الخميس ٤ تموز (يوليو) ٢٠٢٤

تآكل الردع

محمود النادي

منذ بداية الآلفية الثانية، خاض العدو عدة حروب ضد المقاومة سواء في فلسطين أو لبنان، وأثبت تكرارها وازدياد حدتها ووحشيتها. أن العدو كان يفشل في كل مرة، فلو أنه انتصر في الحرب الأولى أو حتى حقق جزءًا استراتيجيًا من أهدافه لما أعاد عملياته في نفس المناطق بوتيرة أعلى وبحدة متصاعدة.

اليوم سأستعين بأمثلة من الواقع لتبين أن الردع تآكل وازداد في التآكل في كل حرب خاضها العدو ضد المقاومة في أي مكان، وأنه بغض النظر عن الخسائر المادية والبشرية الكبيرة التي تكبدها شعبنا دائماً، خرجت المقاومة في كل مرة أكثر إصرارًا وقوة من سابقاتها، وبذلك كانت تبطل كل تأثيرات هذه الحروب وتجعلها لحظية تصلح للاستهلاك الداخلي عند العدو، وليٌصدر كل رئيس حكومة نفسه على أنه المنقذ وأبو الردع، ليظهر مع الوقت عكس ذلك تمامًا.

لنبدأ بمخيم جنين، مخيم صغير في الضفة الغربية المتحكم بها من قبل العدو. هذه المنطقة المقسمة لكانتونات، والتي يصول العدو ويجول بها بفضل اتفاقيات وتنسيقات تعطيه كل الأريحية ليعربد دون مسائلة. شن العدو عليه حملة جنونية في بداية الألفية الثانية، ودمر وقتل عددًا من القادة والمقاتلين الموجودين في المخيم، ظنًا منه أن هذا المخيم الصغير لن يعود إلى الواجهة مجددًا. لكنه اضطر بعد قرابة 21 عامًا ليعود إلى نقطة البداية، بعد أن ساهم تطرفه في إنتاج جيل أكثر حبًا للثأر وأكثر خطرًا وتنظيمًا من سلفه.

حتى بعد هذه العملية الثانية التي دمرت أجزاء كبيرة من المخيم الصغير، أصبحت المقاومة أقوى وأكثر نجاعة. والعملية الأخيرة التي أسفرت عن قتل وجرح ما يقارب 18 جنديًا، استٌخدمت بها طرقًا جديدة ومبتكرة، تثبت أن أي من أهداف العدو لن يتحقق بالقوة، بل أن المقاومة ستنهض مجددًا بغضون أسابيع بعد انسحاب العدو من أي منطقة، ولتعود لما اعتادت عليه من عمليات واستهدافات لجنود العدو.

وفي جنوب لبنان نرى أنموذجًا مشابهًا، رغم تفاوت موازين القوى بين فلسطين المحتلة المحاصرة وبين جنوب لبنان والمقاومة اللبنانية التي تملك كل الأريحية لتطوير قدراتها، من خلال امتلاكها منافذ بحرية وبرية تتيح لها استقبال كل صنوف الدعم. الا أن العدو أمعن في التدمير في حرب تموز، وقتل الآلاف ودمر نصف لبنان من أجل جنديين تم اختطافهم، ليرسخ عقيدة الخوف في قلوب اللبنانيين، ويعيد الردع بمبدأ مالا يسترد بالقوة، يسترد بمزيد من القوة.

إلا أن المقاومة خرجت أقوى من الحرب، وها هو العدو بعد 17 عامًا من تموز 2006، يواجه خطرًا وجوديًا في الشمال منذ 9 أشهر، وليس لديه الجرأة لاتخاذ قرار الحرب، رغم أن الجليل الأعلى تحول إلى هدف يومي للمقاومة، ومدنًا كـ"كريات شمونة" أصبحت تشعر أنها خارج حسابات نتنياهو السياسية ، حيث يتركها لمصيرها تحت ضربات المقاومة، التي خاضت حرب عقول قبل أن تكون حرب عسكرية، من خلال الاستنزاف التدريجي للعدو، وتدميرها لكل عيون الرصد على طول الحدود، من أبراج وكاميرات مراقبة، وصولًا إلى قاعدة "ميرون" التي باتت وجهة مفضلة للطائرات المسيرة، التي تأتيها من كل حدب وصوب، وتٌدمر ما تٌدمر، وسط صمت وتعتيم مطبق من طرف العدو.

وكل ما حاول العدو التهديد، أسكتته المقاومة بأسلوبها، ولعل فيديو "الهدهد" الذي قدم للعالم جزءًا من ما تخبأه المقاومة للعدو، أكبر تهديد وتطور في مسار الحرب طيلة العشر شهور الماضية.

فالفيديو أظهر حيفا كاملة، بما يشمل خليجها ومناطق حيوية في الكريوت، ومواقع عسكرية بتفاصيل دقيقة، لا يبدو أنها نتيجة طلعة واحدة، بل عدة طلعات نتج عنها تسجيلات طويلة، اقتُصَّ منها هذه المقدمة التي تم نشرها، والتي تزيد من مخاوف الجبهة الداخلية والفشل الاستخباري.

كما أن تصريحات الأمين العام حملت نبرة جديدة من التصعيد، كان ملخصها أن المعادلة تغيرت، صحيح أن العدو قادر على تدمير جنوب لبنان، لكننا لسنا في عام 2006، كما سيدمرون سندمر، ولعل المناطق التي ظهرت في الفيديو بعضًا من بنك أهداف المقاومة المحتملة في حال التصعيد المفتوح. ولم يكتفِ بذلك، بل طالت التهديدات قبرص، التي تبعد 200 ميلاً عن لبنان، في حالة التواطؤ مع العدو.

والقيادة العسكرية للعدو حذرت من عملية واسعة في لبنان كونها ستجر الويلات لإسرائيل وباتت عودة المقاومة خلف الليطاني حلم بعد ماكان العدو يصول ويجول في هذه المنطقة قبل 16 عام فقط ، ولكنهم يدركون أن المعادلة تغيرت وأن السهل الساحلي الذي يتمركز فيه معظم سكان الكيان سيكون تحت النار ومن دون أسقف مما سيشل دولة الكيان تماماً في أي مواجهة.

وأخيراً، غزة وحروبها المتكررة، التي يميزها أن كل حرب كانت أسوأ من سابقاتها، واستخدم فيها العدو أسلحة أكثر، ومدتها ازدادت، ولكنها لم تحقق أي هدف. فالحروب المتكررة في 2006، 2008، 2012، 2014، 2018، 2021، وطوفان الأقصى، كانت شاهدة على إجرام العدو ووحشيته في غزة، إلا أنها لم تغير الوضع قيد أنملة، وإلا لم يكونوا ليخفقوا في 7 أكتوبر.

بعد تبيين كل هذا، يحق للفلسطيني الأمل المنطقي بالتحرير، رغم الخسائر الفادحة، لأن العدو كل مرة يخوض حربًا أعتى من سابقاتها، ويستخدم فيها قوة أكبر، لمدة أطول، بخسائر أكبر، ما يضع ضغطًا مهولًا على قياداته العسكرية والسياسية.

فعسكريًا، الخسارة بعد أسبوع من استخدام لواء أقل وطأة من أختها بعد 9 أشهر، وباستخدام 9 فرق عسكرية، وقس على ذلك كافة الجوانب، من اقتصادية ومادية وبشرية.

واليوم في طوفان الأقصى، يصنع العدو جيلًا أقسى وأصلب من كل الأجيال السابقة. فإيقان الفلسطيني بحقيقة أنه مستهدف في كل الحالات، بل أكثر، إن كان أعزل سيدفعه لخيار المقاومة بشكل أكبر، ويزيد من إيمانه بفكرتها. إذاً، الفلسطيني يتحمل هذه الضغوطات ليدافع عن عرضه وأهله، ويطالب بالثأر بشدة أكبر.

أما بخصوص المقاومة، فقد حققت إنجازات كبيرة بالرغم من قلة الموارد، وفاجأت الصديق قبل العدو، مما جعلها طرفاً استراتيجياً في المنطقة وزاد ثقلها ودورها، وزادت ثقة حلفائها بها بعد هذه البسالة والإنجازات.

وما يجوب الأوساط الأدبية من حالة وهن، فهي نتيجة للخسائر البشرية والمادية الكبيرة، التي لا يمكن إغفالها أبدًا. ولكن اليوم، ولأول مرة، تقدم هذه الخسائر في سبيل شيء ملموس. فالاعتراف الدولي المتسارع بفلسطين، والقرارات الأممية، والتصعيد العالمي، تثبت أن الفلسطيني أعاد تصدير قضيته وأوصل رسالته بشكل واضح للقريب قبل البعيد.

إنه حقيقة لا يمكن القفز فوقها، لا بالتطبيع ولا بغيره، وأنه لا يمكن الوصول إلى أي شيء دون أن تكون كلمة الفصل له. فالفلسطيني بتضحياته وخبرته واستبساله، ينسج مستقبله ووطنه، الذي ضاع بسبب التخاذل وغيره.

محمود النادي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى