتاحية: -بنية الهايكو - التجاور –كلمة القطع.

Abstract:

The juxtaposition of images is of great importance in shaping haiku structure, as it creates the paradox that leads to the poetic tension gap. The poet sometimes uses the word "kirji" in classic haiku, as well as the equivalent punctuation marks in other literatures, to contribute to the juxtaposition formation process, by mixing two contradictory images and harmonizing them. The European and the Arab poets differed in the usage of kirji; Some of them considered it vital in the poem, as it gives the text aesthetic glimpses and offers the reader a space for mental reflection and a chance to dismantle the structure of the text and reshape it again, whereas another team believes that kirji is a burden that hinders the text flow. Haiku structure or a toraiwase is divided into three types: the harmonic, the contrasting and the mono scene, the haiku poet can express his feelings indirectly through the juxtaposition of natural images in the haiku poem.
Key words: - toriawase - juxtaposition - kirji.

يُقصد ببنية الهايكو، "التوريوازة" امتزاجُ صورتين أو مشهدين في النص الشعري، بهدف إنشاء جماليات معينة، حتى لو كانت هاتان الصورتان تحملان خصائص متناقضة. ينتج عن هذه العملية ولادةُ لحظةٍ جمالية تؤدي إلى مستوى جديد من الوعي، لكنها تحتاج إلى براعة في الصياغة كي لا يقع النص في إشكالية اللبس والغموض

يؤكد مايكل ديلان ويلش أن تجاور مشهدي النص يخلق نوعا من الشرارة الناتجة عن المقارنة الداخلية أو ما نسميه بالمفارقة حال إدراك أي من الهايكست أو القارئ لهذا التجاور، تلك الشرارة هي ما تجعل النص عالقا بالذهن عصيا على النسيان، وتكون مهمة الهايكست إحداث تلك الشرارة، فهي التي تحقق أعلى درجات التوتر، وبها يصبح النص غاية في الإمتاع والدهشة والجمال. (1) يتطلب هذا النوع من المفارقة حنكة عقلية وعمقاً في البحث والتحليل والاستنباط وقدرة على تفكيك النص وإعادة تشكيل بنيته من جديد.

نادراً ما يصف شاعر الهايكو شعوره الخاص، لكن التجاور بين مشهدي نصه ينقل لنا أحاسيسه، فهو لا يقول كل شيء؛ لذا تحتاج سطوره الثلاثة الموجزة إلى قراءات متعددة وتعمق في الصور الحسية كي تنبثق الأفكار وتتفجر المعاني بشكل أكثر عمقا وثراء. أحيانًا يكون اكتشاف القارئ للمعاني العميقة وترابط مشهديات النص لحظة قراءته فوريًا وعميقًا، وأحيانا أخرى يستغرق ذلك بعضا من الوقت؛ وهذا يتوقف على مدى قدرة القارئ على استنباط ما بين السطور وبراعته في القبض على "لحظة الهايكو."
تنقسم بنية الهايكو إلى ثلاثة أقسام:

1-البنية المتناغمة:

في النصوص التي تتسم ببنية متناغمة يكون هناك نسيج متشابك بين مشاهد النص على أرض الواقع، وحتى على المستوى النفسي والوجداني؛ وعلى الرغم أحيانا من وجود تنافر ظاهري بين الصور الحسية، إلا أن للقارئ دورا مهما في إيجاد العلاقة القائمة بالفعل بين المتنافرات بالنص، لكن ربما بشكل ضمني.
يلحظ المتأمل في النص التالي لـ"يوركان" مقدار الفجوة بين الصورتين بفعل علامة القطع:
تركه اللص وراءه:

عند نافذتي
قمر(2)

تمثل النقطتان الرأسيتان وقفة تأملية في نهاية السطر الأول، قد يتساءل القارئ: يا ترى ماذا ترك اللص وراءه؟ وأين؟ من الطبيعي أن يكون الشيء الذي سقط من مسروقات اللص ليس إلا مقتنيات حسية، لكن تأتي المفارقة عندما نجد أن هذا الشيء هو "صورة القمر"! تقوم "النافذة" كمادة حسية بالربط بين مشهدي النص، ذلك لأنها المكان الأمثل الذي يتسلل منه كل من اللص والقمر، لكن شتان...شتان بين اللصين!
ولنتأمل أيضا قصيدة يوسا بوسون 1716 –1784 Yusa Buson التي تحتوي مشاهدها على تفاصيل من الطبيعة، دون تدخل من الذات الإنسانية في تركيبة النص:

أعشاب ضبابية،

مياه هادئة:
إنه المساء (3)

هناك تقارب بين صورتي "الأعشاب الضبابية" و"المياه الهادئة"؛ تقوم عملية التجاور بخلق مشهد الأمسية الهادئة والممتعة. كما أن هاتين الصورتين مأخوذتان من عنصر واحد وهو الطبيعة التي لا تعني للشاعر الياباني فقط الجمال الحسي بل تمثل له عالما مثاليا ومصدرا أساسيا للإلهام الروحي. وهذا الإحساس الروحي نابع من الجمال الطبيعي والوعي بالفراغ الذي "يبعث قلب الشفقة"؛ ففي حالة التأمل والسكون يتحقق الكمال عبر التفاصيل الكونية الدقيقة.

في ديوانها "نتقاسم المدى" لا تكترث الشاعرة المغربية مريم الحلو كثيرا بعلامات القطع لتحقيق المجاورة بين مشهدي الصورة:
هبة ريح
إلى فراشات حمراء
تتحول شقائق النعمان(ص4) (4)

يتكون النص من مشهدين متناغمين، الأول: (هبة ريح)، والآخر تحول زهرة شقائق النعمان مع هفهفات الريح لتصبح على شكل فراشات حمراء، هنا ينقل النص حديث الطبيعة للطبيعة عبر لحظة جمالية غاية في البساطة والجمال. تترك الهايكست تفاصيل الكون والطبيعة تتحدث عن نفسها منتهجة بذلك مقولة باشو"إذا أردت أن تتعرف على الصنوبر، فاذهب إليه"، يبدو المشهدان طبيعيين، حتى عند التعبير عن المشاعر تجاه الزهرة والإحساس بجمالها الطبيعي، ذلك التوحد مع التفاصيل الكونية والتجاوب مع نداء الطبيعة يعكس حالة الكشف والصفاء الروحي.

 2-التوريوازة ذات البنية المتنافرة ("صدام بين شيئين"):

في هذه النوع من التجاور يضع الهايجن صورتين متنافرتين تماما جنبًا إلى جنب بقصد إحداث نوع من المفارقة التي تتولد من فجوة التوتر الشعري، كشرط أساسي للتجربة الفنية أو الرؤيا الشعرية. يأتي الهايكست بأشياء غير متجانسة أو بألفاظ بينها تضاد، ويطرحها في سياق متناغم ليقدم رؤىً جديدة للعالم تتشكل ليس فقط من البناء اللغوي، لكن أيضا من تصوراتنا للأشياء. يكون للقارئ دور مهم في ملء الفجوات بالنص الشعري، وبالتالي تحدث فجوة التوتر الشعري من المفارقة الناتجة عن الانزياحات اللفظية، أو من تجاور مشهدين متنافرين بغية تناغمهما، وإحداث نوع من الدهشة. وليس أدل على هذا النوع من التوريوازة من نص باشو الشهير "البركة":

بركة قديمة
ضفدعة تقفز ...
صوت الماء (5)

أحدثت تلك القصيدة ثورة في بنية الهايكو كفن رفيع لا يأبه بالتنمق اللغوي والأساليب البلاغية الصريحة. تخلق علامة الحذف (...) في السطر الثاني انسجاما بين صورتين متنافرتين. ربما يسأل القارئ: ما علاقة "البركة القديمة" بـ"قفزة الضفدع ... صوت الماء"؟ من الواضح أنه ليس ثمة صلة بين الصورتين، على هذا الأساس تبدو بنية النص مفككة، لذا يتعين على القارئ تشكيلها من جديد وتحقيق نوع من التماسك بين الأجزاء غير المترابطة. لكن كيف يتم ذلك؟ هنا يأتي دور الصورة الذهنية التي تنشأ في مخيلة المتلقي عند تأمل النص وعند سماع صوت الضفدع وهو يقفز في الماء، حتما ستظهر بركة قديمة في الذهن. ومن هذا المنطلق يمكننا الإشارة إلى ما يسمى "فينومينولوجيا" القارئ؛ بمعنى أن الهايكو نص غير مكتمل يعتمد على مخيلة المتلقي وثقافته بشكل أساسي للمشاركة في تأسيس جماليات النص. هناك نوع من التلاقي بين مقصد المبدع من كتابة النص وخبرة القارئ ومعرفته لصنع عالم الهايكو.
في نص آخر للشاعر ياماغوتشي سيشيYamaguchi Seishi , (1901 –1994):

عشب الصيف:
عجلات القاطرة
تتوقف (6)

هنا نرى التباين القوي بين عنصرين أحدهما طبيعي (العشب) والآخر بشري (القاطرة). وعلى الرغم من أن القصيدة تتبع النمط الكلاسيكي الذي يمجد الطبيعة، فإن الشاعر يسلط بؤرة الضوء على الآلة وهي منتج بشري، مما ينتقص من جمال العشب، ومن هنا تأتي المفارقة.

نص آخر للشاعر الأمريكي وليام كولين جونيور
اكتمال القمر
ضباب همساتي
على قرطها الفضي (7)

 وليام كولين جونيور ، Frogpond ، XXIX: 1

تنجحُ القصيدةُ في استدعاء مشهدٍ رومانسي شفيفٍ؛ في ليلةٍ مُقمرة يلتقي العاشقان، فيبدو ضباب أنفاسِ المُحب على قرطٍ فضي لامع في أذن الحبيبة. تحدثُ المفارقة في التجاورِ بين غريمين، أحدهما عالٍ في السماء، والآخر على الأرض . ينعكس ضوء القمر على القرط الفضي للحبيبة، فيما تشكلُ أنفاس العاشق هالةً ضبابيةً على القرط اللامع. وقد وُفق الهايكيست في استخدام عنصر الفضة الناصعِ بطبيعته؛ وبذلك تزداد درجةُ البريق مع اكتمال القمر وبهاء الوجه النوراني للحبيبة. يحدثُ التجاورُ بين صورتين تعكس تفاصيلُهما إحساسا بالألُفة وتخلق توافقا دقيقا ومزيجا من الحواس، عندما تنبعثُ شفافيةُ الهمس من نسيج الضبابِ الرقيق.
يفتقد النص تماما لعنصر التنحي، حيث أن الهايجن لم يتركِ الأشياءَ تتحدثُ عن ذاتِها، ولم تكن الطبيعةُ هي العنصرَ الأساسي ، على عكس ذلك، نجدُ الشاعر في قلب الحدث؛ فهمساته الرقيقة أحدثتْ هالةً ضبابية على قرط الحبيبة، وكان دور القمر - الذي يمثل العنصر الطبيعي – ثانوياً، متمثلاً في إضفاءِ الملمحِ العاطفي على الحدث الرئيس، وبهذا يمكننا أن ننسب هذا النص إلى نوع الهايكو الهجين الذي يمتزج فيه عنصرا الطبيعة بتفاصيلها اللامتناهية والعنصر البشري بما يختلج في نفسه من مشاعر وأحاسيس غير مباشرة.

خلال زيارته الأولى لمنزله بعد موت أُمه، تأثر باشو كثيرا عندما أظهر له شقيقه خصلة من شعرها الأبيض فكتب هذا النص:

إذا خبأتها في يدي،
هل ستخفيها الدموع الساخنة؟
صقيع الخريف (8)

ينتمي هذا النص إلى الهايكو الهجين، حيث يختلط العنصر الطبيعي مع البشري وتثير المادة الحسية دفقات متباينة من المشاعر والأحاسيس لدى المتلقي؛ واضح أن الموقف مثخن بالجراح، وقد أشعلت رؤية خصلة الشعر فورة الحزن في قلب الشاعر، لكن ما أحدث المفارقة هنا هو ذلك التجاور بين الدموع الساخنة والصقيع.

في الهايكو الحداثي يلفت انتباهنا نص للشاعرة الأمريكية كارولين هول Carolen Hall:

"شيء ما"
في صورة "المامجرام"
ليلة بلا نجوم (14) (9)

 كارولين هول ، عش مالك الحزين ، المجلد. 14 ،2012

يشكل النص بنية حداثية، حيث لا يعتمد على علامة القطع لإظهار تجاور المشهدين الذين يحملان نوعا من التناقض بين الطبيعة والكينونة البشرية وما يرتبط بها من تفاصيل؛ فيؤدي ذلك إلى تولّد المشاعر الإنسانية. ينتج عن بنية النصوص القائمة على التجاور الذي يعكس اغتراب الذات عن الطبيعة معاني جديدة ومبتكرة؛ فعلى الرغم من أن عبارة" ليلة بلا نجوم" مستقاة من الطبيعة، وتوحي بالموضوعية والتنحي في تناول المشهد، إلا أنها تعكس حالة القلق وعدم اليقين أو الإحساس باقتراب الموت إثر مرض الشاعرة بسرطان الثدي، وزاد من حالة عدم اليقين ذكر عبارة "شيء ما" التي تفتح مجال التأويل لأشياء مجهولة أمام الهايكست والقارئ معا، فثمة علاقة بين حالة الشاعرة الصحية والليلة الخالية من النجوم، فمع كل آلامها لم تعتمد الهايكست على الغنائية بتأجيج المشاعر وإهمال عنصر الطبيعة.

فيما يعتمد الشاعر العراقي عبدالكريم كاصد في ديوان "شجرة عند الباب" تقنية التجاور في كثير من نصوصه، أحيانا باستخدام علامة القطع، وأحيانا أخرى بدونها مع الإبقاء على عملية القطع ذاتها:

ينقطع المطر
صرخةٌ-
يا للطائر السفيه! (10)

يصف المشهد الأول توقف المطر وسكون حركته، ثم تتبع هذه الهدأة صرخة في المشهد التالي، وكان من المفترض أن ينتهي النص في السطر الثاني، لكن وضع علامة القطع (-) جعلت القارئ يتساءل في دهشة: يا ترى صرخة من؟! ويأتي الجواب في السطر الأخير لنتيقّن أنها للطائر السفيه. يُظهر الهايجن وجهين متقابلين للطبيعة تارة في هدوئها وفتنتها من خلال مشهد المطر الرومنسي الحالم، وتارة أخرى في عبوسها وتجهمها عبر صوت هذا الطائر الأحمق المفزع المريع.

 3- إيچيبوتسوجيتاته، ichibutsu jitate 一 物 仕 立 て : البنية أحادية المشهد

يُكتب الهايكو الياباني على شكل سطر واحد، بينما يكون في اللغات الأخرى-ومنها العربية- على ثلاثة أسطر، وتتكون معظم النصوص من صورتين أو صورة وحدث، والاستثناء في هذه الحالة هو "هايكو الصورة الواحدة" الذي يتضمن فكرة أو يصور حدثا أو لحظة من الحياة اليومية. في هذه الحالة ليس من الضرورة استخدام علامة قطع، كي تكون القصيدة جملة بسيطة تنساب جزئياتها وتتناغم لتكوين المشهد الأحادي. وطبيعي أن يستخدم الهايكست المبتدئ هذا النمط لسهولته وبُعده عن تركيب الصور حتى إذا ما ثقلت تجربته كان بإمكانه تجريب التوريوازة ثنائية البنية التي تحتاج إلى براعة في التركيب والصياغة، وهذا لا يعني أن الـ"إيجيبوتسوجيتاته" أقل في القيمة الجمالية عن القصائد التي تحتوي على صورتين متجاورتين.

أول ما يسقط من الثلج
يكفي أن يحني
أوراق النرجس
ماتسو باشو
(مجلة الفيصل صوت الماء)
...
شجرة البرقوق الأبيض
كانت منذ زمن طويل
خارج السياج
كوبياشي إيسا (16) (11)

يتكون كلا النصين من مشهد أحادي؛ في قصيدة باشو نرى أثر أُولى ندفِ الثلج المتساقطة وهي تتسبب في انحناءة أوراق النرجس في مشهد يعكس جمال الطبيعة الفاتن، دون تدخل من الشاعر بانفعالات مباشرة تطغى على المشهد الحسي. كذلك يتناول نص إيسا فقط شجرة البرقوق الأبيض خارج الأسوار؛ يرمز الشاعر إلى جمال الطبيعة البِكر وهي في منأىً عن العالم البشري البائس، قبل أن يمتد إليها فيبدد روح هذا الجمال الساحر!

علامات القطع (الكيرجيKireji):

الكيرجي هي كلمة قطع نحوية مكتوبة ومنطوقة في آن واحد في الهايكو الياباني، وليس لها معادل لفظي في أي من اللغات الأخرى، حيث تستخدم -عوضا عن ذلك- علامات الترقيم. تقسّم الكيرجي النص إلى جزأين إيقاعيين، أحدهما يتكون من اثني عشر والآخر من خمسة مقاطع، وتشير إلى اكتمال الجملة وأيضا إلى وقفة إيقاعية، وتضفي مسحة عاطفية خاصة على الخمسة مقاطع الأولى أو الاثنتي عشر الأخيرة، وغالبا ما تقوم بالربط بين مشهدي النص وإيجاد علاقة بينهما. ومع ذلك يرى باشو أن عملية القطع ذاتها أهم من كلمات القطع، حيث تلعب دورا أساسيا في تركيبة النص، وترتقي بالجملة النثرية العادية إلى مرتبة الشعر؛ ويزداد المعنى جمالا وعمقا وتناغما.

الهايكو الأوروبي:

يُعدّ استخدام علامات القطع في الهايكو أمرا مختلفا عليه في أوروبا وفي العالم العربي؛ فبعض المترجمين المختصين الذين نقلوا تجربة الهايكو الياباني عن لغته الأم إلى الإنجليزية مثل هارولد جي هندرسون Harold Gould Henderson (1889–1974) وآر إتش بليث Reginald Horace Blyth (1898 –1964)، قد وضعوا تلك العلامات في ترجماتهم، بينما لم يكترث بها شعراء الحركة التصويرية في أميركا؛ فقد احتوت معظم نصوصهم على عدد قليل من علامات القطع أو كادت تخلو منها، لننظر مثلا إلى قصيدة "في محطة المترو" لإزرا باوندIzra Bound 1885-1972 التي تعد محاولة أولى أقرب إلى الهايكو:

"طيفُ هذه الوجوهِ في الزحام:
بَتَلاتُ زهرِ على غُصنٍ أسود مبتل."(21)

استخدم باوند نقطتين رأسيتين في نهاية السطر الأول لتحقيق تقنية التجاور بين صورتين متباينتين في هذا النص المختزل. يُشبِّه الشاعر وجوه الناس وهي تمشي على رصيف محطة المترو في ليلة مطيرة ببتلات الزهرة المبتلة الأغصان. من خلال الجمع بين الصورتين، تنشأ العلاقة بين حياة المدينة المليئة بالزحام والضجيج والعالم الطبيعي الهادئ والساحر.

بعد باوند تزعمت الحركة التصويرية الشاعرة آمي لويل Amy Lowell 1874 –1925، وقدمت نصوصا لم تلتزم فيها كثيرا بالشكل الكلاسيكي للهايكو:

طاووس ذهبي
تحت أشجار الكرز المزهرة
لكن ليس ثمة قارب
في البحر الممتد (2) (13)

كذلك مضت الشاعرة ه.دويليتل Hilda "H.D." Doolittle 1886-1961 على نهج إزرا باوند وآمي لويل وغيرهما من شعراء الحركة التصويرية:

لامعة
أيتها الوردة، وحيدة في الصخر،
صلدة مثل حبات البرد(3) (14)

يذهب بعض النقاد وعلى رأسهم كور فان دن هوفالCor van den Heuval إلى أن شعراء الحركة التصويرية- على مدى مراحلها الثلاث- لم يكن لديهم وعي حقيقي بالهايكو، ذلك لأنه لم تُتح لهم ترجمات كافية أو تحليلات نقدية عميقة تمكنهم من الوصول إلى جوهر الهايكو، ولم يكن لديهم القدرة على النفاذ إلى روح هذا الفن.(4). وعلى الأرجح أن عدم التزام هؤلاء الشعراء بخصائص الهايكو أو بالبيان الذي أصدره إزرا باوند في بداية مشوار الحركة والذي يدعو إلى التركيز على الصورة الشعرية والموسيقى الداخلية المتولدة من عمق المعنى والبعد عن التنمق اللغوي، يعكس رغبة الشعراء التصويريين في التحرر وكتابة شكل إبداعي خاص ومتميز يتسم بالاختزال والتكثيف، ويسمح لهم بالتعبير عن تجاربهم الخاصة ومشاعرهم الذاتية التي يرفض الهايكو التعبير عنها عبر الكلمات المباشرة، ومن هنا كان تميزهم وتأثيرهم على معظم شعراء القرن العشرين في أوربا.

بدأ ر.ه.بليث RH Blyth بنشر مجموعته المكونة من أربعة مجلدات، حيث استخدم في ترجمته علامات القطع، نورد من تلك النصوص نصا للشاعر الياباني سورا Sora:
النجوم في البركة:
مرة أخرى زخات الشتاء
تعكر صفو الماء.
(ترجمة بليث، هايكو 1187) (15)

إلى جانب الكتابة بالأحرف الكبيرة، كان بليث يميل إلى استخدام النقطتين الرأسيتين وإلى الفاصلة أو الفاصلة المنقوطة للفصل بين مشهدي الهايكو.

وفي هذا الشأن لم يختلف الشاعر الأمريكي ربيتشارد رايت Richard Wright - الذي كتب الكثير من النصوص أثناء إقامته في فرنسا في الفترة ما بين 1958- -1960 في استخدامه لعلامات القطع عن بليث:

تاركاً عشه،
يغطسُ العصفور لثانية،
ثم يفرد جناحيه.

ينجح هذا النص البسيط الموجز في اقتناص لحظة جمالية من الطبيعة في مشهد أحادي يقوم فيه الطائر بثلاث حركات: الإقلاع عن العش ثم النزول إلى الماء، وأخيرا فتح جناحيه للتحليق. استخدم الهايكست علامة قطع في السطر الأول والثاني ليترك لنا المجال لتتبع حركات الطائر وتأمل بهاء عالمه الطليق. (16)

تتناول المحررة ريجينا وينريتش Regina Weinreich في مقدمتها لكتاب "الهايكوات" تجربة جاك كيرواك مؤكدة اختلاف هذا الشاعر عن سابقيه من الشعراء الأمريكيين في فهمه لروح الهايكو: "كان كيرواك على دراية جيدة بالهايكو... لكنه تحرر ومارس نوعًا من الرخصة الشعرية من أجل التجريب"؛ تجمع تجربة جاك كيرواك بين الأصالة من حيث الالتزام بالبساطة والابتعاد عن الخدع الشعرية، والميل إلى التحرر في تناول موضوعات الهايكو وأيضا في تشكيل بنية النص:
(17)
تحت الشمس
أجنحة الفراشة
مثل نافذة الكنيسة (نص آخر)

جاك كيرواك (كتاب هايكوس 62) (18)
Jack Kerouac (Book of Haikus 62)

الهايكو العربي:

لا يختلف الهايكو العربي عن مثيله في أوروبا وأمريكا، حيث لا يمكن تطبيق علامة القطع المتعلقة بالنموذج الياباني الكلاسيكي على نصوص الهايكو العربية؛ فالـ ""ya و والـ kana"" علامتا قطع لفظيتان في المقام الأول، وليس في العربية ما يعادلهما، "غالبًا ما تشبه الـYa النقطتين الرأسييتين (:) إلى حد كبير، ولكن ليس دائمًا؛ بينما تعادل الـ kana، التي تُستخدم عادةً في نهاية النص، علامة الحذف (...) أو استفهام أو تعجب. في تجربة الهايكو العربي.

يكاد يخلو ديوان "جنازات الدُمى" للشاعر اللبناني ربيع الأتات من علامات القطع، على الرغم من أن الهايكست اتّبع التوريوازة ثنائية المشهد في معظم النصوص:
تحطم الاكواريوم
الأسماك تقتات
زجاجا مهشما
(جنازة الدمي 24) (19)

يحتوى السطر الأول على المشهد الأمامي وهو المكان: الأكواروم المحطم، ثم ينتقل النص تلقائيا إلى السطرين التاليين دون قطع مطلقا. هنا يؤمن الشاعر بمقولة باشو أن الأهمية تكمن في عملية القطع وليس في العلامة ذاتها، فالقارئ يمكنه تركيب بنية النص وفك شفراته. وبما أن الهايكو يتسم بخاصية الاختزال التي تزيد من تكثيف المعنى، نرى أنه لا ضرورة لذكر كلمة "مهشم" في السطر الأخير، حيث تشير إلي دلالة هذا المعنى كلمة "تحطم" في بداية السطر الأول. في ذات الديوان تمضي بنية معظم النصوص على وتيرة واحدة ولا تختلف كثيرا عن النص أعلاه:
يوم الصيد
بحذر يحط الدوري
على ظله (20)

بدأ الشاعر نصه بـ"كيغو ضمني"، تلك الإشارة الموسمية تعني مدى أهمية الطبيعة ومدى ارتباط الإنسان بها، في الواقع تمثل الطبيعة لشاعر الهايكو مصدرا للطمأنينة والهدوء والسمو الروحي. يسلط ربيع الأتات بؤرة عدسته على الحدث حين يحط الدوري على ظله بشيء من الحذر، ولا نكاد نسمع صوت الذات في مشهدي النص المأخوذين من تفاصيل الطبيعة وحركة كائناتها، (جنازات الدمى ص.25)

أنواع الكيرجي Kirji
يوجد حوالي ثمانية عشر نوعا للكيرجي، لكن الأكثر شيوعا نوعان، هما الـ "Ya" والـKana :
أولا Ya (や):

توضع كلمة القطع "Ya" غالبا في نهاية السطر الأول، كوقفة نحوية وإيقاعية تعطي مساحة لالتقاط الأنفاس والتأمل، وتهيئ القارئ للانتقال من المشهد الأمامي إلى "الحدث" الأساسي بشكل سلس، ولهذه الكلمة أشكالٌ كالفاصلة (,) والفاصلة المنقوطة (؛) والنقطتان الرأسيتان(:) والشرطة (-) وعلامات الحذف (...)، والمتأمل في نصوص الشعراء اليابانيين الأوائل يلحظ وفرة علامات القطع، فكل واحدة منها تسهم في وضع جمالية فنية معينة داخل القصيدة:
عظام مكسوة بريش،
أفكر في الريح التي
ستخترق جسدي
باشو
مجلة الفيصل (32) (21)
...

تمثل تجربة الشاعر المغربي سامح درويش في ديوانه "خنافس مضيئة" منطلقا نحو الكتابة الحداثية شكلا ومضمونا. فمع الوعي بخصائص الهايكو الكلاسيكي يتخذ الهايكست مسارا مغايرا، وينعكس ذلك على أسلوبه في تشكيل بنية قصائده المختزلة والتي غالبا ما تجمع بين الخاص والكوني، في أحيان كثيرة يمزج الهايجن هذين العنصرين عن طريق اشتراكهما في فعل الحدث، ولا يلتزم بالطريقة الكلاسيكية التي تقضي بأن الهايكو شعور إنساني تجاه الطبيعة، على عكس ذلك تتأثر الطبيعة أحيانا بالإنسان وتتجاوب مع مشاعره وعالمه الداخلي، فينتج عن هذه التقنية أحداث مفاجئة تحدث المفارقة، وهي عنصر أساسي للدهشة:
بدغْدغَاتِ ظِلّ يدِي،
تطِيرُ بهْجةً
سمَكاتُ الوَادي. (22)

نلاحظ مدى التماهي بين عنصري الطبيعة والإنسان حد تأثر الطبيعة ذاتها بالتفاصيل البشرية، فسمكة الوادي بشكل مجازي تبتهج عندما تستشعر دغدغات ظل اليد، وتلك الصورة غير مألوفة في الأنماط التقليدية. وكعادة الشاعر في معظم نصوص الديوان ينهي السطر الأول بعلامة قطع، وهي غالبا ما تكون فاصلة تمنح القارئ مساحة للتأمل والتأويل قبل أن يعرج على الحدث في السطرين التاليين.

حجَرة الوادِي الملْساءْ،
ما صقَلَها
غيْرُ حنَان الماءْ. (23)

 2-الكانا か な 哉 Kana

عادة ما تكون الكانا في نهاية السطر الأخير، وهي بمثابة تنهيدة أو إحساس مفاجئ بالدهشة نتيجة حدوث اللا متوقع. وغالبا ما تأتي في صورة علامة تعجب أو استفهام نهاية السطر الثالث، وتشير إلى مشاعر الفرح، الحزن، الذهول، التعجب، الفزع ... أو إلى أي نوع من المشاعر الإنسانية.

في ديوان "تهمس البوكنفيليا مثقلة بأزهارها الحمراء" الذي صدر ضمن الأعمال الشعرية الجزء الأول للشاعر محمد الأسعد تحتوي بعض من النصوص على علامة القطع "الكانا"، علامة تعجب أو استفهام في عدد قليل من النصوص، وهذا يعني أن بنية معظم النصوص تأملية أحادية المشهد، تتسم بالنفس الهادئ وتنتهي بقفلة انسيابية توقظ القارئ كالنور المفاجئ وتجعله قادرا على اكتشاف المعاني الخبيئة بالنص وتؤدي في النهاية إلى الإمتاع والدهشة:

أتساءل
في أي حدائق مهجورة
تتساقط أزهار الجاردينيا؟(152) (24)

في هذا النص الموجز يمضي الهايكست مهموما بأشجار الجاردينيا التي ترمز ربما للنفوس المعذبة في غربتها، ومتسائلا في ذات الآن عن الحدائق المهجورة التي تشير إلى عالم الغربة، حيث تكمن العذابات والآلام. يختتم الهايكست نصه بعلامة استفهام تدعو إلى التأمل والتساؤل والحيرة.

تستخدم الشاعرة التونسية عفراء قمير طالبي "الكانا" في نص بديوانها " لا أثر للرمل" الذي يكاد يخلو من علامات القطع:
في لمعة السكين،
دودة التفاح
تتأهب للخروج! (25)

تصور الشاعرة مشهدا متكاملا غير مبني على تقنية التجاور، وتنجح في جعل خيوط نصوصها تنسرب في انسيابية دون توقف كالماء السيال من النهر في قصائد أحادية المشهد، مثال ذلك:
رعشة أخيرة
السمكة في قعر الدلو
مغطاة بالطحالب
(لا أثر للرمل ص123) (26)

مختتم:

يعد تجاور الصور شيئا أساسيا في تركيبة الهايكو الكلاسيكي، وعلى الرغم من وجود تنافر بينها، ينشا نوع من التناغم بين هذه الصور نتيجة التأمل الذي ينتج عنه حالة من الوعي داخل ذهن المتلقي، كما يؤدي هذا التجاور إلى المفارقة التي هي بمثابة الشرارة الإبداعية المؤدية إلى الدهشة. تُسهم كلمة القطع في الهايكو الياباني – وما يعادلها في الآداب واللغات الأخرى من علامات ترقيم- في تحقيق عملية التجاور، لكنها ليست أساسية كعملية القطع ذاتها التي ترتقي بالجملة النثرية إلى جماليات الشعر. ولكي يتمكن القارئ من القيام بربط أجزاء النص وسبر أغواره، عليه أن يقرأ ما بين السطور وينفذ إلى أعماق المعنى. كما تسهم عملية التجاور في إبراز أحاسيس الشاعر؛ فمن خلال الصور الحسية التي تلتقطها عدسة الشاعر يمكنه وصف شعوره الخاص وما يعتلج بداخله من مشاعر عميقة ومتدفقة.

المراجع:

1- https://poetrysociety.org.nz/affiliates/haiku-nz/haiku-poems-articles/archived- articles/becoming-a-haiku-poet
2-Ira B. Nadel, The Cambridge Introduction to Ezra Pound Cambridge University Press,2007
2- Clive Bloom,1900 – 1929 Literature and Culture in Modern Britain: Volume 1, Routledge,2014:P.46
3- Clive Bloom,1900 – 1929 Literature and Culture in Modern Britain: Volume 1, Routledge,2014:P.47
(4) (Cor van den Heuval,Haiku Anthology, W. W. Norton Company ,third edition, 2000,P.24)
4-Alan Watts,the way of Zen, Knopf Doubleday Publishing Group,2016
(5)Judy Halebsky, Haiku in West Coast Poetics: What Kigo? Faculty Authored Books and Book Contributions. 132,2014
(6)Cor van den Heuvel, Nanae Tamura ,Baseball Haiku: American and Japanese Haiku and Senyru on Baseball,W.W.Norton& company New York. London, 2007,P.156
(6)Bill Ryan, The Influence of Buddha’s Teachings on the Haiku of Jack Kerouac,Global Haiku(6)Millikin University, Spring 2009
(7) Carmen Sterba, Thoughts on Juxtaposition, Simply Haiku: A Quarterly Journal of Japanese Short Form Poetry, Autumn 2007, vol 5 no 3
(8) Jane Hirshfield, Ten Windows: How Great Poems Transform the World, Knopf Doubleday Publishing Group,2015.
(9)Heron’s Nest, Volume XIV, Number 3: September, 2012.
10-عبدالكريم كاصد، دار أروقة، شجرة عند الباب،مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر- القاهرة 2021 ص 23.
(11)ترجمة حسن الصهلبي، صوت الماء- مختارات لأبرز شعراء الهايكو الياباني، الرياض، 1437ه،
12-Ira B. Nadel, The Cambridge Introduction to Ezra Pound Cambridge University Press,2007
13- Clive Bloom,1900 – 1929 Literature and Culture in Modern Britain: Volume 1, Routledge,2014:P.46
14- Clive Bloom,1900 – 1929 Literature and Culture in Modern Britain: Volume 1, Routledge,2014:P.47
(15)-Alan Watts,the way of Zen, Knopf Doubleday Publishing Group,2016
16- Richard Right, (Haiku: The Last Poems of an American Icon) Simon and Schuster,, 2001
Jack Kerouac (Book of Haikus 62)
(17)Bill Ryan, The Influence of Buddha’s Teachings on the Haiku of Jack Kerouac,Global Haiku,Millikin University, Spring 2009
18- Kerouac, Jack. Book of Haikus, Weinreich, Regina (ed.), N.Y.: Penguin, 2003.
+2019-ربيع الأتات، جنازات الدمى، دار النهضة العربية، بيروت،2016، ص 12/24
(19-20)Bill Ryan, The Influence of Buddha’s Teachings on the Haiku of Jack Kerouac,Global Haiku(18)Millikin University, Spring 2009
(19-20)- ربيع الأتات، جنازات الدمى،منشورات دار النهضة العربية، 2016، ص 24 (21)حسن الصلهبي، كتاب الفيصل- صوت الماء –مختارات لأبرز شعراء الهايكو الياباني ، دار الفيصل الثقافية-الرياض ،رقم 11 هدية مع العددين 477/ 478 ص36
(24)محمد الأسعد، الأعمال الشعرية-الجزء الأول، كتاب مرايا الشعري، دار الإسلام للطباعة والنشر، 2009، ص 152.
(25)عفراء قمير،لا أثر على الرمل لأعود، دار فضاءات، عمان،2016،ص19
(26)عفراء قمير،لا أثر على الرمل لأعود، دار فضاءات، عمان،2016،ص123


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى